خرجت الأبيض، كبرى مدن كردفان، كما لم تخرج من قبل.. وإن شئت الدقة، فقد خرجت أمس كردفان شرقها وغربها، جنوبها وشمالها بالأمل والرجاء و(العشم) في أحد أبنائها العائدين لأحضان الأبيض بالتعيين والياً بعد أن نزعت عنه تدابير تقسيم كردفان لولايات ثلاث مشروعية (والٍ منتخب) وأضفت عليه صفة (والٍ معين)!! خرجت كردفان من قبل لـ”الفاتح بشارة” قبل أن تخرج عليه، واستقبلت كثيراً من الحكام والولاة.. ولكنها في تاريخها لم تستقبل والياً كاستقبال “هارون” إلا “إبراهيم السنوسي” حينما دفعت به الإنقاذ لكردفان حاكماً.. فتعلقت آمال على عنقه وهفت إليه قلوب وبللت ثيابه دموع.. وما بين الثاني والعشرين من يوليو عام 1997م، حينما ذهب “السنوسي” حاكماً منتخباً من المجلس التشريعي، والحادي والعشرين من يوليو 2013م حينما احتضنت الأبيض ابنها وفلذة كبدها “هارون” ستة عشر عاماً، هي عمر حكومة مايو التي كانت حتى وقت قريب أطول حكومات السودان عمراً بعد المهدية، لتأتي الإنقاذ وتحطم الرقم المسجل باسم “جعفر نميري”.. ويوم أن شاهد العقيد الراحل “أروك طون أروك” جماهير الأبيض تتسلق الأشجار ومبنى سينما عروس الرمال وحتى أسوار الكنيسة وقلوبها وآمالها معلقة بالرجل، قال “أروك” لـ”السنوسي”: (ليس مهماً أن تستقبلك هذه الجماهير ولكن المهم أن تودعك بذات الكثافة والحرارة)، وبعد (30) شهراً خرج “السنوسي” من الأبيض كما خرج الشاعر الليبي “أحمد رفيق المهدوي” وهو ينشد: خرجت من موطني مثل الطريد فما ودعت خلاً ولا أدركت ثاراتي!!
ويوم انتخاب كادوقلي لـ”هارون” والياً، لم يتركوا لكادوقلي أن تفرح ولو بطريقة خجلة.. غمرتها الصواريخ و(كتمت) أرضها.. ومشى ابن السابعة والأربعين من العمر على الأشواك و(قصدير) الرصاص والألغام، حتى قررت القيادة أن تشفي به جراح رمال طال أنينها.. ومن المفارقات أن الجماهير التي خرجت قبل ستة عشر عاماً تستقبل “السنوسي” كان مطلبها (شربة) ماء و(لمبة) ضوء و(جرعة) دواء لامرأة تعثرت في الولادة بـ(الحبل وداية الشنطة)، وحملوها على ظهر (حمار أشقر) للأبيض، ولكن طبيب النساء والتوليد الوحيد قد غادر المدينة احتجاجاً على تدهور مستشفى الأبيض الذي فشل “أسامة عبد الله” في تنفيذ توجيهات الرئيس بشأنه أيام الانتخابات.. فهل يفلح “هارون” في إعادة إحياء توجيهات الرئيس قبل أن تموت مثل نبات (الكول) حينما تمسك السماء ماءها عن الأرض، كما هو حال كردفان هذا العام، الذي تنذر بجوع وجدب وجفاف إلا إذا حدثت معجزة فيما تبقى من أيام الخريف وعادت دموع المطر للانهمار!
{ هم أهلها حُمر وزُرق وشُقر!!
