من قبعة رجل الأمن… إلى قبعة التعدين… كمال عبد اللطيف

ما هو مصير الوزير الـ(برغماتي) ووزارته؟! لا توجد في الحكومة وحزبها الحاكم أبواب موصدة أمامه
الخبير الاقتصادي عثمان ميرغني: كمال غير مؤهل للإمساك بملف الوزارة، وهذا ما دعاه للاستماع لقرارات النظام الحاكم

عرف عن كمال عبد اللطيف أنه لا يتحرك نحو هدفه إلا بخطوات متأنية، تستند إلى معلومات وافرة، فهو يقدر المخاطر قبل المنافع، يتحرك بثقة (عليا)، فتفتح له الأبواب التي توصد عادة أمام آخرين، فيتثنى له الوصول إلى حيث يريد، لا توجد في الحكومة وحزبها الحاكم أبواب موصدة أمامه، يوصف بأنه (برغماتي)، يأخذ ما يريد بأقصر الطرق، وبالكيفية التي يراها، ولا يأبه كثيراً بالوسيلة.
عقليته العملية اشتبكت كثيراً بالعمل الأمني، وهذا من سيرته الوظيفية من عمله بجهاز الأمن الوطني، وعمله مديراً لمكتب رئيس المؤتمر الوطني، وقنصلاً بسفارة بلادنا في نيروبي بكينيا؛ كل هذه الوظائف تعيد تنظيم عقلية الرجل، لينظر إلى الأشياء بشكل مختلف، ولكن ضرورة العمل العام تجعل الأشخاص في محل انكشاف، وترفع الغطاء عن (توارٍ) قد لا يجيده البعض.
كمال عبد اللطيف الذي لا تفارق يده مسبحة، ترافقها مسحة حزن مقيم على وجهه؛ يتحرك وسط جيش من رجال أشبه بالحواريين؛ تنفيذي قاسي المتابعة و(ديواني) دقيق الترتيب. شديد الاهتمام بجوانب التواصل الاجتماعي، تتسم طبيعته في العمل بقدر من الحدة والصرامة العسكرية النازعة للسيطرة والتحكم، يبدو كرجل مباشر لا يجيد الالتفاف ولا يحبذ المراوغة، لكنه قد يبدو أيضاً رجل (باطن)، لا يلين قلبه لأنات خصومه من وقع ضرباته؛ له حساسية مفرطة تجاه التناول الإعلامي لشخصه.
اكتسب من تنوع تجاربه في المؤسسات الأمنية ومجلس الوزراء، ذخيرة معلومات ضخمة؛ وهو من أهل الحظوة ورجال المهام الخاصة، ومن قلائل الذين تحمل صدورهم أخطر أسرار الدولة.
صراع الإرادات والإيرادات
منذ خروج عائدات نفط الجنوب من الموازنة العامة، صوّب الكثيرون أنظارهم نحو الذهب، على أمل أن يسهم في سد النقص، وتعويض ما خلّفه غياب عائدات النفط؛ التقط الوزير كمال عبد اللطيف تلك الرسالة المتحمسة وعمل بجهد لتحقيق أكبر قدر من إيرادات الذهب، ولما كانت التوقعات الاقتصادية، تشير إلى تحقيق (3) مليارات دولار، حقق الذهب العام الماضي عائدات بلغت ملياري دولار؛ ولكن ثمة من يرى أن ضعف الرقيب حوّل الحماس من تنافس حول زيادة (الإيرادات) إلى ما يشبه صراع (الإرادات) بين رؤوس المؤسسات الاقتصادية، ففي الوقت الذي تعلن فيه وزارة المعادن – على سبيل المثال – أن مورد الذهب حقق مبلغاً وقدره، أو أن العام القادم سيشهد زيادة في صادرات الذهب، تقدر بمبلغ وقدره، تأتي الأخبار التي لا تتطابق مع الذي يقال، وليس بعيداً عن ذلك التباين الكبير الذي حدث بين وزير المالية علي محمود ووزير المعادن كمال عبد اللطيف، وهي في أحسن الظنون إن بدت عفوية، إلا أنها تكشف عن عدم التنسيق بين المؤسسات الاقتصادية المعنية، فوزير المالية علي محمود قال الأربعاء الماضي في ورشة أقامتها وزارة المعادن إنه يتخوف من تراجع صادرات الذهب، التي قال إنها قلّت بكثير عن العام الماضي، متوقعاً توقف التعدين التقليدي مستقبلاً، فيما قال وزير المعادن كمال عبد اللطيف، رداً على تصريحات وزير المالية: إن قطاع المعادن مظلوم، جراء عدم اهتمام الجهات الإحصائية في البلاد بإبراز مساهمته في القطاع القومي، وأوضح أن المعادن تساهم في (8) مجالات، على رأسها تثبيت سعر الصرف، وميزان المدفوعات، والتوزيع العادل للثروة؛ وأكد وجود الذهب في 16 ولاية، وطالب المالية بضرورة إعادة ترتيب القطاعات الاقتصادية المنتجة في الموازنة المالية، بما يؤدي لفصل قطاع التعدين عن قطاع الطاقة تبياناً لأدواره.
