وكانت وزارة الصحة السودانية قد كشفت في وقت سابق عن هجرة 3 آلاف طبيب سنويا،ً 48% منهم من النساء. وأبدى وزير الصحة حينها قلقه من تزايد هجرة الكوادر الصحية، مما يؤثر سلباً في الخدمات الصحية بالسودان، وأقر في نفس الوقت بصعوبة الظروف الاقتصادية، وبأنه لابد من توفير الحد الأدنى من الأجور للأطباء حتى تستقر الكوادر. هجرة أكثر من نصف الأطباء وزارة الصحة كشفت عن هجرة (55%) من الكوادر الصحية خارج البلاد، وهي نسبة تفوق نسبة الكوادر العاملة في السودان، في حين قال مسؤولون أن المملكة العربية السعودية لديها نية التعاقد مع (5) آلاف طبيب سوداني بمستشفيات المملكة، فيما عزا مراقبون هذه الهجرة لانعدام المناخ الذي يساعد على استقرار الأطباء في السودان.
وتعهد النائب الأول لرئيس الجمهورية بتحسين أوضاع الأطباء وأبدى أسفه لهجرة العديد من الأطباء وذلك بقوله: “نأسف لفراق عشرات الآلاف منهم” لكنه وصفهم بسفراء السودان في الدول التي يعملون بها. وقال النائب الأول خلال افتتاح معهد تأهيل الأطباء باتحاد الأطباء السودانيين أن الدولة تعمل على تهيئة أسباب الاستقرار وتجويد العمل للأطباء بالداخل وأعلن موافقته على تجديد المساهمة الوطنية لتخفيف عبء الضرائب على الأطباء وأكد التزام رئاسة الجمهورية بدعم مشاريح اتحاد الأطباء بالإضافة إلى دعم حوافز استقرار الطبيب السوداني بتوفير السكن والسيارات. الحد الأدنى “1000” دولار وطالب اتحاد الأطباء العرب بأن يكون الحد الأدنى لمرتب الطبيب بكافة الدول العربية “1000” دولار مشيرا إلى أن الأمر سيسهم في استقرار الكوادر الطبية والحد من هجرتها.
في إحصاءات حول هجرة الكوادر السودانية قدمها على أحمد دقاش مدير الإدارة العامة للموارد البشرية بوزارة تنمية الموارد البشرية والعمل، للفترة من 2008 وحتى 2012 أبان أن حجم القوى العاملة في السودان حسب التعداد السكاني الخامس بلغ 8 ملايين مقابل 30.1 مليون عدد سكان البلاد ومعدل نمو السكاني (2.4%) وهو أكبر من معدل نمو للقوى العاملة بنسبة (1.3%)، أما العاطلون عن العمل حتى 2008 فتعدادهم بلغ (1.4) مليون بمعدل (16.8%) من حجم القوى العاملة ومعدل نمو المشتغلين (0.9%) بينما معدل نمو العاطلين وصلت نسبته (4.1 %) مما يستدعي حسب قوله: فتح فرص عمل جديدة بالداخل وتجسير الفجوة عن طريق الهجرة والاستفادة من أسواق العمل الخارجية. وكشف دقاش أن عدد المهاجرين السودانيين لكافة الدول في العام 2012 بلغ (94.230) مقابل (10032) في العام 2008 وصاحب تلك الزيادة دخول دول جديدة في قائمة الدول المُستَقبِلة مثل ليبيا وارتفاع النسب في دول كانت معدلات الهجرة إليها منخفضة مثل البحرين وعُمان والكويت، مبيناً أن معدلات الهجرة في المهن التعليمية والصحية في تزايد مستمر إذ بلغ عدد الأطباء في السنوات الخمس الأخيرة (5.028) و(1.002) معظمهم خلال العام 2012.
من جانبه شكك الدكتور الشيخ الصديق بدر، من المرصد القومي للموارد البشرية الصحية، شكك في دقة إحصاءات وزارة الموارد البشرية والعمل في ما يخص أعداد المهاجرين من القطاع الصحي، وكشف في إحصاء أجراه مرصده أن عدد المهاجرين من الأطر الصحية في العام 2012 بلغ (6.590) بحسب مؤشر شهادات الخبرة المستخرجة من وزارة الصحة الاتحادية وبحسب سجلات وكالات الاستقدام. وقال إن الوضع مزعج، إذ تكشف إحصاءاتهم أن أكثر من نصف الأطباء السودانيين يعملون بالخارج مع تزايد معدلات الهجرة وسط الطبيبات والإناث من الأطر الصحية وفي مهنة التمريض تجاه دول الخليج وليبيا.
