تحققت، وينتظر أن تحقق من زيارة سلفا التي أفضت لتدفق النفط الجنوبي بصورة دائمة منذ توجيه الرئيس البشير الشهير بأن (أقفل يا عوض).
عبور نفط الجنوب لأراضي السودان باستمرار- حسبما قال الرئيس البشير في جلسة المباحثات الختامية مع سلفا كير- يوفر دعماً قوياً لسلفا وحكومته الجديدة وهو دعم له دواعيه ومبرراته كما سنرى:
أغلب الظن، أنّ الحكومة في الخرطوم تراهن على التغييرات الأخيرة في الجنوب لتنتقل بعلاقات البلدين إلى مرحلة جديدة تتحقق فيها المصلحة المشتركة بعيداً عن لعبة إلحاق الأذى بالآخر التي لا يوجد فيها مُنتصرٌ.
رهان الحكومة على تلك التغييرات الأخيرة بالجنوب حملها إلى التفاؤل وجعلها تبادر بتقديم الدعم للرئيس سلفا كير الذي بدا أعزلَ في مواجهة مطلوبات شعبه الأساسية في غياب النفط، كما هو أعزل تماماً من الدعم الدولي، فقد أصبح هناك ما يشبه السخط على سلفا من الغرب الذي أوصد في وجهه الأبواب ولوّحوا له بذات كروت الضغط التي سبق أن استخدموها شمالاً بما في ذلك التلويح بكرت الجنائية الدولية في أحداث الموت بجونقلي وذلك بهدف إثنائه عن العمليات الجراحية الكبيرة التي أجراها في جسم حكومة الجنوب وقضى بإبعاد كبار متهمين بالفساد وبتعكير الأجواء بين الخرطوم وجوبا من خلال دعمهم المنكور لمتمردي الحركة الشعبية والجبهة الثورية.
الخرطوم، تعاملت بذكاءٍ هذه المرة، وأرجعت سلفا وفي يديه كرت استمرار ضخ النفط الذي رفضت أن تمنحه قبل نحو شهرين لنائبه المقال رياك مشار، وأضافت إلى ذلك فتح المعابر الحدودية، وهو الأمر الذي يوفر ملايين الدولارات يومياً لخزينة الجنوب الخاوية، أو تكاد. ويمنح سلفا الدعم المطلوب لمقابلة احتياجات المواطنين الجنوبيين البسطاء، لأن هناك من بات يتربص بسلفا ويحاول تحميله وزر نقص الخدمات وفقدان الأمن في الجنوب تمهيداً لتصفية مجمل تلك الحسابات في صندوق الاقتراع، وربما قبله إذا أعياهم الصبر على الخروج من دوائر النفوذ والفعل السياسي بالجنوب.
رجوع سلفا كير من الخرطوم وهو خاوي الوفاض من اتفاق انسياب النفط بصورة دائمة سيجعل خياراته محدودة للغاية، بل ستكون معدومـة على الأرجح إلا خيار أن يرتمى في أحضان الغرب مرةً أخرى وينتظر دعمهم المشروط لإنقاذ الأوضاع بالجنوب بما فيها التراجع عن كل تلك التغييرات الجريئة التي أحدثها اخيراً، وبالتالي إعادة من كانوا (خميرة عكننة) في علاقات البلدين لواجهة الأحداث ودائرة اتخاذ القرار الجنوبي من جديد.
إذاً، للخرطوم مصلحة حقيقية في دعم سلفا والتيار العقلاني الذي برز مع التغييرات الاخيرة في الجنوب، لأن البديل لذلك هو عودة مجموعة السودان الجديد المرتبطة أيديولوجياً بالمجموعات التي تقاتل الحكومة في الخرطوم، فضلاً عن القيادات التي تحاول التغطية على اتهامات الفساد الموجهة لها بإثارة غبار كثيف في حدود البلدين ودعم المتمردين في انتظار إسقاط النظام والمجئ بحلفائهم في الجبهة الثورية لسدة الحكم حتى يتمكنوا بعد ذلك من تصدير نفطهم بالمجان حسب حلم د. لوكا بيونق في مقال منتهي الصلاحية نشره في يونيو الماضي بصحيفة (نيو نيشن) الكينية.
