بلغ مجموع الناتج الإجمالي وهو مجموع كل السلع والخدمات التي تمّ إنتاجها في العام 2012م بالأسعار الثابتة (243.412) مليار جنيه سوداني محرزاً انخفاضاً يقدر بـ (8%) عن العام السابق. يرجع سبب هذا الانخفاض بشكل أساسي لخروج النفط من المعادلة الاقتصادية وأسباب أخرى تتعلق بتدهور إنتاجية كثير من القطاعات الإنتاجية في الدولة.
فيما حقق قطاع الخدمات ارتفاعاً طفيفاً يقدر بـ (1%)، كما حقق القطاع الزراعي ارتفاعاً خفيفاً يقدر بـ (2%). ضعف الإنتاجية أدى ذلك لتصاعد معدلات التضخم (ارتفاع أسعار السلع) من (18%) في العام 2011م إلى (41%) في العام 2012م، وقفز إلى (48%) في هذا العام 2013م. ولولا ارتفاع عائدات التعدين والذهب الذي امتص صدمة توقف البترول لوصلت معدلات التضخم لأرقام خرافية. قاد كل ذلك لانخفاض معدل النمو الى (1.36%) في العام 2012م. ومتوسط معدل النمو من 2000 الى 2010م (7.2%).
في تصريحات صحفية الأسبوع الماضي للسيد بابكر محمد توم رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان، قال إنّ صادرات السودان تراجعت من (9.12) مليارات دولار إلى (4.5)مليارات دولار في العام 2012م. وفي ذات الوقت الذي تدهورت فيه صادرات السودان بعد خروج النفط وتصاعدت فيه الواردات بشكل جنوني، إذ قفزت من (4) مليارات دولار الى (8) مليارات دولار مسببةً عجزاً في ميزان المدفوعات الخارجي بلغ (4 مليارات دولار). في الوقت الذي تتآكل فيه احتياطيات النقد الأجنبي ببنك السودان بشكل مريع، ولولا المنحة القطرية (1.5مليار يورو) لأصبحنا اليوم في محنة. أدى كل ذلك لتدهور سعر الصرف وبلغ بالأمس سعر الدولار في السوق الموازي (7.35) جنيهات، فيما بلغ السعر الرسمي بحسب بنك السودان (5.5) جنيهات.
إذا أضفت لهذا المشهد الكارثي ما تعانيه موازنة العام 2013م لا تملك إلا أن تضع يدك على قلبك خوفاً من انهيار محتمل لكل العملية الاقتصادية. فإيرادات الدولة الشهرية لا تتجاوز (2000) مليار جنيه (2 تريليون بالقديم)، في حين تبلغ المصروفات (2600) مليار وستمائة مليون جنيه (2 تريليون وستمائة مليار شهرياً) بعجز (600) مليون جنيه شهرياً ما يساوي ستمائة مليار بالقديم شهرياً!!. أي بعجز سنوي يبلغ (7.2) تريليون بالقديم، تغطي منه (2.5) مليار بالاستدانة من البنك المركزي فيصبح العجز الحقيقي للموازنة (10) مليارات جنيه (عشرة تريليونات بالقديم) أي ثلت الموازنة التي تبلغ (30.5) مليار جنيه أي (30) تريليون وخمسمائة مليار جنيه.
ليس ذلك فقط، فإذا ما أضفت إلى ذلك العجز الذي يسببه دعم البترول 2600 (2 تريليون و60 مليار جنيه بالقديم)، إضافةً لدعم القمح الذي بلغ (اثنين مليار) أي (2 تريليون مليار جنيه بالقديم) أي دعم السلع بـ (4) مليارات وستمائة مليون جنيه بذا يصبح العجز (4 تريليونات وستمائة مليار جنيه). يعني ذلك باختصار أن الموازنة الجارية تواجه عجزاً كلياً يبلغ (11) مليار و(860) مليون جنيه (11 تريليون و860 مليار جنيه بالقديم). يا ترى من أين للدولة موارد لسد هذا العجز وسط مطالبات بزيادة الأجور، إضافةً للحروب الجارية ومنصرفات الولايات الجديدة واستحقاقات اتفاقيات السلام المتعددة؟. (عايرة وعايزين يدوها سوط).
إلى هنا صورة ما يواجهه اقتصادنا من ضعف في الإنتاجية وعجز في ميزان المدفوعات وعجز من الموازنة العامة تبدو واضحة وشديدة القتامة، ولكن لا أحد يرى تلك الصورة كما هي أو كما تراها أعيننا وتثبتها تقارير الدولة نفسها، ثم لا أحد يقول لنا ما المخرج. السيد وزير المالية لا يقول شيئاً، صمت عن الكلام المباح ثم صمت الخبراء عن أي اقتراحات يمكن أن تخرجنا من المأزق. ما هي البدائل وما هي الفرص المتاحة للخروج الآمن من نفق أوضاع اقتصادية ترمي بشرر أمام أعيننا ولا أحدٌ ينهض لمنع الحريق.
نواصل طرح بعض الأفكار لعل وعسى تسهم في إيقاد ضوء في النفق.
بالأمس قلنا إنّ صورة ما يواجهه اقتصادنا من ضعف في الإنتاجية وعجز في ميزان المدفوعات وعجز من الموازنة العامة تبدو واضحة وشديدة القتامة، ولكن لا أحد يرى تلك الصورة كما هي أو كما تراها أعيننا وتثبتها تقارير الدولة نفسها، ثمّ لا أحد يقول لنا ما المخرج، ما الحلول المقترحة وما البدائل المتوافرة.
