نعم إنه مستشفى العيون العريق الذي يحمل إسم (عبد الفضيل الماظ) والقابع على ضفة النيل الأزرق عند الخرطوم على مقربة من الجسر الحديدي الذي يربط الخرطوم ببحري، ليكوّن مستشفى العيون مع (الكوبري) العتيق وجامعة الخرطوم ثلاثية تأبى الإنفصام والإنفصال، وأول بشريات المرضى بنجاح عملياتهم الجراحية في هذا المستشفى أن يستطيع المريض مشاهدة الكوبري العتيق من داخل المستشفى.
وحسب الإحصائيات الرسمية بوزارة الصحة الاتحادية فإن أكثر من (500.000) شخص يعانون من العمى وأمراض العيون المزمنة، كما أن هناك أكثر من مليوني عين مصابة بما يعرف بمرض المياه البيضاء، وأغلب هذه الحالات تحتاج بصورة فعلية الى تدخل جراحي.
والشاهد أن هناك نحو (60) ألف عمليّة جراحية يتم إجراءها في السنة، كما يوجد أكثر من (22) مليون شخص مهدد بالإصابة بالعمى بسبب (التراكوما)، الى جانب أن أكثر من (70.000) شخص يعانون من مضاعفات أمراض تتعلق بالعيون، وأكثر من (4) ملايين شخص معرضون للإصابة بمرض عمى الأنهار، علاوة على أكثر من (40.000) طفل مصاب بصورة فعلية بالعمى.
رغم كل ذلك فإن هذا المستشفى العتيق قد أصبح مهددا بالبيع بالمزاد العلني، إذ لم تشفع له تلكم الخدمات الجليلة التي ظل يقدمها، وذلكم الجهد الوافر من الإبداعات الطبية التي توارثها بفعل التراكم والتخصص، لكننا رغم ذلك لا نعترض على مسألة البيع في حد ذاتها لأن هناك أسبابا متداخلة يمكن أن تكون هي التي قادت الى مثل هذا القرار، لكن مقتضى الحال يتطلب أن يكون البديل قد شيدّ فعلا وأصبح واقعا يستوعب الحال وبمواصفات تفوق ما كان عليه المستشفى المراد بيعه.
فمن شيّد تلكم المستشفى في السابق، قد بناه من خلال رؤيته للمشهد والظروف في تلكم الحقبة، لكن أواننا هذا مختلف كلية عن ذلكم الزمان، وإعداد المستشفى الجديد أمر مقدم على أمر الإزالة أو البيع، ذلك أن البيع دون وجود الرؤية الجديدة يعتبر خصما على العملية الصحية بكلياتها، مهما كان المبرر لذلك والذي عرفنا أنه يقول : أن المستشفى ظل قوميا ولابد للولايات من أن تستقل بمستشفياتها الخاصة، لكن هذا الأمر لم ولن يكون الآن وفق الظروف الإقتصادية التي تمر بها البلاد، مما يجعل الصحة مقدمة على ماسواها.
ندرك دفوع وحجج ومرادات المنادين ببيع المستشفى المبنية على معطيات إقتصادية استثمارية آجله وعاجلة، وندرك أن قيمة الأرض التي عليها المستشفى قادرة على تشييد عدة مستشفيات بدلا من مستشفى واحد يضيق بالمرضى القادمين من مناحي السودان المختلفة، لكننا الآن أمام مستشفى شاخص يقوم بسد ثغرة في جدار سوداننا الحبيب ولعلها ثغرة عيوننا التي نرى بها الأشياء، وبيع المستشفى تعني أنهم يريدون أن يبيعوا عيوننا، فهل نبيع آجلنا بعاجلنا ونحن أمام عيون تبحث عن الضوء في وطن ظلت المستشفيات المخصصة فيه على قلتها تعاني مما تعاني.
لكن ما إنتهى إلينا أن الهيئة النقابية وجل الأطباء العاملين والكوادر الطبية في المستشفى يعترضون على بيعه لإحساسهم بأن هناك ضررا بليغا سيحيق بأهلنا وبهم، ونعلم أن همهم الوطني يغلب على همهم الخاص، وعملية البيع بدأت واضحة الملامح وأصبحت تلوح في الأفق عبر الخطاب المرسل إليهم من قبل وزارة التخطيط العمراني بولاية الخرطوم طالبة فيه السماح للجنة الفنية بمعاينة المكان لإدراجه في خطة البيع.
ويبقي السؤال الكبيرهو: (ماهو البديل)؟؟.. وكأن أمر البيع هذا قد اصبح واقعا عاجلا بثمن آجل، ولا تلوح في الأفق لهذا الأجل صورة يتشبث بها الناس، بل لا توجد هناك بارقة أمل في سماوات الواقع كمعالجات مناسبة، إلا ما كان رتقا لفتق صنعناه بأيدينا.
خاصة وأننا نعلم ونشهد أن العاصمة قد تكدست بأرتال من المباني ولم يعد فيها متنفسات تلبي مثل هذه المتطلبات الحساسة والعاجلة فكل معالجاتنا إرتجالية لا تستند على رؤية تخطيطية مدروسة رغم محاولات الولاية لذلك، فالمستشفى مؤسسة يجب أن تكون في منطقة تلبي حاجة الناس مع سهولة الوصول إليها، دون نصب أو تعب أو مغالبة.
لأن أغلب مرتاديها هم أهل علة وشكوى وبلوى، وأهل العلة أصلا معلولون، وفي الغالب الأعم هم من كبار السن الذين يغالبون الحركة ويستعينون بمطايا المعرفة والسهولة لإستدراك حاجياتهم، الى جانب أنهم يأتون من فجاج الوطن الكبير الى سعة الدنيا من خلال النظر إليها وإستعادة الأمل، في رحلة من الظلام الى النور.
وأهل الهم من الأطباء والعاملين من الكوادر الطبية يتمسكون ويتشبثون بالمستشفى العريق رغم قدم مبانيه ورغم أجهزته المتواضعة، فقط لأن المستشفى يقدم خدمات كبيرة للمواطنين، حيث يقوم بعمليات جراحية متعددة، من بينها عمليات حساسة (مجانية) يجريها فريق من الأطباء الأتراك، والذي تحوّل إليه كثير من الحالات من الولايات ومن داخل الخرطوم، لذا فإن هذه الخدمات لا يمكن إيقافها بقرار إستثماري كهذا، ذلك أن المستشفيات الأخرى لايمكن أن تكون بديلا يستوعب مكانته ودوره العلاجي.
إذن ما هو المطلوب الآن ؟؟ المطلوب هو إيقاف البيع.. والبحث عن بديل مناسب يلبي الحاجيات الضرورية التي يقدمها المستشفى وبكفاءة أكبر تلبي الظروف الآنية والمستقبلية، ثم بعد ذلك فليكن قرار البيع، إذ لا يمكن أن نبيع أولا ثم نبحث ثانيا لأن في هذا ضرر كبير على عيوننا، ونحن نطالب بأن لا تبيعوا عيوننا.
التحية والتقدير لأسرة مستشفى العيون .. وللفارس محمد فضل وإبراهيم الشيخ وكل المنادين جهرا بأن يظل عبد الفضيل الماظ جزءا ناصعا من التاريخ ليعبر للمستقبل معززا مكرما، وأن نرقي خدماته وأن لا نبيع التاريخ دون أن نرسم ملامح المستقبل.
——————-
ملء السنابل تنحني بتواضع ….. والفارغات رؤوسهن شوامخ
——————-
[email]shococo@hotmail.com[/email]