والملاحظة التي بدت واضحةً في زيارة سلفا كير الاخيرة هو المرونة السودانية فيما يتصل بالاهتمامات الأمنية. وهذا لا يخلو من أربعة احتمالات:
الاحتمال الأول: إنّ سياسة الخرطوم قائمة على رسم خطوط حمراء ثم التراجع عن هذه الخطوط الحمراء بعد اشتداد الضغوط عليها، ويدعم هذه الفرضية ما رشح من مجلس الأمن عن ضرورة استمرار انسياب النفط، مع الأخذ في الاعتبار الضغوط الداخلية نفسها، فحال الحكومة في الخرطوم ليس أفضل من حال رصيفتها في جوبا حال قفل الأنبوب لأن هنالك الكثير من الإشكالات الاقتصادية الشائكة من قبيل رفع الدعم وغيرها من المشاكل التي تجعل معالجتها بدون عوائد النفط الجنوبي أشبه بإجراء عملية جراحية بدون بنج. فيما تستطيع الدولارات المتحصلة يومياً من رسوم عبور نفط الجنوب إطفاء الكثير من الحرائق.
الاحتمال الثاني: إنّ المسؤولين في الخرطوم اقتنعوا بأن سلفا كير راغبٌ في وقف الدعم للحركات المسلحة ولكنه غير قادر على ذلك. وفي هذه الحالة فإنّ استمرار تصدير النفط سيعزز من قدرته وقبضته على الأوضاع هناك بالقدر الذي يجعله قادراً على وضع رغبته تلك في حيز التنفيذ.
الاحتمال الثالث: هو الوصول لقناعة حكومية مفادها صعوبة معالجة قضية وقف دعم الجنوب للمتمردين في جنوب كردفان والنيل الأزرق في مدى زمني منظور، كما أن استمرار الحرب في المنطقتين رغم إيقاف تصدير نفط الجنوب في العامين الماضيين يشير إلى أن التشديد على وقف الدعم بصورة فورية غير مُجدٍ لأن الجنوب وبمثلما هو داعم للتمرد فهو دولة معبر لإيصال الدعم للمتمردين كذلك وهو أمر لن يتأثر بقفل الأنبوب.
الاحتمال الرابع: والراجح من واقع المتابعة القريبة لزيارة سلفا كير وتصريحاته أن الاهتمامات الأمنية لم تسقط، بل وجدت استجابة وجدية معقولة في الفترة الفائتة أدت لرفع يد عوض الجاز عن الأنبوب بصورة نهائية فيما يبدو. فتغيّر لغة الإنكار القديمة والاستعداد للتحقق من أي أنباء عن دعم المتمردين من قبل الجنوب، يُشير إلى لغة جديدة كانت غائبة في السابق، لغة تتحدّث عن أن التعاون مع السودان هو المخرج للجنوب. ومن المعلوم أنّ التعاون يعني بالضرورة وقف الدعم والإيواء والاتفاق على تحديد الخط الصفري وعدم الحديث عن إجراء استفتاء بأبيى في أكتوبر وغير ذلك من الأشياء التي شكلت مقابلاً مُجزياً للخرطوم لتسمح بمرور النفط الجنوبي بصورة دائمة.
وإضافةً لكل ما سبق، فإنّ التغيير الاخير في حكومة الجنوب أثّر على التوجه الجديد ولم يعد الدعم للمتمردين مربوطاً بأسباب أيديولوجية كما كان في السابق، فالهَـم الأول، وربما الهم الأوحد للحكومة الجديدة في الجنوب هو تقديم خدمات للمواطن الجنوبي حتى يشعر بتغيير في معاشه وإحـداث نقلـة بالجنوب في المرحلة التي تسبق الانتخابات، وهو الأمر الذي يعني كف الأذى عن الجيران بالضرورة.