لقد ظلت الهوية على الدوام عاملاً أساسياً في صراعات السودان، وبالنسبة لي فقد ظلت هي الجذر الأعمق لمشاكل بلادنا المزمنة، غير أن الهوية بالرغم من ذلك لا ترد في تحليلنا للصراع، وتبعاً لذلك لا ترد كجزء من الحل.. تلك عبارة جرت على قلم مثقف حجب انتماؤه لليسار العريض كثيرين عن قراءة ما خطه يراعه المترع بالآلام والأوجاع.. إنه الدكتور «الباقر العفيف» حينما يكتب (وجوه خلف الحرب).. تلك هي مواقف من يجلس على الرصيف ويتم تصنيفه معارضاً للنظام، وهو كذلك، ولكنه يبدو أكثر حرصاً على حل معضلات بلاده أكثر من نموذج آخر لقيادي في الدولة ظل حاكماً يتقلب في المناصب والمواقع لمدة (23) عاماً.. تغلب على رؤيته لقضايا بلاده من المنطلقات الذاتية حتى لو تعارضت مع مصالح الجماعة التي يحكم باسمها.. وحينما يقف الرئيس «عمر البشير» أمام أكبر وأهم مؤسسة تشريعية وسياسية في البلاد (البرلمان) ويكشف عن سياسات حكومته القومية وتوجهاتها الخارجية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية، ويطلق دعوة والتزاماً منه بالتفاوض مع قطاع الشمال الذي يحمل السلاح في وجه الدولة، يقف قيادي آخر في المؤتمر الوطني مفسراً خطاب الرئيس بما ينسف كل أركان الخطاب والجديد الذي حواه.. وما القيادي المذكور إلا «عبد الرحمن أبو مدين» الوالي السابق والبرلماني الذي انتخب لتمثيل أحفاد الملك «أبو لكيلك» في الجمعية التأسيسية عام 1986م فهل أحسن تمثيلهم أم مثل بهم؟ والرجل يقول في تصريحات صحافية نشرت يوم الخميس: (رهنت الحكومة استئناف التفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال بأن يغير القطاع اسمه بعيداً عن المسميات المرتبطة بدولة الجنوب، والتخلي عن خطة العمل لإسقاط النظام)، وأكد «عبد الرحمن أبو مدين» عضو وفد الحكومة للمفاوضات إن الحكومة لن تفاوض «ياسر عرمان» ولا حتى قطاع الشمال، منوهاً إلى أن المقصودين بالتفاوض هم أبناء المنطقتين الذين يحملون السلاح، وأضاف: (حتى «عقار» لن نقبل الجلوس معه بصفته رئيساً لقطاع الشمال وإنما نفاوضه كابن من أبناء النيل الأزرق).. يأتي إلينا السيد «أبو مدين» بتفسير لما (استشكل) علينا نحن السودانيين العاجزين عن فهم خطاب رئيسنا، ولكن «أبو مدين» يسعفنا بذكائه وحسن قراءته وعلمه الراسخ في التفاسير والتأويل لما يقوله رئيس السودان لشعب لا يفهم ما يقال له!!
إذا كان السيد «أبو مدين»، الذي يفترض أن يطرب في دواخله وتنفرج أساريره وتمتلئ جوانحه شوقاً للسلام، ويقبل على مواقف الحكومة الجديدة بالدعم والتأييد، لأنها مواقف من شأنها إنقاذ أهله من محرقة حرب ضروس (فرقت) بين الزوجين وأهلكت الحرث والنسل وشردت النساء قبل الرجال، يقف (عارياً) أمام الشعب ويمتطي قطار الواقفين في صف الحرب والراهنين قضايا البلاد في أعناق الأشخاص، فلا نملك إلا إهداء «أبو مدين» وآخرين من أمثاله رسالة وردت للكاتب من الفريق «محمد بشير سليمان» نائب رئيس الأركان السابق للقوات المسلحة.. والفريق «محمد بشير» مثال لمن خاض غمار الحروب وتلظى بنارها، وحمل شأن التنظيم الإسلامي وهناً على وهن حتى استوى سلطة وسلطنة وممالك ينعق في ساريتها من ينفخ في كير الحرب، قال الفريق «محمد بشير سليمان» في رسالته: (من لم يخض الحرب ويعش سوءاتها، ويشاهد قذارتها، ويدرك معاناة النساء والأطفال بسببها، ويستوعب مهدداتها للأمن الوطني وانعكاساتها على الوحدة الوطنية، ومن يسعده كل ذلك دون وخز الضمير الوطني وكل ما يهمه أن يصرف راتبه وحوافزه وغير ذلك من مخصصات مع أحدث موديلات السيارات، ألا يجوز أن نطلق عليه خائناً وطنياً ومجرم حرب؟!) يا لها من عبارات قاسية في حق من هم أدمنوا الوقوف بأبواب السلاطين مادحين خطاياهم، ومفسرين حتى النوايا الحسنة بأخرى شريرة.. وضاربين طبول الحروب ليموت الآخرون وينعمون هم على حساب شعب (تعيس الحال) سحقته الحروب والمعاناة.. فلا عجب أن يفسر «أبو مدين» أقوال الرئيس ويجيرها كما يريد ويسعى، ولكن عبر التاريخ تحدثنا عن مقتل «عمر ابن عبد العزيز» بواسطة أهله وعشيرته رغم عدله الذي تضرب به الأمثال، ولم يمكث «عمر بن عبد العزيز» في السلطة إلا ثلاث سنوات فقط، ليأتي من بعده حاكم ضخم لبني أمية «عبد الملك ابن مروان»، وكان «عبد الملك» فقيهاً مفسراً للقرآن ولكن شكا الناس في حقبته من المسغبة والجوع والفقر وتنازع القبائل وأفخاذ الدولة، فخلع ليأتي «أبو جعفر المنصور» المفكر والمثقف الذي قام بتأليف وكتابة (موطأ الإمام مالك).. والمشير «البشير» ساءه جداً تطاول الحرب في عهده، وبذل العفو والصفح، وأبدى استعداده النفسي والوجداني للتفاوض مع قطاع الشمال، لكن قطاع الطرق السياسية في حكومته لهم آراء أخرى.
{ مع من التفاوض؟
كلما لاحت في الأفق بوادر تسوية لأزمة الحرب، طُرح سؤال مَن يفاوض مَن؟ وتبدأ المغالطات على طريقة رجل كان قد أسند إليه ملف التفاوض فطفق يضع العراقيل والشروط، ويباهي ويفتخر بأنه لن يصافح بيديه الطاهرتين أيدي ملوثة بالدنس والأرجاس.. رجل متعالٍ في نفسه يحتقر الآخرين، ولو كانوا من داخل حزبه، لكنهم يخالفونه الرأي، فالدكتور «كمال عبيد» يقول مثلما يقول «أبو مدين» اليوم لن نفاوض قطاع الشمال، ولا نعترف بالحركة الشعبية، ولا نقبل بالجلوس مع «ياسر عرمان» و»عبد العزيز الحلو»، لأن الأول من الجعليين بالجزيرة والثاني من دار المساليت في أقصى غرب السودان، وإنه يذهب فقط لحوار أبناء النوبة وجنوب كردفان.. ومن يصغي لما يقوله «كمال عبيد» ربما ظن- وبعض الظن إثم- أن شهادة بحثه الشخصية تجعله من سكان طروجي ومن النوبة المورو.. والتقسيم العرقي لحاملي السلاح منهج شديد الاعتدال والخطل، والحوار في مبدئه ومنتهاه ما بين النقائض لا المتشابهات، فالإنسان يفاوض ويحاور نقيضه في الفكرة والمشروع، وخلق الله الناس بِيضاً وسوداً وما بينهما.. عجماً وعرباً.. ومنح الإنسان العقل لكبح جماح الشر في نفسه.. ولا ينهض حوار بين الإنسان ونفسه، وإلا أضحت مناجاة.. وفي الشأن الوطني، ومن أجل الحفاظ على النفس البشرية كأغلى ما في الأرض ودرء مخاطر الحرب، قسم «محمد علي جناح» مؤسس الدولة الباكستانية بلاده إلى دولتين.. ومن أجل السلام نفسه، أقبلت الإنقاذ على القبول بحق تقرير المصير لجنوب السودان وهي تدرك أن أية أقلية في قطر ما سنحت لها فرصة الاختيار ما بين الانفصال والاندماج في الدولة الأم اختارت الانفصال إلا مثالاً وحيداً في التاريخ له شروط وخصائصه التي جعلته يبقى ضمن الدولة الأم.
أن تختار الحركة الشعبية اسماً لها ذا ارتباط بدولة أخرى، فالحزب الوطني الاتحادي أعرق أحزاب السودان اختار الاتحاد مع مصر، وكلمة اتحادي ترمز لذلك، فلماذا لا يطعن السيد «أبو مدين» ومن شايعه في المملكة ويتم حظر الحزب حتى يستبدل اسمه المرتبط بدولة أجنبية هي مصر الدولة التي لا تربطنا معها مصالح ولا وشائج قربى مثل أخوتنا في الجنوب؟؟ وإذا كان للنوبة كمجموعة قبلية أو جنوب كردفان كرقعة جغرافية والنيل الأزرق قضايا تظلمات تاريخية ونقص في التنمية وتمثيل ضعيف في السلطة، مضافة إليها قضايا الهوية الثقافية وكيفية التعبير عن جماع الهويات الصغيرة التي تشكل هوية كبيرة جامعة للوطن، وقد عدّ د. «الباقر العفيف» أن الاتفاقيات التي يتم التوصل إليها بين الحكومة والمتمردين تجاهلت أصل المشكلة وهي قضية الهويات، وإذا حمل واحد من السياسيين قضايا المنطقة وضحى في سبيلها لأجندته الخاصة أو كان صادقاً في التعبير عن تظلمات تلك المنطقة، فبأي حق نرفض اختيار النوبة لمن يمثلهم؟ وقد ظل الراحل الشيخ «الأصم» والد الدكتور «مختار الأصم» يمثل دائرة كادوقلي الجنوبية في البرلمانات المتعاقبة على السودان.. وذهب «عبد الله خليل» إلى دارفور لينوب عن سكان أم كدادة في الجمعية التأسيسية.. فكيف في العصر الحديث هذا نطالب الحركة الشعبية ونفرض عليها أن يمثلها في التفاوض (فلان) وإقصاء (علان) عن الوفد المفاوض؟؟ وهل من المصلحة الوطنية أن تصبح الحركة الشعبية قطاع الشمال- أو الجبهة الثورية- حزباً قومياً لكل أبناء السودان؟ أم ينكفئ على نفسه ويتقمص روح الحزب العرقي أو الجهوي الذي يضم في عضويته قبائل بعينها؟ وهل واجب الدولة وليس الحكومة تشجيع الأحزاب على المناهج القومية والبرامج القومية والعضوية القومية أم إرغامها على الانكفاء على الذات والتعبير الصارخ عن القبائل والجهات؟؟
