كثيرة هي الأمكنة التي يمر بها المرء في حياته، وقليلة تلك التي تبقى مضيئة في الذاكرة..عدت البارحة من البحر الأحمر بعد نصف شهر أعدت خلاله اكتشاف هذه الولاية وكأني لم أزرها من قبل..أمكنة تلك الولاية، كانت ولاتزال وستظل من الأمكنة الحبيبة إلى نفسي، ولي فيها من الأهل والأصدقاء والمعارف ما تسعدني رؤيتهم ومؤانستهم، وكنت أشفق على حالهم عند كل زيارة ثم أغادرهم بلسان حال قال ( الله يكون في عونكم، البحر المالح وحيتانه من خلفكم و ولاة أمركم وبؤس نهجهم من أمامكم، فطوبى لكم)..وكان الولاة عهدئذ بدوي الخير والسماني الوسيلة ومجذوب أبوعلي ووزراؤهم، تراهم – على مدار العام – يجلسون على سدة مناصب تزرع الفقر و تسقي الجهل وتحرس الإحباط بمنتهى اللامبالاة، ثم لايخدمون الناس والحياة إلا بشح الخدمات وتنشيط نفايات الأطلال والتوابيت المسماة عهدئذ بالمدائن والأرياف، وكأن القدر جاء بهم إلى البحر الأحمر ليكونوا ولاة أمر الناموس والذباب والغراب والظلام والمرض واليأس والفشل، وليسوا بمسؤولين عن محاربة البؤس بالأفكار والسواعد..كانت ولاية بائسة، بكل ما تحمله هذه المفردة من معانٍ، ولم يكن فيها ما يستحق توثيقه في الذاكرة بحيث يبقى مضيئاً غير إنسانها الطيب ..!!
** ولذلك، لم أجد وصفاً لما يحدث في البحر الأحمر اليوم غير أنها المعجزة..لقد تغير كل شيء، وما لم يتغير بعد يمضي نحو التغيير بخطى سريعة، وأجمل تلك المتغيرات هي مجتمع البحر الأحمر، بحيث لم يعد هو ذاك المجتمع الذي كان يائساً يحدث نفسه وكل طوب الأرض عن بؤس حاله، رغم أن الحال العام عهدئذ لم يكن بحاجة إلى حديث متحدث..سقوفات المطالب لم تعد هي توفير المدارس والمشافي والكهرباء وعربة نفايات وغيرها، بل تلك وغيرها- التي كانوا يستجدونها الوسيلة وبدوي وأبوعلي – أصبحت – في ثقافتهم – من الحقوق التي تتكاثر بينهم شهراً تلو الآخر، وهم يعضون عليها بنواجذ الوعي الجديد، ويشكلون لجانهم من أريافهم وأحياء مدائنهم ويدعون واليهم إلى زيارتهم ثم يتلون له أمام أهل المنطقة ما ينقصهم من تلك الحقوق..!!
** ولكن المدهش،أن الأهل هناك لايكتفون بعرض النواقص لحكومتهم، بل يشكلون لجنتهم التي تقود العمل نحو إكمال النواقص، ساعداً بساعد وقرشاً بقرش مع حكومتهم،ولذلك لانخطئ حين نقول بأن المجتمع بالبحر الأحمر هو الذي يقود الحكومة نحو التغيير الإيجابي، وليس العكس..ولأن الحكومة جنت ثمار هذه القيادة المجتمعية، اكتفت بدورها الرقابي والتشريعي والإشرافي، تاركة للمجتمع صناعة كل الأشياء ذات الصلة بصحته وتعليمه وبيئته وخدماته..نعم، المجتمع هناك أصبح عريضاً، فكراً ونشاطاً وآمالاً، مقابل حكومة صغيرة ذات أدوار إيجابية تتكئ على جدار التخطيط والتشريع فقط لاغير..ومن تلك الثقة التي توفرت بين الحكومة والمجتمع،حصدت البحر الأحمر – ولاتزال – الكثير من الإنجازات، وقد تدهشك نسبة من شاكلة (100%)، وهي نسبة توفر الكتاب المدرسي بكل مدارس البحر الأحمر،بحيث لاعجز كما في كل ولايات السودان..وقد تدهشك أيضاً نسبة من شاكلة (140%)، وهي نسبة فائض إجلاس تلاميذ كل مدارس الولاية المخزنة بمخازن الولاية، بحيث لاتجد تلميذاً يتخذ الثرى مقعداً، كما الحال في كل ولايات السودان، بما فيها عاصمة البلد..!!
** ليس ذاك فحسب، بل يدهشك رقماً من شاكلة ( 2 مليار جنيه)، وهو القيمة المدفوعة شهرياً لغذاء تلاميذ مدارس كل أرياف الولاية.. أكرر( مدارس كل أرياف الولاية)، تدفعها خزينة الولاية للجان وإدارات المدارس شهرياً قبل أن تدفع لوزير التربية والعاملين معه رواتبهم..بهذا النهج السليم تدنت نسبة التسرب في مدارس الأرياف وتقزمت بحيث كثيرة هي الحكاوي عن أولياء الأمور الذين يذهبون بالأبناء إلى المدراس، ولا تقبلهم إدارات المدارس التزاما بالقانون الذي يرفض قبول من هم دون الست سنوات عمراً، أي الغذاء مقابل التعليم ليس محض شعار تخدع به البحر الأحمر الإعلام والحكومة المركزية، أو كما حال الشعارات التي تطلقها ولايات السودان الأخرى بين الحين والآخر لتخدع الإعلام وتنال رضا المركز، بل ذاك الشعار واقع يعكسه مشهد التلاميذ الذين ينهمرون صوب مدرستهم الأنيقة من قمم جبال دروربا..بالمناسبة،هل فضائتنا المسماة بالقومية تعرف أين تقع دروربا ؟..على كل، ما يحدث بالبحر الأحمر نموذج لثمرة تلاقح نهج الحاكم وجهد المجتمع ياولاة ولايات السودان..وفي غير هذه المساحة- وبالصور التي لاتكذب، وبالأرقام التي لاتتجمل – سأنقل ما يحدث بالبحر الأحمر بلسان حال يتساءل( هل هكذا بدأت ماليزيا..؟؟)..وهي كتابات ليست للمواطن، بل لولاة الولايات الأخرى، عسى ولعل أن تصيبهم الغيرة فـ(يتغيرون)..!!
إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]