خارطة طريق
أشارت مصادر بوزارة المعادن، إلى أن كمال عبد اللطيف ركز جهوده على استكمال جهود تأسيس الوزارة الجديدة، عبر إعداد خارطة التعدين ودليل المعادن، بجانب صياغة القوانين المنظمة للتعدين. وتضيف ذات المصادر لـ(السوداني) أن عبد اللطيف أنفق نصف فترته الوزارية في الاهتمام بقضية التعدين الأهلي، وتزيد ذات المصادر بعد أن فضلت حجب اسمها – أنه عمل على تجميع صغار المعدِّنين في أماكن محددة لمزاولة تعدين الذهب، تحت رقابة مشتركة بين الوزارة والسلطات المعنية، وإنشاء إدارة متابعة للمكاتب الفرعية التي تم افتتاحها في كل من نيالا والأبيض والدمازين وعطبرة وبورتسودان، وقام بإقناع بنك السودان المركزي بإخراج أموال بهدف خلق آلية فعالة لشراء الذهب من المعدِّنين، وكان له ما أراد من وجود شرطة خاصة بالمعادن، كما قام بتنظيم لائحة لضبط أجهزة كشف المعادن وتقنينها، بالتنسيق مع إدارة الأمن الاقتصادي وشرطة الجمارك.
وتمضي ذات المصادر إلى أن تلك الجهود، حققت عائداً مالياً للخزانة العامة، وصل لحدود الملياري دولار، كان للتعدين الأهلي نصيب أكبر فيها، ثم قامت الوزارة في عهده بالكشف عما يربو عن المائة وخمسين موقعاً لمخزونات الذهب.
ويقول الخبير الاقتصادي د. محمد الناير، إن التعدين الأهلي في عهد كمال عبد اللطيف يسيطر بحكم أن إنتاجه يتجاوز (30) طناً في العام، مقابل التعدين المنظم، الذي قال فيه إن وزارة المعادن قطعت به شوطاً بعيداً، من خلال توقيعها اتفاقيات مع شركات وطنية وأجنبية، وإن الدولة سيكون لها نصيب وفق العقود الموقعة مع تلك الشركات؛ لكنه عاد بنا إلى التعدين الأهلي مرة أخرى، حيث قال في معرض تعليقه لـ(السوداني)، إن الدولة تستفيد فقط من عائدات النقد الأجنبي أمام المقابل بالعملة المحلية، فيعود للمعدن بواسطة شراء الذهب من بنك السودان، وقال إن ذلك أسهم في زيادة معدل التضخم، لأن بنك السودان يشتري بأسعار مرتفعة بالعملة المحلية.
د. الناير لفت الانتباه إلى إنجاز آخر شهدته المعادن في عهد الوزير كمال عبداللطيف؛ حيث قامت بإنشاء مصفاة للذهب، وأشار إلى أنها تُعدُّ المصفاة الثانية في الإقليم بعد جنوب أفريقيا، وقال إن تفعيل دور هذه المصفاة سوف يساهم كثيراً في حصيلة عائدات تصدير الذهب، ويساعد أيضا إذا ما أراد السودان الاحتفاظ بالذهب، باعتباره جزءاً من مكونات النقد الأجنبي.