نزيف نوعي ويواصل الشيخ الصديق قائلا: الجامعات الولائية وحدها فقدت أكثر من ٣٥٠ أستاذاً خلال العام ٢٠١١ مما يعني أن هناك: “نزيفا نوعيا” في الكوادر المدربة بحيث فقدت مستشفى الذره بالخرطوم ١٠٦ من كادرها المدرب بين عامي 2006 ـ ٢٠١١م، وفي ختام ورقته دعا إلى دخول الدولة في تنظيم هجرة الأطر الصحية وتحسين البيئة الداخلية. شبح الاستقطاعات وقال د. خالد عبد عبد العاطي اختصاصي علم الأمراض بجامعة الخرطوم: في الفترة الماضية حدثت هجرة مهولة للأطباء من مختلف التخصصات وتشمل الأطباء العموميين والنواب ولها عدة أسباب منها أسباب رئيسة تتمثل في العائد المادي للعمل حيث أن أغلب الأطباء العموميين وأطباء الامتياز يتقاضون رواتب تتفاوت ما بين 500 ـ 1000 جنيه في حدها الأعلى وتشمل الحوافز والعلاوات وأجور النبطشيات، فالعائد المادي لا يكفي مستلزماته الشخصية من وجبات ومواصلات في حين أن ذات الطبيب يتقاضى في أي دولة أخرى “السعودية مثلا” راتبا في حدود خمسة آلاف ريال كحد أدنى أي ما يعادل بالسوداني قرابة عشرة آلاف جنيه سوداني ويقوم بمجهود أقل، علما بأن نواب الاختصاصيين عليهم الضغط الأكبر لأنهم يقومون بمعظم المجهود الطبي بالمستشفى فهم المسؤولون المباشرون للمرضى في الحوادث وعدد الاختصاصيين قليل ولا يوجدون أغلب الأوقات ويقتصر نشاطهم على المرور الصباحي والعيادة المحولة والعمليات في حالة الجراحة، على أن تكون العمليات مبرمجة وليست عمليات الطوارئ فهذه يقوم بها النواب، الراتب الضئيل لا يسلم من شبح الاستقطاعات لجهات عديدة وبمسميات كثيرة تحت ذات البند؛ مثلا هناك استقطاع يسمي تأمين وشيكان للتأمين وتأمين على الأخطاء الطبية وتأمين صحي بالإضافة لاستقطاع المعاش وأضاف خالد لليوم التالي: العائد المادي لا يتناسب مع متطلبات الطبيب الشخصية ولا يقارن بالمجهود المبذول ولا المؤهل الأكاديمي.بيئة تناقض الصحة وأرجع خالد السبب الرئيس للهجرة ـ بجانب العائد المادي ـ لتردي بيئة العمل وتدهورها ويقول: بيئة العمل بالمستشفيات طاردة للأطباء والمرضى على حد سواء فالطبيب يعمل تحت ظروف قاسية لا تتوفر فيها معينات العمل من أدوات ومعدات وأجهزة طبية حتى النقالات والأسرّة وأجهزة التنفس والأدوية المنقذة للحياة، بجانب عدم توفر أغلب الاحتياجات من فحوصات معملية أو أشعة أو فحوصات دقيقة وإن توفرت تكون بأثمان باهظة لا يستطيع المريض الإيفاء بها.
وأبدى خالد تذمره من عدم وجود استراحات مهيئة بشكل إنساني للأطباء لقضاء احتياجاتهم الشخصية ولا تقدم لهم الوجبات ولا المياه فيضطرون لتناول الوجبات بالأكشاك في بيئة صحية متدنية تتناقض تماما مع القيم والإرشادات الصحية التي يجب أن يقتدي فيها المرضى بالأطباء، بجانب عدم وجود ترحيل للأطباء.. فكل المستشفيات الحكومية لا تقوم بترحيل الأطباء وإن وجد فإنه يقوم بترحيل فئة من العاملين لا تشمل الأطباء فيضطرون للجوء إلى المواصلات العامة التي نادرا ما تتوفر في مواعيد المناوبة والانصراف، وأضاف: الأكثر تأثرا بتردي بيئة العمل هم الأطباء حيث لا يوجد مكان خصوصي لقضاء احتياجاتهم الشخصية بالإضافة لانعدام الحماية للأطباء في أماكن عملهم بحيث يتعرضون للعنف اللفظي والجسدي من المرافقين للمرضى وفي بعض الأحيان من قبل منتسبي القوات النظامية وصارت هذه الأحداث عادية دون إصدار قانون حازم يحمي الطبيب من التعرض للعنف.