تتوق شمال كردفان إلى ثلاثة تطلعات.. أقر الوالي “هارون” في أول خطاب له بأنها ليست مجرد تطلعات، وإنما حقوق واجب المسؤولية يملي عليه وأعضاء حكومته (إنزالها) لأرض الواقع.. ماء قراح من بحر أبيض.. وطريق يجعل المسافة بين أم درمان بقعة الإمام “المهدي” و(أبو قبة فحل الديوم) أي كبير المدن بنظر أهل كردفان فقط (340) كيلومتراً بدلاً من (740) كلم الآن.. ومستشفى لعلاج السقيم.. ومن أجل تلك الثلاثية جاءت أمس إمارة (الهواوير) يقودها ناظر “حسن آدم نمر”.. وجاءت إمارة (الشويحات) من الأبيض المدينة بنحاسها على صهوة حصان الأمير “مصعب بشير الشريف”.. وجاءت الجبال البحرية سكان الصحراء من (سودري) و(حمرة الوز) يتقدمها “قرشي دوليب النعمة”.. وجاءت نظارة (البديرية) من (أم صميمة) و(أم رماد) يتقدمها الزين (الزين) “ميرغني زاكي الدين”.. وجاء (الجوامعة) الذين سبقوا أهل السودان بالارتقاء بالنظام الأهلي حينما جعلوا أميرهم د. “هارون الطيب هارون” المحاضر بكلية الطب، والطبيب الذي يشفي السقيم ويعقد مجلس الحل ويصد عن الجوامعة والجمع والجموعة نوائب الدهر.. ومن (أم بادر) التي افتتحت بجمال نسائها “الناصر قريب الله” وخلد فتنته “كابلي” عن فتاة تجني ثمر السنط في انفراد الغزال، واليوم حفيد تلك الفتاة “عبد الله الأعيسر” من (أم بادر) حمل نحاسه.. وجاء (الكبابيش) فرسان (كجرات) على ظهر نياق الناظر “التوم حسن التوم”.. وجاء من (المزروب) ناظر (المجانين) “سليمان جابر”.. و(الشنابلة) أهل الضرع والفزع جاء “محمد العبيد عكام”.. ومن (طيبة الزعيتير) و(جريجج) جاء “محمد أحمد تماس” الذي أنشدت أجمل نساء غرب السودان في مدحه: (الغالي تمر السوق لو قسموا ما بحوق زولاً سنونو بروق في محكمة زانوق)، ولا تزال محكمة دار حامد صامدة، رغم أن مولانا “أحمد أبو زيد” قاضي قضاة كردفان، وحاكم كردفان في مقبل الأيام، قد كافح المحاكم الأهلية وبسط القضاء في القرى الصغيرة والكبيرة، وسد ثغرات كان الظلم يتسلل منها كتسلل النساء العاشقات للقاء من يحبه القلب في رمال بارا.. وجاءت (جبال النوبة) بكل سحناتها ونسائها (يلبسن) الكاكي ويذرفن الدموع على انتقال “هارون” من (كلمو) و(حجر الملك) و(كلباء) و(مرتا) و(الرقفي) و(كركراية) إلى (حمرة الوز) و(أم قوزين) وأم (غوغاية) وعنقرة (الرهبواية).. جاء هؤلاء جميعاً ليشهدوا على “أحمد هارون” يوم قدومه!! ماذا يقول؟؟ انتظاراً ليوم حساب نراه قريباً حين تنقضي الدورة الانتخابية ويقرع الجرس إيذاناً بدخول جميع الأحزاب الامتحانات.. وعشرات اللافتات رفعت تطالب بالماء من النيل ولا شيء سواه.. والأبيض حينما اقتربت الطائرة من الهبوط تبدى شعثها وغبارها وجفافها وحزنها، والمدينة تصوم رمضان ابتغاء وجه الله.. وتصوم أطرافها جوعاً بنقص (العيش).. وتصوم عطشاً حتى عز ماء الوضوء وغسل وجوه نساء ناعمة بأصلها مضيئة بغير (محسنات)، ومئات القيادات الكردفانية ومن السودان العريض أخذت على عاتقها وداع “هارون” وحمله على أكتافها، يتقدمها مولانا “أحمد إبراهيم الطاهر” رئيس البرلمان وحفيد سلطان الفور “أحمد سعد عمر” الذي لم يخاطب الجماهير ربما خوفاً من عودة الحزب الاتحادي الديمقراطي للأبيض وتقديم “حسن عبد القادر” جديد و”حسن حامد مهدي” آخر النواب السابقين للأبيض حينما كان للاتحاد الديمقراطي قواعد ووجود.. ولكن الآن حتى رئيس البرلمان لا يتذكر من هو ممثل مدينة الأبيض في المجلس الوطني!!
جاء الفريق “إبراهيم الرشيد” القائد السابق للفرقة الخامسة مشاة بحق (الملح والملاح) وبعض الذكريات، وأهل الأبيض يحفظون للفريق “الرشيد” أفضالاً ويذكرونه بالشجاعة والإقدام، وهو بالطبع لم يأت ممثلاً لمنبر السلام الذي لا يحفل كثيراً بكردفان وأهلها.. وجاءت أسماء كالفريق “الحضيري” واللواء “الطيب عبد الرحمن مختار” وابنته الكاتبة “حرم الرشيد” التي اكتشف كثيرون كردفانيتها بعد أن خذلتها دموعها وهي تعانق أهلها.. وجاءت د. “فدوى” وجمعية (الأبيض مدينتي).. وجاء “سلمان الصافي” ونخبة من الصحافيين والكتاب وأساتذة الجامعات كالدكتور “محمد محجوب هارون”.. ولا تحصي المساحة النجوم التي لا تذكر وينبغي أن تبقى في الخاطرة.