خلف الأحداث
من أبرز المحطات المتعلقة بمسيرة كمال عبد اللطيف (أحداث جبل عامر)، وهي بحسب كثير من المراقبين (فشل) للوزير والوزارة معاً في إدارة قضية منطقة (جبل عامر)، في ولاية شمال دارفور، حيث سقط عشرات الضحايا في اشتباك قبلي بمنطقة التعدين، واتهم زعيم المحاميد موسى هلال وزير المعادن بجانب والي شمال دارفور يوسف كبر صراحة، بالوقوف خلف تلك الأحداث.
ورغم أن هذه الاتهامات تصدى لها كبر وحده، إلا أن مراقبين أعابوا على وزارة المعادن عدم تعاطيها مع الأزمة كما يجب، خاصة من الجانب الإعلامي، ويقولون إن الوزير كمال عبداللطيف، أخفق في إدارة تلك الأزمة، باستخدام أسلوب (التجاهل)، ويرون أنه كان بالإمكان تبيان موقف الوزارة من تلك الاتهامات من خلال الوسائل الروتينية، من بيانات أو تعليقات إخبارية أو مؤتمر صحفي يبين أن مسؤولية الأمن ليست من مهام الوزارة، وهو ما لم يحدث، مما يجعل تلك الاتهامات عالقة، ويشير كثير من المراقبين إلى أنها اتهامات تتعلق بأحداث شديدة الخطورة، ويرون أيضاً أن عواقبها خطيرة.
فخ الوزارة
يقول الخبير الاقتصادي، البروفيسور عثمان ميرغني لـ(السوداني)، إن الوزير كمال عبداللطيف، بما أنه من وزراء المؤتمر الوطني له ميزة تفضيلية على غيره من الوزراء، وله قدرة على اتخاذ القرار، وهو شخص جريء وعنيد بحكم تربيته الأمنية، والرأي الآخر عنده (ملغى)، وعلى الرغم من ذلك، قال ميرغني يجب الاعتراف بأن له إنجازات كبيرة عندما كان في منصب وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء، عندما كان ممسكاً بالمجالس القومية؛ ويرى أن وزارة المعادن وضعت كمال عبداللطيف في (فخ)، لأنه ليست لديه مقدرات كبيرة في مسألة الصناعة والتعدين والمعادن المستخرجة من باطن الأرض، وأسواقها العالمية وبورصاتها وحركتها، وهو غير مؤهل للإمساك بملف الوزارة، وهذا ما دعاه للاستماع لقرارات النظام الحاكم، وبالتالي ليس لوزارته قرارات. بجانب ذلك يرى ميرغني أن وزارة التعدين بطبيعتها بها أسرار كبيرة جداً، حتى قيادات الوطني غير قادرة على معرفة تفاصيلها، وتساءل عن: حق التعدين لمن يمنح؟ وعلى أي أسس؟ وعن حقوق الشركات والحكومة والمجتمعات؟ ومن يحددها وأين هي؟ وعن أموال التعدين وأين تصب؟، مجيباً على تلك الاستفهامات بالقول إنها أسئلة مبهمة، لم يجب عليها أحد، وبالتالي حتى أهل الاختصاص في هذا المجال غير قادرين على المشاركة أو المساهمة في تطوير القطاع، واختتم بروف عثمان ميرغني إفادته بالقول: “وعلى هذا المستوى نستطيع القول إنه في كل المحطات الأخرى، كان إنجازه معقولاً، ولكن في وزارة التعدين، نحن لم نحس بأي إنجاز”.
