مصر:أول سابقة في العالم يوجه وزير الدفاع والقائد العام للجيش إنذاراً إلى القائد الأعلى

مكابر من يحاول تقليل دور مصر في المعادلة السياسية الإقليمية والعالمية، فمصر رقم لا يمكن تخطيه في المعادلة السياسية الإفريقية أو الشرق أوسطية. ولهذا عمل الاستكبار العالمي على تقليص هذا الدور، وللأسف نجحوا في ذلك لحد بعيد!! كانت كامب ديفيد بداية تقليص الدور الشرق أوسطي، وكان نتيجة ذلك عزل مصر عن دورها الأساسي في القضية المحورية للمنطقة وهي قضية فلسطين!! بعد الربيع العربي في مصر ظهرت قوى سياسية في الشارع المصري، عملت فيها عوامل التعرية السياسية ما عملت، حتى أصبح أثرها باهتاً على الشارع المصري، ولكن قوى أخرى ظهرت على المسرح السياسي وهي قوى منظمات المجتمع المدني والتي نالت الدعم والمؤازرة من قبل الولايات المتحدة، وهي الأداة الأمريكية الفاعلة في المجتمعات التي رزحت عشرات السنين تحت حكم العسكر والأنظمة القمعية، وقد نالت من أمريكا مصطلح القوى الناعمة!! الدعومات المليونية لهذه المنظمات كانت بغرض دعم الديمقراطية وليس دعم المواطن الذي يعاني من الفقر والمرض، وقد تحولت هذه المنظمات إلى واجهات سياسية رغم أنها اتصفت أو ارتبطت بالمجتمع المدني الذي تمثل السياسة آخر اهتماماته!! بالتوجيه والدعم الأمريكيين دخلت منظمات المجتمع المدني كعامل سياسي في المعادلة رغم أنه منظور إليه كعامل اجتماعي، أضاف هذا العامل تعقيداً للمعادلة السياسية المصرية، فالأحزاب التقليدية فقدت بريقها والأحزاب العقائدية العلمانية بعد التطورات العالمية كاختفاء الشيوعية وأفكار البعث أصبحت مجرد شظايا أحزاب أصابها اليتم سياسياً واقتصادياً فما عادت تملك ذات التأثير السياسي حتى بالضجيج الذي كانت تحدثه سابقاً، وعوامل التعرية السايسية بدأت على هذه الأحزاب في بواكير الستينات حيث عامل عبد الناصر تلك الأحزاب الشيوعية بكل خشونة تحت سمع وبصر الاتحاد السوفيتي الذي لم يُبد اعتراضاً يُذكر عليها، وهكذا الحال ينطبق على حزب البعث ولو بصورة أخف!! ومن غرائب السياسة أن هذه الأحزاب توجهت كلياً إلى الولايات المتحدة بعد أن فقدت مصادر تمويلها، فكانت منظمات المجتمع المدني إحدى وسائل التقرب إلى أمريكا، وهكذا فعلت الأحزاب التقليدية. لكن كامب ديفيد أدخلت معاملاً آخر في المعادلة المصرية، وهذا أخطر عامل في المعادلة كلها، فجعلت من الجيش المصري مؤسسة مستقلة تماماً بعد أن حررتها من مواجهة إسرائيل، فتحولت ولو بدون إعلان إلى مؤسسة سياسية تقول الكلمة الفيصل في النزاع السياسي معتمدة في ذلك على البندقية، والذي ساعدها في ذلك الدور الاقتصادي الذي تقوم به هذه المؤسسة التي وضعت يدها على خمسة وثلاثين في المائة من الاستثمارات في مصر، وهي المؤسسة الوحيدة التي لا تعتمد في ميزانيتها على الموازنة المصرية، بل أقرضت الحكومة المصرية بقرض قيمته اثنين مليار دولار!!
أمريكا تدفع قيادة الجيش بتهديد وحيد وهو إيقاف المعونة التي تقدمها للجيش المصري وهذا يزعج قيادة الجيش المصري كثيراً، والتي بدورها تتدخل تدخلا مباشراً في المعادلة السياسية. رئيس الجمهورية في أي بلد كان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذه قاعدة لم يشذ عنها إلا قيادة الجيش المصري، التي أرسلت إنذاراً للأطراف المتنازعة بما فيها رئيس الجمهورية الذي دخل ضمن قائمة المنذرين، لأنه كان المقصود بالإنذار دون سواه رغم أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة!!
وكأول سابقة في العالم يوجه وزير الدفاع والقائد العام للجيش إنذاراً إلى القائد الأعلى لذات القوات وينفذ إنذاره وينقلب عليه بعد يومين من الإنذار!!