{ ملعب “الفكي” وحساب “ميرغني”
قال المهندس “آدم الفكي” والي جنوب كردفان إن ثلاثتهم يمثلون فريقاً يصد عن الخرطوم التمرد المسلح بتنسيق مشترك، وشبه “الفكي” حالهم كفريق يلعب هو ورفيق دربه الجنرال “أحمد خميس” في الوسط، مهمتهم تنظيم اللعب دفاعاً وهجوماً ومن خلفهم (سيردباك) هو مولانا “أحمد هارون” آخر مدافع في فريق الإنقاذ إذا تخطاه هجوم الخصوم فيصبح المرمى مكشوفاً، ولم يحدد “الفكي” من يحرس مرمى الإنقاذ.. هل هو “الشنبلي” في ربك أم الخرطوم جوه؟! ومدح “آدم الفكي” الوالي “هارون” ووصفه بفارس (الكتمة) الذي رفع شعار (الصاروخ ولا النزوح)، (الدانة ولا المهانة) حتى صمدت (كادوقلي)، وقال إن ولايات كردفان الثلاث تمثل مقبرة لأحلام الجبهة الثورية ومتمردي قطاع الشمال.. وقال اللواء الركن “أحمد خميس” إن بلاداً تحرسها خلاوي (خرسي) و(أم سعدون) و)الزريبة) و(أم دم حاج أحمد) لن تجوع ولن تدنسها أقدام التمرد.. وأكد أن كردفان هي الملجأ والملاذ لأهل السودان.. وحينما صعد والي شمال كردفان السابق (المستقيل) “معتصم ميرغني حسين زاكي الدين” لإلقاء خطبة الوداع والنظرة الأخيرة لجماهير الأبيض قبل أن يستعيد لياقته لسباقات قادمة، قال إنه تعهد في كتابه الانتخابي بحل مشكلة مياه الأبيض وسعى وكدح ولكنه لم يفلح.. وشهد عهده إنصافاً للعاملين بالدولة بصرف رواتبهم عند حلول أجلها.. وكان الوعد وصول التيار القومي من سد مروي وتحقق الوعد.. وعاد “معتصم ميرغني” ليذكر القواعد بضرورة النظر بواقعية للمشكلات، حيث يستغرق وصول الماء من بحر أبيض (4) سنوات وطريق (بارا الأبيض) مثلها من السنوات، لكن النجاح الذي تحقق في امتحانات الشهادة السودانية هذا العام ودخول أربعة طلاب ضمن المائة الأوائل لم يحدث منذ أن وئدت (خور طقت) ومشت الجامعات البائسة وراء جنازتها.
وأقر الوالي بترجله عن كرسي الولاية لأسباب صحية، ولكنه يبقى جندياً مخلصاً لتلميذه “أحمد هارون” يقف إلى صفه وينفذ ما يطلبه.
وخرق مولانا “أحمد إبراهيم الطاهر” بتواضعه البروتوكول، وقرر الحديث قبل الوالي “أحمد هارون” تقديراً منه للوالي الجديد، ولكنه جاء يرتدي عباءة كردفان والأبيض.. وكشف (الطاهر) عن حاجة الأبيض لـ(10) ملايين دولار لشبكة المياه الداخلية، وأماط اللثام لأول مرة عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى توقف العمل في طريق (بارا – أم درمان).. وقال: (توقف العمل بسبب انفصال الجنوب وتعثر القرض الصيني الذي كان مخصصاً لقيام الطريق)، لكنه تعهد بالعمل مع “هارون” و”الفكي” و”أحمد خميس” الذي منحه رئيس البرلمان صفة الفارس الذي يعرفه المتمردون قبل المواطنين.. وقال إن “الفكي” ظل مجاهداً في جنوب كردفان لـ(20) عاماً.. وأكد أن الولاة الثلاثة يشكلون منظومة واحدة لتنمية كردفان وتطويرها.
وسجل “أحمد إبراهيم الطاهر” اعترافاً آخر، بأن الحكومة خلال السنوات الماضية انصرفت لتنمية الشرق ودارفور لظروف تلك الولايات، والآن سينصرف الاهتمام المركزي لولايات كردفان في عهدها الجديد.
{ تعهدات “هارون”
قبل أن يصعد “هارون” إلى منصة مخاطبة الجماهير، قدم شاعر كردفان “الوسيلة” مرافعة أخرى نالت رضا الجماهير والقيادات، وعدد مآثر كردفان ودعا للتغير.. “أحمد هارون” أثنى على عطاء من سبقوه من الولاة وآخرهم “معتصم ميرغني” وقال إن مشكلات كردفان دين في الأعناق، وحل مشكلة المياه أولوية قصوى، ومستشفى الأبيض هو جزء من برنامج نهضوي كبير سينتظم كردفان في السنوات القادمة.. وقال “هارون” إن معركة التنمية والنهضة مسؤولية جميع قطاعات المجتمع.. وتقطعت أحبال صوته وهو يتحدث حديث العارف عن قضايا المنطقة وأولوياتها.. رغم زمهرير الصيف وصوم رمضان وحرارة يوم الحادي والعشرين من يوليو 2013م، انصرفت الجماهير على أمل أن يتحقق الرجاء في رجل تجربته السابقة في جنوب كردفان أثبتت قدرة على العطاء!!
يوسف عبد المنان –
صحيفة المجهر السياسي