ومن خلال كثير من المعطيات وجملة من المؤشرات يستطيع المراقب السياسي القول بأن الوزير المصري جاء برسالة محددة للخرطوم ومعرفة الموقف الرسمي لدى الحكومة السودانية مما يجري في مصر خاصة أن موقفها شابه كثير من الغموض والضبابية، فالخرطوم من جهة تقول إن ما يحدث في مصر شأن داخلي، ومن جهة ثانية تُصدر بيانًا تدين فيه مجزرة رابعة العدوية والنهضة بشكل واضح، ومن جهة ثالثة سمحت لآلاف المتظاهرين من قواعدها الإسلامية وكوادرها وقياداتها للتنديد بالمجازر التي ارتكبتها السلطات الانقلابية في مصر والمطالبة بطرد السفير المصري، وتأكيد أن ماحدث هو انقلاب عسكري على شرعية الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي… في هذه الأثناء جاءت زيارة الوزير المصري نبيل فهمي وهو على ما يبدو يحمل رسالة للخرطوم: إن ما يحدث في مصر هي «ثورة وليس انقلاب عسكري» قام بها الشعب المصري في يوم 30 يونيو /2013م بغرض تصحيح ثورة 25 يناير 2011م.. بعد الغموض الذي شاب موقف الخرطوم التي أعطت الضوء الأخضر لحشود قواعد الحركة الإسلامية السودانية الذين نظموا وقفة احتجاجية أمام السفارة المصرية في الخرطوم ونفذوا مسيرات ضخمة جابت شوارع الخرطوم تنديداً بثورة 30 يونيو، ورغم أن حكومة حزب المؤتمر الوطني التزمت الصمت في بادئ الأمر ثم أدانت و شاركت بكوادرها بصورة كبيرة جداً في المسيرة المؤيدة لشرعية مرسي ومنددة بالانقلاب الذي أطاح حكومة «الإخوان» إلا أنها تبدو على خط الحياد الأمر الذي أزعج سلطات الانقلاب في مصر فكان لا بد من الاستيثاق من الموقف الحقيقي.
الموقف المبدئي: تقول معظم المعطيات إن الموقف الذي أبدته حكومة المؤتمر الوطني إزاء ما جرى في مصر من انقلاب على شرعية الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي وما حدث من مجازر وتقتيل ليس هو الموقف الحقيقي المبدئي الذي يعبِّر عن تطلعات ورغبات وتوجهات حكومة المؤتمر الوطني وأيدلوجيتها وأيدلوجية قياداتها وكوادرها وقواعدها، فالموقف الحقيقي لها أخفته تمامًا لأسباب سياسية وبراغماتية وربما أيضًا خوفًا من تكرار ما حدث لها في السابق بسبب استقلال قرارها السياسي وخروجها من «جلباب» مصر، ولهذه الأسباب ربما استبدلت حكومة المؤتمر الوطني موقفها المبدئي المعروف بآخر «براغماتي» بعد أن أحنت ظهرها للعاصفة، ولعل ما يعزز هذه الفرضية هو سماحها لواجهاتها ومؤسساتها السياسية والشعبية بالتعبير عن موقفها الحقيقي الذي أخفته كما جاء في بيان الحركة الإسلاميَّة التي تضم في عضويتها كل كبار وصغار أعضاء المؤتمر الوطني الحاكم ووزراء الحكومة باستثناء «الموالين من الأحزاب الأخرى»، وكما جاء في المظاهرات المؤيدة لشرعية مرسي، ثمة أمر آخر دفع المؤتمر الوطني لإخفاء موقفه الحقيقي المبدئي وإظهار «غيره» وهو أن وجوده في السلطة شكل عليه قيودًا ثقيلة، وهو أمر لم يقف عقبة في طريق الحركة الإسلامية ولا «أشقاء» المؤتمر الوطني وهم «الشعبيون» حيث أدان حزب المؤتمر الشعبي الذي عقد زعيمه الدكتور حسن الترابي مؤتمرًا صحفيًا وقال فيه: ما حدث في مصر هو انقلاب عسكري بتحالف مع الغافلين عن الدين، فالمؤتمر الشعبي والحركة الإسلامية اللذان هما خارج السلطة متفقان تماماً على أن ما يحدث في مصر هو «انقلاب عسكري مكتمل الأركان تمامًا» وتشير معظم الدلالات إلى أن الحركة الإسلامية وتوأمها «المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي» على قناعة تامة بأن ما حدث في مصر يوم «30» يونيو و«3» يوليو «2013م» ما هو إلا انقلاب عسكري علماني متطرف وقد ارتكب مجازر وإبادة جماعية بحق إخوان مصر وأن السيسي يجب أن يواجَه بالمحاكمة الجنائية الدولية، ولعل هذا ما أشار إليه الترابي في مؤتمره الصحافي… وهنا يبرز سؤال مهم: هل كان الدكتور حسن الترابي سيعقد مؤتمرًا صحافيًا ويدين «الانقلاب» على مرسي ويصف ما حدث بالمجزرة ويطالب بمحاكمة مرسي؟؟..
