هل أصابني، كما غيري من قبل، فيروس المؤامرة فصرت كأعشى البصر، لست أنظر الأشياء بوضوح، وحتى إن اتضح أمر كشمس الظهيرة في الصحراء زعقت هواجس البارانويا: بل ذلك ما دبر الأعداء بليل حالك الظلمة، بينما غفل عن التدبر أهل الشأن في منطقة تسير إليها قوافل الطمع فيها منذ أزمان؟
ربما، ليس هذا هو المهم، بل محاولة فهم لماذا وصل الوضع إلى حال الوقوف على عتبة تقسيم العالم العربي إلى كيانات تعيده إلى زمن دول الطوائف، هل الوصول إلى هذا الحال هو فقط بسبب طمع الغرباء بموطئ قدم في موقع يتوسط طرق التجارة العالمية، ثم من بعد بثرواتها المعدنية والنفطية؟
جواب بسيط سهل: كلا، إنما يخدع نفسه من يجهد في إقناعها بأن حال العرب وصل إلى ما هو عليه الآن فقط بسبب التدخل الخارجي.
من السهل اعتبار تحميل أنظمة حكم ما بعد نكبة فلسطين الجزء الأكبر من المسؤولية، نوعا من التحامل، أو حتى الذهاب إلى القول إنه استغلال لما انتهت إليه تلك الأنظمة من مهانات تؤذي حتى من يعارضونها، وحكم «البعث» السوري واحد منها.
ذلك رأي يحق لأصحابه الاعتداد به، لكنه لا يلغي حقيقة أن كل المقدمات التي أوصلت تلك الأنظمة إلى ما انتهت إليه جرى ربطها دائما بفلسطين. ليس ضروريا تعداد أمثلة، أو ذكر زعماء وقادة مارسوا بأنفسهم، وبدعم أجهزتهم، قهر شعوبهم باسم فلسطين، بما في ذلك قيادات فلسطينية، رحل بعضها ولا يزال غيرها يحكم.
كما يعلم كل من تعلم أبجديات الحياة فاستوعبها، ولم يمارس فقط حفظها كمن يصم المنهج الدراسي ثم يفشل في امتحان آخر العام، الجهر بالحقيقة يؤلم، ومهما قيل في سياق تبرير أخطاء أنظمة ما بعد نكبة فلسطين تجاه شعوب تلك الأنظمة ذاتها، فإن ذلك لا يعفيها من مسؤولياتها في ما آلت إليه أحوال بلدان كانت واعدة منذ مطالع الستينات، بالكثير من الأمل في مستقبل (يفترض أنه الآن) أفضل فإذا بالحال كما هو واضح للجميع.
لم يقل أحد إن المؤامرة ليست قائمة. التآمر موجود منذ وُجد قابيل وهابيل. النصوص المقدسة تشير إلى التآمر. ليس ذلك بالأمر المخترع قبل قرن من الزمان فقط. لكن المضحك المبكي تكاثر زعيق تحذير العرب من المؤامرة، ثم الضلوع في تحقيق مآربها، ربما عن سابق إصرار وتصميم، ربما بفعل الغباء، أو الجهل، وربما نتيجة كل تلك الخلطة العجيبة.
بعد نهار من متابعة عواصف الحالة السورية، ما حولها وما يجري بفعلها، وبعدما كدت أقتنع وفق ما شاهدت وسمعت، ومن قبل قرأت، أن العالم واقف بالفعل على حافة ثالث حروبه الكونية، بعد ذلك كله، رحت أشاهد على شاشة «بي بي سي» فيلم «مثير العواصف» (The Tempest)، فإذا بالسيدة هيلين ميرين (Helen Mirren) إذ تؤدي دور بروسبيرا (Prospera) متقمصة شخصية بروسبيرو (Prospero) دوق ميلان، تحمل فانتازيا شكسبير إلى واقع عواصف عالمي العربي.