انتهاج الشفافية
تساؤلات البروفيسور عثمان ميرغني التي قد تبدو مشروعة؛ طرحها خبراء اقتصاد آخرون، عن مدى شفافية الإجراءات المتبعة في قطاع التعدين، وعقودات الشركات الخاصة في هذا المجال، وما إذا كان مسموحاً للرأي العام الوقوف على تفاصيلها، أم أنها جزء من الأسرار التي لا يحق للرأي العام الاطلاع عليها، بغية المصلحة العامة، وتحقيق قدر عالٍ من المحافظة على ممسكات الاقتصاد الوطني. وزارة المعادن في عهد الوزير كمال نظرياً يبدو أنها لم تغفل هذا الجانب، وقد أفادت بأنها تعمل بقدر عالٍ من الشفافية والنزاهة من خلال عدة ضوابط، أهمها طرح المربعات في عطاء وفق كراسة بالقيمة تحتوي على استمارة التقديم (اتفاقية سرية المعلومات)، معلومات عن المربعات المستهدفة بالاستكشاف، وقيام الشركات بتقديم ملف يحتوي على البروفايل الخاص بها، بما في ذلك مقدرة تلك الشركات المالية والفنية.
التعدين والبيئة
أصدقاء البيئة هم أيضاً يُبدون مخاوفهم من الآثار الناجمة عن التعدين بشقيه (الأهلي والمنظم) على البيئة وصحة الإنسان، وهي قضية لم تولَ اهتماماً من جانب الوزير كمال عبداللطيف حتى الآن، وما تزال رؤيته الوزارية إزاء هذه القضية المهمة بحسب متابعين لشؤون الوزارة – تتراوح في شكل رؤى ومكاتبات بينه وبعض الخبراء، فيما تتزايد وتيرة المخاوف من الآثار الكارثية، التي قد يخلفها التعدين الذي تستخدم فيه مواد سامة، مثل (مركّب سيانيد الصوديوم)، وغيرها من المواد المضرة، لكن الخبير في مجال البيئة والتنمية الاجتماعية د. عبدالرحيم أحمد بلال، قال في تعليقه لـ(السوداني)، إن عملية التعدين موضوع جديد، والمسؤولية الاجتماعية في السودان جديدة وضعيفة، والشركات الكبرى أضحت تهتم، ولكنها ليس لديها تقاليد راسخة، وأشار في ذات الوقت إلى أن الأمم المتحدة، وضعت عدة أسس ومعايير للحكم على المسؤولية الاجتماعية، بينها الحفاظ على البيئة وحقوق العاملين – طبقاً لمنظمة العمل الدولية -، ويمضي عبدالرحيم للقول إن التعدين بالخصوص حوله شبهات ومشكلات، سواء كانت من التعدين الأهلي، أو الشركات الكبيرة، وليس هناك ضوابط للتعدين الأهلي، بجانب ضعف الوعي البيئي للمعدِّنين، وقال إن الصناعات والتعدين، يؤثران بشكل مباشر في ظل ضعف وعي بعض الشركات بالبيئة، وقال إن تأثير ذلك يحتاج إلى كتابات كثيرة وكبيرة، حتى تتبلور الأفكار، مؤكداً أن وجود صحافة حرة ومنظمات مجتمع مدني أقوى، له أثر على مستوى المحاسبة والمسؤولية.
بين الرحيل والبقاء
تتردد كثير من التسريبات، أن وزارة المعادن نفسها ستدخل ضمن برنامج هيكلي جديد، يعيدها إلى موقعها السابق بوزارة النفط، لتصبح وزارة (النفط والتعدين)، وإذا ما استبعدت تلك التسريبات، ربما كانت حظوظ الرجل في البقاء بمنصبه الوزاري، أعلى من فرص مغادرته؛ وذلك ربما كان بمعيار مفهوم الإدارة الحديثة، حيث لم تصل مدة استوزاره لخمسة أعوام بعد، وقد يغادر الرجل منصبه الوزاري، بالاستجابة لمطالب أن تسند الوزارة لشخصية (فنية) وليست سياسية، تحقق للاقتصاد الوطني أعلى الفوائد، من خلال إعادة رصف سياسات قطاع التعدين، أو مغادرته لتوازنات سياسية أخرى، تأتي بآخر خلفاً له من غير الحزب الذي ينتمي إليه.

الخرطوم : تقرير: عبد الباسط إدريس: صحيفة السوداني
Exit mobile version