يجري الحديث الآن عن مخرج وحيد للأزمة تركز عليه الحكومة وهو رفع الدعم عن السلع، وفي ذات الوقت تخشاه لأنها تحسب الكلفة السياسية للإجراءات القاسية التي تصاحب تنفيذ رفع الدعم عن السلع والخدمات. الحقيقة انّ رفع الدعم عن السلع والخدمات لا يحل الأزمة. فكل دعم الحكومة للسلع لا يتجاوز الـ (4.660) مليارات جنيه (أربعة تريليونات وستمائة وستين مليار جنيه)، فيما يبلغ عجز الموازنة (11) تريليون، فمن أين للحكومة إمكانات لسد العجز؟. ثم من أين لها سد العجز في ميزان المدفوعات؟. لا يبدو لي الآن أنّ الحكومة تفكر في حلول ومخارج أخرى أو أنها لا تقدر عليها.
الأزمة الاقتصادية بحاجة لحزمة إجراءات سياسية واقتصادية ولن يجدى أي حل منفرد. الإجراءات السياسية لابد أن تستهدف أولاً وقف الحروب الجارية بالبلاد، لأنّ الإنفاق عليها يستهلك أغلب موارد الموازنة ومن جهة أخرى يعطل التنمية ويعيق تدفق الاستثمارات الخارجية، ثم انّ تلك الحروب تشوِّه صورة الدولة وتسهم في تأزيم علاقاتها الخارجية مما يجعل الأمل في الحصول على أي تمويل خارجي ذا قيمة، ضرباً من الأماني. ولذلك فإنّ المبادرة السياسية الفعالة بالانتقال لمربع آخر بعيداً عن الصراعات السياسية والحربية لصنع الاستقرار هو جزءٌ من الحل، والدولة هي المناط بها قيادة تلك المبادرة.
في الإجراءات الاقتصادية لا يكاد المرء يفهم الحكمة من التوسع في زيادة الولايات والإنفاق عليها في ظل موازنة تعاني عجزاً مُذهلاً، ثم ما الحكمة في التعنت في موضوع النفط والخزانة خاوية. فخفض الإنفاق الحكومي بشكل صارم بوقف فاتورة الترضيات السياسية التي لا سقف لها جزء مهم من عملية وقف التدهور. هذه الإجراءات قاسية ومُرة ولكن لا مناص منها، البديل هو الإفلاس التام.
تحتاج الحكومة بعد وقف نزيف منصرفاتها للتفكير خارج الصندوق وابتدار بدائل أخرى لا علاقة لها بالوسائل القديمة التي درجت عليها والحلول السهلة التي ظلت تلجأ إليها مثل رفع الدعم وزيادة الضرائب. فالآن ليس ممكناً فرض ضرائب جديدة، ولكن هناك فرصاً في توسيع المظلة الضريبية وهو ما يعمل عليه الآن ديوان الضرائب بجد، فمن خلال الورشة التي عُقدت نهاية العام الماضي اتضح أنّ هناك فرصاً لا تزال في الوصول لقطاعات أخرى متهربة من الضرائب وتحقيق عائدات تفوق ما هو مرصود في الموازنة.
هنالك مليارات هاربة الآن من الدولة من جرّاء علميات التهريب الواسعة للدولة المجاورة، بل أنّ كثيراً من تلك الدول لا تنتج شيئاً ويكاد يكون اقتصادها قائماً على تهريب السلع من السودان وهو التهريب الذي ظل يسرح ويمرح من خلال الحدود دون أن تستفيد الدولة منه مليماً واحداً، بل تسهم بدعم تلك الدولة بالسلع الرخيصة والمدعومة من مواردنا الشحيحة. رفع الدعم بشكل محدود عن سلع معينة يمكن أن يسهم في خفض العجز، إلاّ أنه ليس حلاً جذرياً.
علاج العجز في ميزان المدفوعات الذي يؤثر في التضخم يعتمد أساساً على مقدرة الدولة في خفض الواردات بشكل حاسم مما يخفض الضغط على الدولار بالسماح باستيراد السلع الأساسية وبأسعار تتحكم الدولة فيها ولا تترك السوق يفعل بنا ما يشاء.
زيادة الصادرات يمكن أن يكون جزءاً من الحل ولكنه غير ذي جدوى في ظل أوضاع إنتاجية متدهورة. فرفع معدلات الإنتاج خاصةً في سلع الصادر يسهم في زيادة معدلات تدفق العملات الصعبة للخزينة التي أصبح موردها الأساسي هو الذهب الذي يتم شراؤه بتكاليف عالية تؤدي لرفع الدولار في السوق الموازي بسبب خسائر بنك السودان من جراء شراء الذهب بأسعار عالية وبيعه بسعر مُتدنٍ لحصد العُملات الصعبة.
لا أعرف ما هي قدرة الدولة في الحصول على قروض نقدية وسلعية لأنها من ضمن الحلول العاجلة التي تسد عجز ميزان المدفوعات. للأسف أنّ كثيراً من القروض تم ربطها بقضايا سياسية حتى من قبل الدول العربية التي خُضعت الآن لضغوط الغرب. عموماً نحن بحاجة لسياسة خارجية تحسب حساب المصالح جيداً.
في ثنايا حديث الأستاذ علي عثمان الأسبوع الماضي ما يشي بأنّ الدولة تفكر في تغيير من نوع ما، حين أشار لرؤية يعدها السيد الرئيس لحل مشاكل البلاد. وفي تقديري أن تلك الرؤية لابد أن تكون شاملة تقدم حزمة واحدة من الحلول السياسية والاقتصادية لأن أي مقترحات لا تتسم بالشمول لن تكون فرص نجاحها أفضل من سابقاتها. الخرطوم :عادل الباز:رئيس تحرير صحيفة الرأي العام