وعندما تلم بالإنسان الابتلاءات عليه أن لا يحزن لأن الله يبعث الطمأنينة في النفوس الصابرة ويجزل الثواب للشاكرين.
ولعل الأمطار والسيول التي اجتاحت مؤخراً أجزاءً واسعة من البلاد خاصة ولاية الخرطوم، وأدت إلى انهيار آلاف المنازل مخلفة بذلك تشريد ملايين الأسر كما أزهقت جراء اندفاعها القوي أرواح الكثيرين، وخلفت الكثير من الأضرار والأحزان والخوف، رغماً عن هذا كله صمد الناس أمامها وصبروا ورضوا بقضاء الله، وكانت امتحاناً خرج الناس منه بالكثير من العبر والمواعظ والحكم، ولأنهم تحملوا وبصبر جميل كل خلفته تلك الأحداث من أوجاع وآلام نواسيهم برائعة الشاعر الإنسانية الراحل الرقيق “عوض جبريل” (ما تهتموا للأيام ظروف بتعدي)،
و”عوض جبريل” يعتبر صاحب ثاني أكبر وأغزر إنتاج شعري ولحني للأغنيات السودانية بعد الشاعر الكبير “عبد الرحمن الريح” الذي تتلمذ على يديه.
“عوض جبريل” في قصيدته (ما تهتموا للأيام) التي كتبها إبان سيول وأمطار اجتاحت العاصمة الخرطوم محدثة خراباً ودماراً وكان بيته من ضمن المتأثرين بها انهار ولم تسلم منه إلا غرفة تقف وحيدة وسط بركة من المياه، رأى شاعرنا الرقيق زوجته تجلس في سرير تحيطه المياه حزينة متحسرة على ما آل إليه حالهم، فكتب هذه الأبيات الشعرية التي تنساب أملاً وتفاؤلاً والتي جاء فيها:
ما تهتموا للأيام ظروف بتعدي.. طبيعة الدنيا زي الموج تجيب وتودي.. ما تهتموا للأيام ظروف بتعدي..
سبيل الزول عشان يفتح طريق يادوب
يكون زادوا البشيلو معاهو شوق مشبوب..
عشان يلقي انتصارو يازمن محبوب
يضوق المرة ويتوشح بصبر أيوب..
(المجهر) في سياق الأغنية التي كتبت في مثل هذه الأيام التقت برفيق درب الراحل “عوض جبريل” وصديقه الشاعر الرقيق والإعلامي “مختار دفع الله”، فحدثنا عن مناسبة الأغنية كما أشير إليها، مبيناً أن “عوض جبريل” كتبها في العام (1976م) وقتها شهدت البلاد أمطاراً وسيول عرضت المواطنين لخسائر فادحة، وكان من ضمنها بيته الذي انهار في أم درمان الثورة الحارة (11) منزل رقم (464)، حيث قال في مطلعها عندما رأى زوجته الحاجة “نورا إبراهيم” شقيقة الملحن الشهير “الطاهر إبراهيم” حزينة لما أصاب بيتها الكبير من دمار، محاولاً أن يخفف عليها المصاب ويزرع فيها مساحة للتفاؤل والمؤاساة (ما تهتمي للأيام ظروف بتعدي)، وأضاف “مختار دفع الله” أن “عوض جبريل” لحنها كما معظم أغنياته الرائعة وأعطاها للمطرب الكبير
“كمال ترباس” الذي أداها بإحساس جميل، وذكر أنه عندما تغنى بها ذات مرة في أحد السجون بالخرطوم تفاعل معها المساجين بصورة كبيرة حد البكاء، لفتت انتباه وزير الثقافة حينها في عهد “نميري” “عمر الحاج موسى” الذي طالب بمقابلة كاتب الأغنية التي أبكت السجناء، وعندما قابل الوزير “عوض جبريل” أشاد بكلمات الأغنية المعبرة، ووصفها بأنها تدعو بالتماسك والصبر وتبعد الإحباط عن النفوس، ودعا لكتابة مثل هذه الأغاني الهادفة، وأوضح محدثنا أن الوزير الذي كان أديباً قدم رجاءً للشاعر “عوض جبريل” بأن يغير كلمة (ما تهتمي) التي تخاطب زوجته إلى (ما تهتموا) لتشمل الكافة، فوافق “جبريل” وتغنت بعد التعديل في النص.
وعندما تغنى بها المطرب الراحل “محمود عبد العزيز”، أضفى عليها لوناً زاهياً بصوته الجميل وبعداً آخر بموسيقى ساحرة أثرت الجميع.
ويمضي بنا الشاعر “مختار” في رحاب “عوض جبريل”، مبيناً أنه كان شاعراً متفائلاً مرحاً بسيطاً، وتؤكد صدق إيمانه أشعاره الإنسانية العميقة، مضيفاً أن التفاؤل من باب حسن الظن بالخالق جل وعلا وامتثال ورضا بالله القدير اللطيف والخبير الرحيم وكل أسمائه الحسنى تحمل صفاته.
وزاد جاء في الحديث عن الرسول “صلى الله عليه وسلم”: (تفاءلوا والذي نفسي بيده لن يدخل الجنة إلا متفائل).
ويشير إلى أن كلمات الأغنية ذات مضامين مؤثرة كما جاء في منتصفها:
وما تهتموا أصلو الناس حياتا ظروف
تتحكم تغير كلو خط مألوف ..
مصير الزول حياتو ياما فيها يشوف
وفي دنيانا بنلاقي الفرح والخوف
ما تهتموا للأيام.. ظروف بتعدي
وكما جاء في نص الأغنية الأخير الذي به كثير
اطمئنان يؤكد أن النظر لجمال الدنيا أكبر وأعمق من البيوت والممتلكات والاهتمام بوجودها وفقدها ويحول جمالها لصورة بديعة في أنه كمال قال:
جمال الدنيا في بسمة سرور وجمال
وفي فرح الخواطر الطيبة في الآمال
وفي شروق الصباح في بسمة الأطفال
ومهما تظلم الأيام ضياها الفال
وما تهتموا للأيام.. ظروف بتعدي
تقرير- نهلة مجذوب: صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY]