لا أحد يدري إذا كان بوش الذي وضع الكتاب فوق طاولته قد قرأ الكتاب، لكن الثابت أن استقباله المؤلفة وعرضه الكتاب أمام الصحافيين، كان له أثر واضح على ارتفاع مبيعاته، حيث يتصدر حالياً مبيعات موقع »أمازون« بسعر25 دولاراً. أما حليمة، فبعد ذلك المؤتمر الصحافي، لم يظهر لها أثر. تتوسط غلاف الكتاب صورة سيدة سمراء يغطي ثوبٌ أجزاءً كبيرة من وجهها، حيث تظهر فقط عيناها، لكن لا توجد إشارة إلى أنها هي حليمة بشير. عنوان الكتاب »دموع في الصحراء«، مع عنوان فرعي »مذكرات شخص من دارفور على قيد الحياة«. الكتاب من تأليف حليمة بشير والصحافي البريطاني داميان لويس. روت حليمة قصتها لهذا الصحافي الذي سبق أن كتب كتاباً آخر عن السودان بعنوان »العبدة«. نقرأ في الغلاف الخلفي أن حليمة بشير »تعيش مع زوجها وابنها في إنجلترا، حيث تواصل الحديث عن العنف في السودان«. أما داميان لويس فإنه »أمضى العشرين سنة الأخيرة يكتب من مناطق الحروب في إفريقيا، مع تركيز وتخصص في السودان. نالت تقاريره من دارفور جائزة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). وهو حائز على جائزة أفضل كتاب يحقق مبيعات على المستوى العالمي، وهو كتاب (العبدة)، حيث نال جائزة الكتاب (سي بي إيه ).
أهدت المؤلفة الكتاب إلى »مو« و»راز«، والواضح أنهما اسمان رمزيان. وكذلك إلى »المحبوب والدي الذي يرقد في سلام«. وبعد صفحة الإهداء مثَل سوداني يقول: »استعِن بعبد لقتل أي عبد«. من الواضح أن هذا المثل من اختراع الكاتبة، أو الصحافي الذي تولى صياغة الكتاب، إذ لا يوجد في الذاكرة السودانية مثل هذا المثل.
وتؤكد حليمة أن »قصة الكتاب حقيقية، وقعت أحداثها بين تاريخ ميلادي عام 1979 والوقت الحاضر«. وتشير إلى أن الحروب في السودان ظلت لعقود. وتَعرّض مواطنو دارفور بصفة خاصّة لتدمير كبير. وقالت إنها استبدلت أسماء بعض الناس والأماكن، لحماية أسر وأصدقاء ومجموعات. »إنني على يقين أن الأمر لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح، لإدراك مدى أهمية وضرورة هذه التعديلات«. تقول في كتابها: »كنت أغنّي همساً بأهزوجة لطفلي الصغير. كان الطفل يتأرجح فوق ذراعي. كان ضجيج حركة المرور في لندن يأتي عبر نافذة الشقة. نحن هنا نشعر بالأمان، أنا وهو. هذه المعجزة الناعسة أضمها، وحالة فرح ذابل في دواخلي. في أثناء غنائي، وداخل عقلي، انتقلت إلى وطني، إلى وطني إفريقيا».
من خلال فصول الكتاب سنعرف أن حليمة بشير تنتمي إلى قبائل الزغاوة، تقول حليمة بشير في الفصل الثالث من الكتاب »تُعرف قبيلة الزغاوة بنزعتها الاستقلالية وروحها القتالية واعتزازها القوي بهويتها. ينتشر شعبنا (الزغاوة) على جانبَي الحدود السودانية التشادية، وفي ما يُعرف اليوم بدارفور. لكن لقرون كانت تشكل مملكة أفريقية قديمة هي مملكة كانام، وهي أرض شاسعة كان يحكمها قادة الزغاوة، وخلال تلك الفترة بقيت لغتنا هي لغة التواصل الشفوية.
جرت أول محاولة لكتابة هذه اللغة عام 1986، عندما قام باحث باستعمال الرموز التي يضعها الزغاوة على مواشيهم (كيّ الأبقار) لتكوين أبجدية. اليوم لكل قبيلة من قبائل الزغاوة (وهي: الطواهير وكوبا والبديات) لهجتها الخاصة بها. اللهجة التي كنت أتحدث بها وأنا طفلة صغيرة قريبة من لهجة الزغاوة كوبا، لأن جدتي منحدرة من هذا الفرع».
تتطرق حليمة بشير، في الفصلين السادس والسابع، لوقائع أيامها في المدرسة. وتشير إلى أن المدرسين كانوا خليطاً من الأفارقة ، كما هو الشأن بالنسبة إلى التلاميذ».