مخاوف مصرية: قُبيل زيارة وزير سلطة الانقلاب في مصر للخرطوم كانت هناك ثمة هواجس مصرية ربما بسبب الشائعات والتقارير التي روجت
الأسبوع الذي سبق زيارة فهمي نبيل لاعتزام القاهرة طرد سفير الخرطوم، بعد سماح الأخيرة لمظاهرات حاشدة الأحد تدين الأحداث الحالية في مصر، وظهور بعض القيادات المحسوبة على الحكومة في تلك المظاهرات.
ويُضاف إلى رصيد تلك المخاوف المصرية تجاه حكومة السودان حيثيات الزيارة التي قام بها للخرطوم رئيس هيئة أركان الجيش المصري الفريق أركان حرب صدقي صبحي في أبريل الماضي
وقال مصدر عسكري مسؤول وقتها لـ « سودان تربيون» إن الوفد العسكري المصري الذي وصل الخرطوم في أبريل الماضي برئاسة رئيس هيئة الأركان بالجيش المصري الفريق أركان حرب صدقي صبحي وهو يحمل تفويضًا بإنشاء قوات مشتركة بين القوات المسلحة السودانية والمصرية، لكن مهمته فشلت لأسباب تتعلق بأن مصر اشترطت إنشاء القوات غرب النيل حتى الحدود مع ليبيا وعدم الانتشار بشرق النيل لأن تلك المناطق الحدودية تشمل منطقتي حلايب وشلاتين ومن الصعب تحديد حدود البلدين في تلكم البلدتين المتنازع عليهما بين الخرطوم والقاهرة، وأضاف المصدر العسكري «أبلغنا الوفد المصري أن إنشاء القوات المشتركة رهين بالانتشار على الحدود بأكملها لتشمل حلايب وشلاتين وهو مارفضته مصر».
وكانت الزيارة أثارت حينها جدلاً واسعاً في البلدين، واعتُبرت تدشيناً لتحالف عسكري بين النظامين الإسلاميين، والتزمت الحكومتان الصمت واكتفتا بأن الزيارة تأتي في إطار تعزيز التعاون بينهما، كانت تلك نقطة أثارت مخاوف الآخرين في مصر، وربما قامت عليها الصورة الذهنية التي أتى بها «فهمي نبيل» للخرطوم.
وقالت بعض المواقع الإخبارية وقتها إن القاهرة تفكر في دعم المعارضة السودانية لإسقاط حكومة الإسلاميين في الخرطوم.
وجدَّد الحزب على لسان عمر باسان المتحدث باسم القطاع السياسي وصف ما يجري في مصر بأنه شأن داخلي، وقال: لن ننجر وراء بعض ممن يحرصون على عكننة العلاقة بين الشعبين الشقيقين، داعيًا القوى السياسية المصرية إلى عدم جر البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار، وإعلاء صوت العقل والحكمة وعدم الانجرار وراء العنف.
وأشار باسان إلى أن زيارة وزير خارجية مصر تأتي في إطار تبادل الآراء والحوار بحسبان أن ما يمس أمن مصر يمس الأمن القومى السوداني، لافتًا الى أن قضية الأمن القومي للبلدين متداخلة ومن الصعوبة فك الارتباط بينهما.
خلافات مكتومة حول الزيارة: ترددت معلومات أثناء زيارة الوزير المصري للخرطوم بأن، هناك خلافات حادة داخل الحزب الحاكم إزاء هذه الزيارة فهناك من يرفضها تمامًا على الأقل في الوقت الراهن الذي لا يزال ميدانَي رابعة والنهضة يحتفظان فيه ببقع متسعة من دماء الشهداء إلا أنه وبسبب الفترة الزمنية الضيقة التي شهدت إعلان الزيارة وحتى حضور «الضيف» لم تتسع مساحة النقاش حولها وتم اتخاذ الموقف الرسمي الذي سبقت الإشارة إليه وسط دهشة البعض ورفض آخرين للزيارة، فيما رأى فريق أن في الزيارة فرصة لتحسين ملف العلاقات مع مصر باعتبار أنها دولة مؤثرة في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة وأن الحكومة السودانية بحاجة إلى دورها في كثير من القضايا السودانية لكن رغم التكتم على هذه الخلافات حول الزيارة ولجم المؤتمر الوطني لكثير من أعضائه إلا أنَّ هذه الخلافات انفجرت داخل البرلمان الذي تتسع فيه مساحة الحرية إذ شهد يوم الزيارة نفسه ملاسنات وخلافات حادَّة وسط نوابه بسبب زيارة الوزير «نبيل فهمي» للخرطوم، واحتج نواب في البرلمان على السماح للوزير لمصري بزيارة الخرطوم وطالبوا بطرده وإعادة الإغاثة المصرية التي دفعت بها حكومة القاهرة لمتضرري السيول والفيضانات الأخيرة، احتجاجًا على ما أسموه مجازر الحكومة المصرية ضد مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، لكن نوابًا آخرين عارضوا تلك الأصوات وقالوا إن الخرطوم لا ينبغي أن تمانع حتى في استقبال وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي. مشادّة ساخنة: وبالبرلمان أيضًا وقعت مشادة ساخنة بين النائبين أسامة عبد الكريم وعباس الفادني حول زيارة الوزير المصري وصاح أسامة قائلاً ــ كما تردد ــ لا مرحبًا بوزير الخارجية المصري وطالب الحكومة بطرده، لكن الفادني رحَّب بالزيارة وأبدى استعداده لاستقبال وزير الدفاع المصري الذي يحمِّله الإسلاميون مسؤولية قتل المعتصمين في ميدانَي رابعة والنهضة، باعتبار أنهما ضيفان على البلاد، وقال الفادني موجهًا حديثه لعبد الكريم لو جاني بضبح ليهو.وأدانت النائبة عائشة الغبشاوي حديث الفادني واعتبرت ما قاله يعرضه للمساءلة، وأعلنت رفضها لاستقبال الخرطوم الوزير، وعندما سألها الصحفيون عن مصير الإغاثة المصرية التي وصلت للمتضررين ردَّت يرجعوها ليهم، وساند الغبشاوي كل من سامية هباني وهاشم عثمان هاشم الذي وصف وزير الخارجية المصري بأنه مجرم وليس ضيفًا حتى يعامَل معاملة الضيوف.