وقديماً يحدثنا التاريخ عن طفل جاء في معية سيدة من بلاد أرمينيا الحالية، ودرس الفقه والعلوم الشرعية في بلاد التين والزيتون تونس الخضراء، وارتقى إلى مرتبة قاضي القضاة في تونس ثم أصبح كاتب الدولة، أي رئيس الوزراء، وهو مثقف ومؤرخ وفقيه.. إنه «خير الدين التونسي» صاحب سفر خالد في التاريخ كتاب (عجائب الأمصار وغرائب الأسفار)، واليوم يحكم الولايات المتحدة الأمريكية زنجي وفد من كينيا.. إنه الرئيس «أوباما» رغم محدودية ثقافته وضعف قدراته إلى حد وصفه من قبل كاتب مثل «جوزيف إيدن» في كتابه ذائع الصيت (الرقص في حوض البط) الصادر العام الماضي، حيث وصف «أوباما» بالقزم مقارنة برؤساء كبار جلسوا على كرسي حكم أكبر دولة في العالم.. لكن الولايات المتحدة اختارت التعبير عن عزمها وضع حقبة التميز العنصري ودلالاتها وراء ظهرها والتعافي النفسي عن مرض العنصرية، وخير شاهد ودليل على ذلك اختيارها رئيساً أسود.. وممثلة الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة وفدت مع والدها من أيرلندا في عام 1993م وهي طالبة حينذاك، والآن أصبحت ممثلة لبلد لم تولد في أرضها ولكنها حملت جنسيتها وأصبحت مدافعة عنها.. ونحن هنا نردد حديثاً غير ذي جدوى.. «عرمان» لا يمثل أبناء وطنه من النوبة، ونبحث عن استخراج شهادة بحث قبلية لـ»عبد العزيز الحلو» وتلك من المضحكات المبكيات، وما أكثر ما يبكي المرء في وطنه، وما أقل أسباب الضحك بعد أن توطنت الحرب.. وهي التي تهدد سكانه بالفناء.
{ حرب بلا منتصر
الآن انصرم العام الثاني والحرب في المنطقتين لم تراوح مكانها ودروب الحل مسدودة، وينوب عن أهل المنطقة آخرون يتحدثون عن شروط للتفاوض ومطلوبات، والحرب الأهلية في كل العالم لا تنتهي بانتصار طرف على الآخر، وهو انتصار- لو تحقق- لا يشرف أهل السودان ولا حكومتهم، والانتصار الحقيقي على العدو الخارجي، لكن الانتصار على المواطنين ليست له قيمة ولا ينبغي أن يحتفي به إلا ذوي العاهات النفسية.. ومهما نجحت الدولة في تحجيم قدرات التمرد وضرب معاقله فإن القضايا السياسية لا تموت.. هناك إنسان يشعر بالظلم ويشعر بنقص التنمية والثمرات ويتطلع إلى دولة يجد فيها نفسه.. مثل هذا الإنسان لو بقي واحد يحمل بندقيته في جبل قصي فلنسعى إليه ونحادثه لحل مشكلته، لأن الحرب لا تحسم قضية، والبندقية خسائرها فادحة.. ولكن من يحدث أمثال النائب البرلماني السابق والوالي الهمام «عبد الرحمن أبو مدين» أن الحكمة لا الحكم ما يرفع أقدار الرجال؟! وبعضنا في السلطة والمعارضة يقرأ يومياً أبيات لـ»ناظم حكمت» تقول:
فإن لم احترق أنا
وإن لم تحترق أنت
وإن لم نحترق كلنا
كيف يمكن للظلمات أن
تصبح ضياءً..
وهي أبيات أقرب إلى أهزوجة المجاهدين من شباب الحركة الإسلامية (لا لدنيا قد عملنا.. نحن للدين فداء.. فليعد للدين مجده أو ترق منا الدماء أو ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء).. لكن إراقة الدماء ليست عقيدة في أصل الدين الإسلامي، وقد أسس الرسول (صلى الله عليه وسلم) لدولة السماحة والمواطنة والعدالة حينما قال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).. فكيف نجعل من دخل السودان آمناً؟؟
صحيفة المجهر السياسي