فيا ترى ما الذي جعل الخرطوم تلتزم هذا الموقف وهي قابضة على جمر؟ الأرجح أن الخرطوم -وفق إستراتيجية خارجية شديدة الأهمية- التزمت وبصرامة شديدة بمبدأ عدم التدخل فى الشأن الداخلي لأي دولة، ولهذا فإن من المستغرب أن يعيب عليها البعض هذا الموقف، فهو معروف فى القانون الدولي بالضرورة. وهو أحد أهم المبادئ التى تقوم عليها العلاقات الدولية، ولو حدث أن تدخلت الخرطوم فى الصراع الدائر لقامت الدنيا من حولها ولم تقعد، وعلى ذلك فإن ذات الذين انتظروا تدخلها بالطريقة من الطرق غضبوا لعدم تدخلها لأنها ببساطة فوتت عليهم استثماراً سياسياً نادراً!
الأمر الثاني أن الخرطوم نفسها عانت وما تزال تعاني من التدخلات الدولية فى شئونها الداخلية (جنوب السودان ودارفور) ثم لاحقاً (جنوب كردفان والنيل الأزرق) ومن الطبيعي أن من يعاني من داء ما أن يحول دون نقله الى آخر.
الأمر الثالث أن المصالح الإستراتيجية للسودان لا تتأثر ولا ينبغي لها أن تتأثر البتة لما سيستجد من أمور فى الشقيقة مصر وهذا الموقف من الضروري فهمه حتى على مستوى قوى المعارضة السودانية، لأن الدولة كجسم متكامل شيء، والحكومات كأجسام جزئية للدولة شيء آخر، المهم هو أن تظل العلاقات -بأبعادها الإستراتيجية- بين الدولتين ثابتة وراسخة ولهذا لم تمانع الخرطوم من استقبال وزير الخارجية المصري نبيل فهمي وكان بإمكانها أن تمانع دون إبداء أسباب كعرف دبلوماسي سائر ومعمول به، فالأوضاع فى حالة سيولة فى القاهرة وفى مثل هذه الأحوال من حق أي دولة أن تغلق بابها عليها وتجلس لتراقب الذي يجري ولكن الخرطوم استقبلت الوزير المصري بما يليق واستمعت إليه وبادلته الآراء كأمر طبيعي ومطلوب.
وعلى ذلك فإن كل من راهن من قادة المعارضة على أن الخرطوم قد تتورط فى الشأن المصري استشعر حرجاً وألماً بالغين، ففي النهاية فإن بناء علاقات متطورة مع مصر الدولة هو الذي يترسخ ويسود، ولعل هذا يلفت نظر بعض دول الجوار ومن بينها مصر نفسها -مستقبلاً- لكي تنأى بنفسها عن التدخل فى الشأن الداخلي السوداني سواء باستضافة القوى المعارضة المسلحة، أو الوقوف بجانب طرف من الأطراف التى تصارع الخرطوم جرياً على مبدأ المعاملة بالمثل، فقد بادر السودان وهو يعرف مدى فداحة الجرح فى مصر لالتزام جانب الحيطة والحذر أملاً فى أن تحذو الدول الأخرى القريبة منه والبعيدة ذات الشيء بشأن ما يجري فيه!
سودان سفاري