مطلوبات أمنية من الخرطوم: بعد المجازر التي نفذتها سلطة الانقلاب في مصر وتنديد الخرطوم بالمجزرة اشتعلت مخاوف السلطة الجديدة في مصر من أن يتسرَّب «الإخوان» جنوبًا ويجدوا الدعم والمؤازرة من «إخوان» الخرطوم بحكم رباط الآيدلوجيا، لذلك يرى أكثر من مراقب سياسي أن قضية إغلاق الحدود في وجه «الإخوان» وعدم السماح بإيوائهم هو الذي عجّل بزيارة «نبيل فهمي» للخرطوم دون سواها مما جعل زيارته للسودان فوق كل الأولويات، ويعزِّز هذه الفرضية بعض عباراته التي سنوردها هنا للدلالة: في رده على سؤال الحوار الذي أجرته معه الرأي العام: «أن هناك تربصـاً بالعلاقات من قبل البعض ومحاولة للاصطياد في المياه العكرة من خلال الترويج لتهريب سـلاح من السودان وهروب قيادات إخوانية وكذا كيف تنظر لمثل هذه الأشياء؟.. أجاب: «كانت هناك مشكلات حقيقية ويجب أن تعالَج، والجديد أننا نريد أن نعالجها بوضوحٍ وبصراحة، ونضع كل الأمور على المائدة لقناعتنا بأنّ ما يهدد مصر يهدد السودان والعكس».و كذلك قوله الذي بدا وكأنه تهديد مبطن: «أنا عملت اللي عليّا، وقبل أن أتكلم جئت وعلى الجانب السوداني الآن أن يرد على هذا الكلام».. وفي قوله أيضًا: «وإنما نتعامل معها ــ أي الحكومة السودانية ــ حسب تعاملها معنا».
… ولعل في ذلك إشارة إلى رسالة محددة للخرطوم مفادها: إذا دعمتم «الإخوان» فسندعم معارضيكم والحركات المسلحة..
ويبرز هاجس الحدود والقضايا الأمنية لدى مصر أكثر في قول وزيرها: «فيجب أن نطمئن إلى بعضنا البعض ونترك لكل طرف أن يقرر ما يراه داخل وطنه طالما كان التعاون عبر الحدود بغرض المصالح المشتركة.».. وكذلك في قوله «وهناك حديثٌ بيننا عن تعاون على الحدود»..
وكذلك حديثه: «والمشكلة في الماضي أننا كنا ننظر إلى واقع المسألة السودانية أو العكس من منظور قضية واحدة فقط، قضية المياه، وهذا يبرز على حساب قضايا أخرى، ومن ضمنها الهاجس الأمني بين الجانبين».
«ما أقصده إذا تمّ بالفعل بلورة مصالح مشتركة في قضايا كثيرة سيُنظر إلى المفهوم الأمني بشكلٍ أشمل ولن يكون هناك مبررٌ طبيعيٌّ لإثارة قلاقل أو مشكلات تؤدي لتدمير مصالحك».
وفي حديثه أيضًا: «كلما وسَّعنا نطاق التعاون وعمَّقنا جذور هذا التعاون، أبعدنا أيّة قضية عن اعتبارٍ واحدٍ على حساب الاعتبارات الأخرى، علماً بأن المسألة الأمنية مهمة».
وفي قوله: «أعتقد أن ما تضيفه «30» يونيو هو أن ابتعاد الساحة المصرية عن النظرة الأيدولوجية يجعلها تركز في المقام الأول على المصالح الوطنية»
«أنا صريح، وحواري مع الوزير علي كرتي كان حواراً بنّاءً وصريحاً، وطرحنا فيه كل القضايا بين الجانبين بما لدينا من مطالب وما لدينا من مآخذ، إذاً لا أيدولوجية في العلاقة بيننا وبين السودان»..
صحيفة الإنتباهة
أحمد يوسف التاي