كلاهما، الدوق كما في نص شكسبير، أو الدوقة وفق الفيلم، يريد الانتقام من أنطونيو، الأخ المتآمر، لتأمين مستقبل ميراندا (Miranda)، فذلك هو هدف المعارك، والوصول إليه يتطلب في بعض المراحل إثارة عواصف باستخدام قوة ميتافيزيقية خارقة.
وجدت نفسي أتابع المشاهدة وأتساءل: ترى من يكون بروسبيرو وأنطونيو خيال شكسبير في واقع العالم العربي؟ ستختلف الإجابة – بالطبع – وفق اختلاف الرؤية أو الرؤيا، أما ميراندا فهي ذاتها في الحالات العربية كافة، وبالتأكيد أولها فلسطين القضية، النكبة، المأساة، الثورة، المقاومة، التسوية، إلى آخر أسمائها.
ثمة من يفضل العيش وفق ما يستطيع، وثمة من يصر على التحليق في فضاء الفانتازيا. حسنا، الدنيا تتسع للجميع، إنما يجب توقع الثمن، لا شيء يأتي بالمجان، وتكلفة الخيال أكثر ألما في أحيان كثيرة، خصوصا حين يرتطم بمر الواقع.
يمكنك من فليت ستريت لندن، أن تدين بأشد الكلمات لهباً، حرق الفانتوم الأميركية أطفال فيتنام، ثم تمشي بضع خطوات لتصل الوست إند، تريد أن تريح أعصابك من شبح الديسك ورهق كتابة التعليق الساخن، فتحتل مقعدك في المسرح، وتطلق العِنان للخيال فتسرح مع «ذا فانتوم أوف ذا أوبيرا»، أو «لو فانتوم دو لوبيرا»، إن كنت في باريس، هنا أو هناك، حيثما أنت، سوف تحلّق مع إبداع سير أندرو لويد ويبر، لا عليك من تحليق الفانتوم فوق فيتنام، حيث يواصل بروسبيرو، أو بروسبيرا، عزف الأعاصير وإثارة عواصف الحرق بالفعل، أرح أعصابك هذا المساء، غداً تكتب بنار الكلام ما يلهب ظهر كل استعمار. نعم، ذاك مشهد ما يزال يتكرر منذ ستينيات قرن مضى، وسيبقى. على كل حال، ها قد أبعد بوتين شبح ضرب بشار، الآن، مد قيصر روسيا الحبل، فتعلق به الأسد، وأزاح أوباما عن الكاهل أشباح التردد. كسب الكل بعض وقت، فيما يستمر القتل، وبالقبور راحت تضيق الأرض. آهٍ ثم آهٍ، تصرخ أم ثُكلت بطفل لم يعش كي يسألهم أجمعين، ذات يوم، بأي ذنب قُتِلت؟
سهل أن تكتب كل ما سبق، أسمع القول، لا اعتراض، بل أقرّ أنني مثل غيري ممن ينعمون بحرية التجوّل في عواصم المهاجر، لا ينقصنا ماء أو ما نتنفس من هواء، نتخيّر ما نشتهي من طعام وملبس، لم نذق ويلات التهجير داخل الوطن والفرار إلى بوابات حدوده، ولا عرفنا طعم أن يحترق قلب من يدفن الولد مع الأخ والجار، وربما إلى جانب الأم والأخت والأب، في مقابر جماعية كلما اكتشفت واحدة ظهرت أخرى. كلا، لم أجرّب أياً من هذا كله، لكني أشعر بلوعته يكتوي بها الصدر، ومع ذلك أعذر كل من لا يُصدّق، فعذراً أطفال حلب… وحيثما يسيل دم طاهر كي يرضع القتلةُ بنهم، عذراً بصدق، إذ ليس بالوسع سوى بضع كلمات علها تنفع فتواسي في انتظار أن ينصلح حال العرب إلى الأفضل.
[/JUSTIFY]الشرق الأوسط – بكر عويضة