وإذا نظرنا بصفة عامة وجدنا أن الفساد لم يستشر في أنظمة الحكم السودانية، إذ خرج الفريق عبود من الحكم وهو مدين للبنك الزراعي بخمسة آلاف جنيه، وخرج الرئيس النميري وهو لا يملك ما يعالج به نفسه في الولايات المتحدة، ولكن ذلك لا يعني أنه لم تكن هناك حالات فساد ،ولكنها كانت محدودة جدا إذا ما قورنت بما حدث في بلاد عربية وغير عربية أخرى.
ويبقى السؤال المهم هو، لماذا كانت هناك أنظمة عسكرية ولم يتخذ الحكم صورة مدنية خالصة ؟
والإجابة بكل بساطة هي أن الدولة الحديثة لم تتبلور على شكل واضح في السودان، وما رأيناه في بدء عهد الاستقلال لم يكن صورة صحيحة لما يجب أن يكون عليه مستقبل البلاد، فقد رأينا المشهد في ذلك الوقت ينحصر في الحزب الوطني الاتحادي وحزب الاتحاد الوطني وحزب الشعب الديموقرطي وحزب الأمة، وقد أسست الأحزاب الثلاثة الأولى نفسها على طائفة الختمية بزعامة السيد على الميرغني، كما أسس حزب الأمة نفسه على طائفة الأنصار، وهم المجموعة التي ساندت الإمام المهدي في حربه ضد الحكم التركي وكان موطنها في غرب السودان. وقد فشلت جميع هذه الأحزاب في أن تؤسس نظاما ديموقراطيا حقيقيا في البلاد، وكان ظهور الأنظمة العسكرية بسبب هذا الفشل والإخفاق، ولكن الأنظمة العسكرية في مجملها انشغلت بمشكلات الحكم ولم تستطع أن تؤسس النظام الذي تبنى عليه الدولة الحديثة. ونرى أن التحدي الرئيسي الذي واجه ويواجه هذه الأنظمة هو تحدي الانشقاقات الجهوية التي أدت في أول الأمر إلى إقامة دولة الجنوب، وهي توجد مشاكل مماثلة في منطقتي أبيي والنيل الأزرق. وأيضا في دارفور، وكل هذه الانشقاقات الجهوية تريد الوصول إلى الحكم دون أن تفكر في الواقع العملي للبلد الذي تعيش فيه.
وكنت من قبل قد ذكرت أن السودان بلد يخضع لوحدة جغرافية وليست سياسية، وهذه هي الحقيقة التي أدركها محمد علي باشا مؤسس السودان في عام 1820 والمقصود بالوحدة الجغرافية هو أن كل أقاليم السودان ترتبط في كيان جغرافي واحد، وقد اتضح ذلك حين انفصل جنوب السودان، إذ وجد الجنوبيون أنفسهم غير قادرين على تصدير نفطهم دون الوصول إلى اتفاق مع شمال السودان، وستواجه جميع أقاليم السودان المنتفضة هذا الواقع بكون المنفذ الوحيد لها إلى الخارج هو عن طريق شمال السودان أو شرقه، وبدون ذلك فإن المنفذ الآخر هو عبر دول أخرى مجاورة، وعند ذلك يواجه أهل تلك الأقاليم مشكلة جديدة، ولا يعني ما ذهبنا إليه أنه لا توجد خلافات ثقافية أو إثنية بين مواطني الأقاليم في السودان، فمثل هذه الاختلافات موجودة ولكن السودان ليس نسيج وحده في هذا العالم إذ هذه الاختلافات موجودة في كل بلاد الدنيا وتعالج بطرق مختلفة، وبالنسبة للسودان فإن أفضل الطرق لمعالجتها هي الحكم الذاتي، وذلك ما اتبعه الانكليز في حكم السودان عندما قسموا البلد إلى ثماني مديريات، في كل واحدة منها إدارة خاصة تحت حكم مدير خاص
