دعونا من مصر ( خلونا في حالنا أحسن )

التاريخ لن يغفر لحزب المؤتمر الوطني الحاكم إذا ما أرخي إسدال أذنيه ووقع ضحية لبراثن تلك الأصوات المخنوقة التي تحرض علي التدخل في الشأن المصري وتطالب الحكومة السودانية بالشروع في فكرة ( الوساطة ) بين الرئيس الدكتور محمد مرسي والانقلابي الفريق السيسي ، ذلك لجملة من الاعتراضات السياسية والتاريخية المهمة التي يجب أخزها بعين الاعتبار واستصحابها في مسألة النأي بالقدر المعقول عن التورط فيما لا يعنينا ولا يمت الصلة بأمننا القومي من قريب أو بعيد ، فالنخب المصرية المتعاقبة علي مدار عمر التاريخ السياسي المصري الحديث تنظر نحو السودان علي أنه الأقل مرتبة في حظوة التسلسل المنطقي المستحق لسيادة احترامها ، فالانطباع السائد عن مقدرات الشعب السوداني علي حسن أيجاد الحلول انطباع تلخصه مقولة البرادعي الشهيرة التي قالها بالحرف الواحد : عيب علينا أن يأتي المهدي من السودان ليجد لنا حل !! ، فالثقافة المصرية تجاه جنوب الوادي مبنية علي الروي العقيمة التي تعتقد في إنسان السودان مثله مثل الشعب الصومالي الذي يجب أن ينشغل أولا بهمومه ليوفر الحل لنفسه قبل أن يفكر في عموميات الآخرين ، وهذا هو مربط الفرس ومصر علي حق في كلما تذهب أليه ! والسودان يستحق أن ينال التقريع الكافي والذم الذي يليق به ، فالمخضرم أنور نور في الاجتماع ألتشاوري الذي رعته الرئاسة المصرية مع بعض القوي السياسية لمناقشة أزمة سد النهضة الأثيوبي عندما وصف الموقف السوداني : ( بالمقرف ) ، هو لم يفعل شي اللهم إلا أنه حاول التذكير بحقيقة المفهوم الجمعي للثقافة المصرية التي تقرأ الجنوب علي أساس أنه الضيعة والحديقة الخلفية لشمال الوادي ، فلو كانت العقلية المصرية متواكبة مع اللوازم الفكرية للحاضر ، لتعلمت الحكمة من أسلوب السودانيين في أرسا النظم السياسية المتطورة والمستقرة بفعل العبقرية الناهضة علي أجلال اللحظة وتوقير متطلباتها ، فالسودان في العام 1992م لم ينبت ببنت شفة عندما اعترضت مصر علي أعطاء حكومة السودان حقوق التنقيب عن البترول في المياه المقابلة لمثلث حلايب لشركة كندية وأرسلت الجيوش وتعدت علي الحدود السودانية بتسعة وثلاثون قارة شنتها القوات المسلحة المصرية داخل الحدود السودانية ، أزا كل هذا والسودان لم يحرك ساكنة ليس خوفا من مغبة النتائج العسكرية ، لكن من باب ( إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) لذلك أكتفت حكومة السودان في يوليو 1994م بإرسال مذكرة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والإتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ، ويأتي كل هذا في أطار الحكمة وفي سياق التمسك بأخلاق الجيرة وبتعاليم الإسلام التي تحض علي ( من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يؤذ جاره ) وفي القرآن الكريم ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ (سورة النساء الآية 36 ، وحق الجوار ليس بكف الأذى فقط بل باحتمال الأذى أيضا، وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الجار الصابر على أذى جاره هو من الثلاثة الذين يحبهم الله قال -صلى الله عليه وسلم-: ) ثلاثة يحبهم الله: الرجل يلقى العدو فى فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلوا، فيتنحى أحدهم فيصلى حتى يوقظهم لرحيلهم، … والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن (..
فالمهم أن ما يحدث بمصر شأن داخلي كما استبق السودان الجميع وأكد أنه لا ينوي التدخل فيه ، فالمباد الدينية التي تدعوا ألى ترسيخ التعاليم الوحدوية بين المسلمين وتدعوا ألي واقعية المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له بقية الجسد بالسهر والحمى ، هذه المبادئ يتقنها السودانيون ويحفظوها عن ظهر قلب ! و أنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، فليس بكل قاري متعلم ! ولا بكل مسلم متدين ! والكثير من المجتمعات لحاجة في نفسها ترفض التعلق بفلسفة الدين في وضع الحلول الجذرية لمشاكلها .
لهذا ليس من مصلحة السودان في هذا التوقيت بالذات أن يعتبر الحالة واحدة ، فهو علي الأرجح محط للتساؤل لجميع الأطراف المتصارعة ، فإذا ما حاول أن يمارس دور الوساطة بأمانة سيعتقد فيه الانقلابيين أنه يميل الكفة نحو الإسلاميين وإذا ما حاول طمأنة الانقلابيين سيشعر الإسلاميين أنه يحابي الانقلابيين ، لذا عليه ممارسة الصمت لأنه ابلغ من الحديث أحياناً ، باعتبار أن الأزمة المصرية مليئة بالتعقيدات ألتي تصب جميعها في أطار التعاضد ضد الإخوان المسلمين ، وهي أزمة أعمق من جهود ( كاثرين أشتون ) علي استلهام الحلول ، أنها قصة تنبع من أصل تضافر الجهود الدولية للقضاء علي تنظيم الإخوان ، وبالتالي مصر لن تهدأ في القريب العاجل ! وكل الشعب يعلم يقناً أنه ما من حل جذري سيضع الحد للنهاية المتماثلة في مصر إلا بإرجاع الشرعية لأصحابها وتنازل الجيش عن فكرة الوصاية علي الشعب ، وهذه بداهة لا تحتاج للتوسط أو لعب دور المصلح بين المتخاصمين ، ففي اليوم الذي تصل فيه النخب السياسية المصرية لحقيقة أن السودان هو العمق الإستراتيجي لمصر وللعروبة وللإسلام وأن السودانيون من المسئولية ورجاحة العقل بحيث ظلوا علي طول العصر الحديث يكفوا أذي اسرائيل عن أفريقيا ، حينها فقط يمكن لتلك الأصوات السودانية التي تطالب بالتوسط لحل الأزمة أن تتماد في بند المطالبة !

عبدالرحيم محمد سليمان

Exit mobile version