غياب التدريب
وأكد أن أحد أسباب الهجرة انعدام فرص التدريب والدراسة حيث أن الابتعاث للخارج تنضوي تحته فئة أطباء تحت التدريب وهم إما أطباء امتياز للوصول للعمومي أو نواب اختصاصيين للوصول لمرتبة الاختصاصي ويجب أن يتم التدريب بشكل علمي وممنهج ومستمر على أن يتم تخصيص وقت محدد وكاف للتدريب وأن يكون المتدربون متفرغين للتدريب تماما.. ولكن ما يحدث الآن أن الأطباء يقومون بتقديم الخدمة للمرضى في المستشفيات في أغلب الأوقات ولا يجدون وقتا للتدريب نتيجة لقلة الساعات المخصصة للتدريب وعدم وجود فرص للابتعاث للخارج، وإن وجدت الفرص فتتم خلف الأبواب المغلقة ولا تتسم بالشفافية والعدالة في معايير الاختيار إنما يخضع الأمر لمعايير سياسية ومحسوبية بحتة، فليس هنالك قانون واضح ولوائح تحدد حجم الفرص للابتعاث والتدريب وشروط نيل الفرص لا تتم بالمؤهلات الأكاديمية أو مؤهلات الخدمة في المؤسسة الصحية.
وأشار خالد إلى أن الهجرة كانت في السابق حصرا على الأطباء فقط لكن في الوقت الراهن زاد عدد الأطباء المهاجرين من الفئتين والموجودون الآن بالسودان إما حديثو التخرج أو اختصاصيون كبار في السن لديهم عائد مادي يغنيهم من الهجرة، وإذا تواصل هذا المنوال فسيستيقظ الناس ويجدون المؤسسات الطبية خاوية على عروشها.. وأكد أنه إذا عاد كل الأطباء المهاجرين فسيظل السودان يحتاج للمزيد من الأطباء حيث أن هناك نقصا حادا في عدد من الاختصاصيين والأطباء العموميين في معظم الولايات، ففي العيادات المحولة ترى كما هائلا من المرضى يفترشون الأرض في انتظار الاختصاصي أو ترى قائمة انتظار العمليات الجراحية حيث يتم إعطاء المريض تاريخا بعيدا جدا لإجراء العملية وهذا تترتب عليه مضاعفات للمريض تصل أحيانا إلى الموت، بجانب أن هناك الكثير من مستشفيات الولايات لا يتوفر فيها اختصاصيون بالعديد من التخصصات وأحيانا يوجد اختصاصي واحد في ولاية بأكملها.
قابضون على الجمر وقال خالد: الأطباء الذين فضلوا البقاء لمساعدة الأهل وذويهم وظلوا قابضين على جمر القضية قاموا بكتابة العديد من المذكرات ورفعها لوزارة الصحة ومن ثم إلى رئاسة الجمهورية وهي مذكرات تحوي مطالب بسيطة تتمثل في تحسين بيئة العمل وتحسين الوضع المادي للطبيب وتقديم العلاج المجاني لغير القادرين بتوفير الأدوية المنقذة للحياة إلا أن تلك المذكرات لم تؤت أكلها ولم تلق الاستجابة من الجهات المسؤولة فاضطر الأطباء للجوء إلى الوقفات الاحتجاجية والتهديد بالإضراب وتم الدخول في إضراب لكنه لم يشمل الحوادث والطوارئ، فطالبتهم وزارة الصحة بفك الإضراب على أن يتم تنفيذ مطالبهم ولكن لم يتم غير صرف مبلغ قليل عبارة عن متأخرات علاوة وتدريب لعدد محدود شمل النواب فقط، وعندما رأى الأطباء أن الإضرابات لن يتأثر بها سوى المواطنين لأن الجهات المسؤولة لن تستجيب حتى لو مات المرضى بالمستشفيات قرروا رفع الإضراب نزولا عند دوافع الإنسانية، وبعد فك الإضراب عادت الأوضاع إلى الأسوأ ونتيجة لكل تلك الأسباب هاجر الأطباء بعد أن يئسوا من إصلاح الوضع الطبي في المؤسسات الصحية ووضع الطبيب في السودان. حيث أن أي أسلوب للفت أنظار المسؤولين القائمين على أمر الصحة سيكون “حرثا في البحر” ويجابه بوسائل أمنية وقمع ولا يفضي في الآخر لمصلحة المواطن.صحيفة اليوم التالي
عرفة وداعة الله
ع.ش