ولا شك أن السودان يواجه في هذه الأيام ظروفا صعبة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي انطلقت في عدد من البلاد العربية وأحدثت تغييرات مهمة فيها، ولكن المسؤولين في السودان قالوا إن بلادهم بعيدة مما حدث في العالم العربي، ولكن التظاهرات الأخيرة بسبب رفع الدعم عن المحروقات وارتفاع أسعار الخبز وغير تلك من الأمور التي تهم الشعب السوداني جعلت الكثيرين يقولون إن السودان ليس بعيدا عما حدث في العالم العربي لأن المسألة تتعلق في نهاية الأمر بمصالح الشعب المباشرة بكون الجماهير قد لا تتحرك في الأمور التي تتعلق بالسياسات العليا، ولكن بمجرد أن تؤثر قرارات الحكومة في مستوى حياة الناس فإنهم يكونون مضطرين للخروج دفاعا عن مصالحهم. وذلك ما حدث في السودان وما شعرت به بعض القيادات في حزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة الدكتور غازي صلاح الدين الذي تقدم بمذكرة لإصلاح نظام الحزب الوطني الحاكم وكانت النتيجة أن أبعد من الحزب، فقرر هو وأتباعه تكوين تنظيم سياسي أو حزب جديد لا يعتمد على قاعدة شعبية في الوقت الحاضر، ولكن غازي يتطلع إلى أن تلتف حوله الجماهير، ولا شك أن ما ذهب إليه غازي صلاح الدين بعيد عن واقع الإصلاح الحقيقي، فقد يكون الدكتور غازي قد شعر بأن هناك خللا في إدارة الأمور في البلاد، ولكن الحل ليس هو تأسيس حزب إصلاحي يقوم مقام الحزب الوطني، ذلك أن الأحزاب إنما تؤسس في داخل النظم الديموقراطية، وقد شرحنا من قبل الأسس التي تقوم عليها نظم الحكم في السودان، وبذلك يكون ما يحتاجه الإصلاح هو البدء في التفكير النظري لتأسيس نظام يستوعب كل الاتجاهات، وكل الأقاليم في بنية حضارية ومدنية حديثة، وبدون ذلك فسوف يكون الحكم تداولا بين قوى فشلت في إدارة نظام الدولة وقوى تمردت عليها ولكنها لم تستطع أن تقدم في نهاية الأمر ما هو مطلوب منها. وهنا لا بد أن تبدأ مرحلة من التفكير تستعرض كل ما حدث في البلاد منذ استقلالها، وتتساءل لماذا لم يتحقق ما يريده الناس ويتطلع إليه الشعب؟ ولا تكون الإجابة من بين السياسيين وحدهم لأن هؤلاء لا يسعون إلى شيء غير السلطة، بل يجب أن يطرح الأمر على المفكرين لكي يدلوا بدولهم في ما يمكن أن يطلق عليه ثورة التصحيح التي لن يكون الأمر بدونها سوى اجترار للتجارب السابقة.
ويجب هنا أن ننبه إلى أن التغيير لا يحدث إلا بالتفكير، والتفكير قد لا يكون في كل الظروف متوافقا مع رأي السلطة الحاكمة، ولكن مواجهة التفكير لا تكون بالعنف والسجن والأحكام الجائرة، وهذا أمر يحدث بصورة مستمرة في هذه الأيام ويلاحظ في إغلاق الصحف وملاحقة الصحافيين وتوجيه التهم لأصحاب الآراء المخالفة بل وتقديمهم إلى المحاكمات الجائرة، فلماذا يحدث ذلك، ونعلم جميعا أن الكلمات المكتوبة لا تقتل أحدا؟ كما نعلم أن كل فرد يكتب رأيا مخالفا يكتبه بحسن نية؟ وقد يكون كلامه خطأ يحتمل الصواب في نظر الكثيرين وقد يكون عكس ذلك، والمهم أن تكون هناك مساحة للاحتمال حتى تستفيد البلاد من آراء كل أبنائها في جو ديموقراطي يتسم بالحرية، ولا شك أن قبول الرأي الأخر يوفر مساحة للتآلف بين أبناء الوطن حتى لو كان البعض معارضين لنظام الحكم لأنه على الأقل فهم يستطيعون التعبير عن آرائهم في جو من الحرية وقد يكتشف الآخرون صحة تلك الآراء في مرحلة لاحقة.
وفي النهاية نقول إن ما طرحه غازي صلاح الدين لا يمكن أن يكون إصلاحا للنظام وإنما هو محاولة للاستمرار بالنظام بأسلوب آخر وذلك ما لن يضع حدا للمشاكل والاختلافات التي تنعكس ضررا على المواطنين.
القدس العربي
[/JUSTIFY]