في الفصل الثامن تتوقف حليمة عند المجاعة التي ضربت دارفور في بداية الثمانينات، وهي المجاعة التي حاول نظام جعفر نميري التستر عليها، وكانت حكومته تقول إنها مجرد »فجوة غذائية«. تقول حليمة »اعتادت جدتي أن تحكي لنا قصة فترة المجاعة الكبيرة. في البداية هطلت الأمطار، ثم جاء بعد ذلك الجراد في أسراب كبيرة حجبت قرص الشمس. حدث ذلك في الفترة التي كان فيها رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة. جاء موظفو المساعدات الأميركية إلى القرية في قافلة شاحنات، يحملون معهم المساعدات الغذائية. وقامت الطائرات الأميركية بإسقاط أكياس الدقيق. كان الأطفال يرقصون حول تلك الأكياس ويشيرون إلى السماء ويغنون: (ريغان.. ريغان.. جاء). كانت جدتي تحذرني من أننا لا نعرف متى ستأتي المجاعة المقبلة، لذلك علينا المحافظة على الأكل وأن لا نبدده».
تتحدث حليمة بشير في الفصل الحادي عشر عن حلمها أن تدرس الطب لتصبح طبيبة، وتقول إن ذلك كان يتطلب أن تحصل على نقاط ممتازة في نهاية دراستها الثانوية. واجتهدت من أجل هذا الهدف. وتقول عن يوم إعلان نتائج المرحلة الثانوية »أُعلنت نتائج الامتحانات في البداية من طرف وزارة التعليم، ونقل ذلك التلفزيون الوطني، حيث أعلن عن أسماء الطلاب الذين نالوا المراتب الأولى حتى المرتبة 30. لم أكن من بينهم. جميعهم كانوا يتابعون دراستهم في مدارس الخرطوم. ذهبت إلى المدرسة وانضممت إلى صديقاتي ننتظر ناظر المدرسة. فور أن رأيناه اندفعنا نحوه وتوسلنا إليه أن يخبرنا بنتائجنا، لكنه تجاهلنا وقال غاضباً (جميعكم فشلتم)، وأضاف (اثنتان فقط نجحتا، الباقون فشلوا).
وقفنا قبالة الناظر في ملعب المدرسة. أعلن أولا اسم الطالبة التي نالت أعلى النقاط: (إنها رابحة)، واحدة من الطالبات العربيات الذكيات. حصلت على نسبة 89 بالمائة. بعد ذلك شعرت بالقلق. أصبح قلبي شديد الخفقان، ونحن ننتظر أن نسمع الاسم الثاني، وكلي أمل أن يكون اسمي. قال الناظر: (الثانية التي حصلت على معدل 88 بالمائة، حليمة بشير)».
تتناول حليمة بشير بعد ذلك رحلتها من قريتها إلى الخرطوم لدراسة الطب، حيث استعملت شاحنة ثم القطار، حتى وصلت مع والدها إلى الخرطوم. في الجامعة سيُجرِي لها شخص – أطلقت عليه اسم الدكتور عمر – المعاينة، قالت إن ملامحه إفريقية وعربية، سألها لماذا اختارت أن تدرس الطب، فأشارت إلى أنها تريد أن تكون أول طبيبة في منطقتها تنتمي إلى قبيلة الزغاوة كوبا.
تخرجت حليمة في كلية الطب، وعادت إلى قريتها لتنشغل بعلاج القرويين، حتى تصلها رسالة التعيين في أحد مستشفيات دارفور كطبيبة امتياز، حيث كانت تعالج ضحايا القتال من الجانبين. تقول حليمة إن سمعتها كطبيبة أفريقية شابة ساعدت على أن يطلب قرويون جرحى مساعدتها، وهم في الغالب كانوا ضحايا القتال بين أطراف النزاع في دارفور. وتشير إلى أنها كانت تتحدث مع جرحى قبيلة الزغاوة، ولا يستطيع الآخرون فهم ما تقول. خلال عملها في مستشفى »حشمة«، تعرّضت حليمة بشير للتوقيف بتهمة الحديث مع الصحافة، وأجبرتها السلطات على التوقيع على أوراق تلزمها بعدم »الحديث عن أي شيء«، وبعد فترة سيخبرها أحد المسؤولين في المستشفى بأنه تقرر نقلها إلى قرية مسخباد النائية في شمال دارفور. هناك ستشرع في علاج مقاتلين من قبيلة الزغاوة كان يأتون عندها ليلا في منزل إحدى الأسر. في مسخباد ستكون حليمة بشير، طبقاً لروايتها، شاهدةً على عملية هجوم قامت بها ميليشيات الجنجويد، ضد مدرسة للبنات، حيث تعرض بعضهن للضرب مع مدرّستهن.
في الفصل العشرين من الكتاب، تتحدث حليمة بشير عن أكثر اللحظات دراماتيكية بعد توقيفها.
تتحدث حليمة بشير بعد ذلك عن عودتها إلى القرية، ثم اقتراح والدها لها بالزواج، وتقرر أن تقول للزوج كل ما حدث لها. بعد خمسة أشهر من عودتها من مسخباد، هاجمت ميليشيات الجنجويد قريتها. واضطُرّت إلى الانتقال مع أسرتها إلى معسكر نازحين، ومن هناك، وبمساعدة أوروبيين، تمكنت من مغادرة دارفور، بل السودان برمته، إلى دبي، ومنها إلى لندن، وفي مايو من ذلك العام، استطاعت هي وأسرتها الحصول على اللجوء السياسي في بريطانيا
المصدر: الشرق الأوسط [/ALIGN]