لا يمكن لأي قائد جيش أن يقوم بما قام به وزير الدفاع المصري ما لم يكن ظهره مسنوداً من قوى أقوى بكثير من قوة رئيس الجمهورية وأقوى بكثير من دستور البلاد الذي تسير الحياة فيها بمقتضاه وهذه سابقة هي الأولى من نوعها، فالذي يريد أن ينفذ انقلاباً عسكرياً ينفذه في غاية السرية ولكن يبدو من قرائن الأحوال أن وزير الدفاع «كانت إيده مليانة وظهره مسنود» فأعلن عن انقلابه قبل يومين من تنفيذه!! كما أن قيادة الجيش المصري مسنودة بعامل مؤثر آخر هو العامل الاقتصادي، وهنا يجب أن نفرِّق بين الجيش المصري الذي ينظر إليه الجميع في مصر وفي الإقليم والمنطقة بنظرة الاحترام والتقدير لما قدم وسيقدم من بطولات ليست لصالح مصر وحدها بل لصالح كل الشعوب العربية والإسلامية في المنطقة والعالم!! ويدخل العامل الاقتصادي كمؤثر خطير في الأزمة، فالجيش كما هو معلوم لا يعتمد على ميزانية البلاد، ودائماً ما تلوح أمريكا بوقف دعمها للجيش المصري، حين تخطو مصر خطوة لا تروق لصناع القرار في أمريكا!! فكامب ديفيد رفعت عبء ميزانية الجيش وتسليحه عن مصر وفق شروط لا يتسع المجال للخوض فيها ومن هذه الشروط عدم قيام حرب مع إسرائيل، وتم عزل الجيش المصري عن القضية تماماً ولم تجد الدول الأخرى إلى سبيلاً إلى الانضمام للمعاهدة ولكن بصفة فردية، وقد نجحت كامب ديفيد في اختراق الإجماع العربي حول القضية، لذلك واجهت إسرائيل الضعفاء من بقية الدول وأبرمت معهم اتفاقيات منفردة مكنت إسرائيل من التنكيل بالفلسطنيين سواء في غزة أو الضفة!!
وأخشى ما تخشاه قيادة الجيش المصري قطع المعونات الأمريكية عنها، رغم أن المعونات الأمريكية مشروطة ببنود كامب ديفيد تجاه إسرائيل، وليس تجاه نظام الحكم الذي يحكم في مصر، وليس التدخل في مجريات السياسة الداخلية في مصر. والاتصالات والخطوط الساخنة بين وزير الدفاع الأمريكي والمصري، إنما هي تدخل سافر في السياسة المصرية، رغم المسرحيات التي يقوم بها أعضاء الكنغرس المعارضين وعلى رأسهم المرشح الجمهوري السيناتور جون ماكين رئيس لجنة الدفاع والذي طالب بوقف المساعدات للجيش المصري!! ورغم الحرج الأمريكي الذي سببه الانقلاب فإن أمريكا حكومة ومعارضة تؤيدان ما جرى في مصر.. قيادة الجيش المصري في هذه الحالة تدين لمن يبث في شريانها الدم وبه أصبحت القوات المسلحة أكبر مسيطر على الاقتصاد في مصر وهذا ما أهل قيادة الجيش المصري وجعل لها الكلمة العليا في المسار السياسي!! الحقيقة التي كانت خافية على الجميع هي أن قيادات الجيش المصري لا تقبل أن يتقلد مدني منصب الرئيس، ولو رجعنا إلى الانتخابات الأخيرة نجد أن المنافس الرئيس لمرسي كان أحمد شفيق، ورغم أنه كان من مؤيدي مبارك إلا أن صفته العسكرية غفرت له وقد نال من الأصوات نسبة عالية بلغت 48% وأعتقد أن تأييد الجيش لشفيق كان سبباً في رفع النسبة إلى هذا المستوى!! هذه أصبحت قاعدة اللعبة السياسية في مصر حيث تقوم المؤسسة الأقوى في البلاد «الجيش» بتصريف وإدارة شؤون البلاد مستعينة في ذلك بالمؤسسة الأخرى وهي أيضاً مؤسسة مستقلة وهي القضاء، وقد عارضت هذه المؤسسة الرئيس المخلوع كثيراً.
إن مصر الآن تعاني من أزمة اقتصادية وحتى يهدأ الشعب المصري يلزم أن تضخ في الاقتصاد المصري أموال ضخمة، قد توافق أمريكا أو حتى تأمر بضخها ولكن هذه الأموال لن تكون في مصلحة الشعب المصري بقدرما ستكون موجهة لأمور أخرى وهي تقسيم المنطقة فهناك دولة واحدة في المنطقة هي التي يجب أن تكون قوية ومسيطرة .. إسرائيل!!
لا أعتقد أن ضخ الأموال سيفيد في هذه الحالة المرتبكة والتي تظهر فيها المؤسسة العسكرية كمؤسسة مستقلة تماماً عن رئاسة الجمهورية وكذلك مؤسسة القضاء التي تعين هي ووزيرها الذي يديرها والذي يخضع لها وليس لرئيس الجمهورية!! إن ضخ الأموال وبهذه السرعة سوف يفضي إلى تنازع في السلطات إذ أن الجيش هو أكبر مستثمر في مصر، وهو كما بينت الأحداث أنه فوق رئاسة الجمهورية، وهذا مؤشر فساد كبير والقضاء «المستقل» يمكن أن يُستغل!!
اعتقد أن ضخ الاموال في حالة عدم الاستقرار هذه غير مجدي، فالجزائر تملك احتياطياً يقدر بمائة مليار دولار، وهي أقل سكاناً من مصر، ولكنها وبسبب قضايا مماثلة لما يحدث في مصر تعيش ذات الازمة..!!
الذي يحدث في مصر يقود إلى التطرف الامر الذي لا تحتاج إليه مصر إطلاقاً، وما يُنفق من أموال لن يمنع التطرف بل ربما يكون سببًا في رسوخه، فأي أموال تضخ في مناخ سياسي اختلَّت فيه موازين العدالة سيكون حسرة على من أنفقه!!
الخرطوم :د. هاشم حسين بابكر:الانتباهة
Exit mobile version