إذا كنت مسؤولاً أو قيادياً سياسياً، فلا تستجب بعد الآن لمقولة “إننا شعب متسامح”، وواصل تلفُّتَك في كل الاتجاهات أثناء أي لقاء جماهيري أو حتى غير ذلك، لأنه قد يكون في الطريق إليك (كرسي طائر) أو زجاجة مياه فارغة أو حتى (مطوة) قد تضربك من حيث لا تحتسب. فالتاريخ أصبح مليئاً بتلك الاعتداءات التي توزعت بين الحاكمين والمعارضين والوزراء، آخرها وزير الصحة بولاية الخرطوم، الذي تعرض لاعتداء ليس من أحد المرضى بل من الأطباء.
(بُنْيَة) الترابي
في يوم 26 يناير 1992م عندما كان د.حسن الترابي في مطار (أتاوا) بكندا، تعرض لاعتداء من قبل الملاكم العالمي هاشم بدر الدين، وسقط على الأرض جراء ضربة وجهها له الأخير، وخرجت أخبار وقتها تقول إن الرجل فقد الذاكرة نتيجة لهذا الأمر، ولكن في النهاية خرج الترابي بصحة جيدة، خاصة أنه كان يقود مشروعه الإسلامي. ويقول هاشم بدر الدين عن الحادث إنه كان مع صديقه والتقى الترابي بالصدفة، وحصلت استفزازات من حرسه الشخصي، وأدى لهذا الأمر في النهاية. وعلى الرغم من أن هذه الضربة أسعدت معارضي الإنقاذ، إلا أنها وجدت استنكاراً من قبل الكثيرين الرافضين للعنف. و(بنية هاشم) أصبحت من أشهر الضربات في تاريخ السياسية السودانية.
شكلة فاطمة
التاريخ يذكر أيضا أنه أثناء انعقاد إحدى جلسات البرلمان عقب اتفاق السلام الشامل مرت القيادية بالحزب الشيوعي فاطمة أحمد إبراهيم أثناء طلبها فرصة للحديث ذكرى وفاة زوجها عليها فوجدت أمامها القيادي المايوي أبو القاسم محمد إبراهيم، حيث تذكرت تاريخ الرجل الذي تتهمه بتقديم زوجها القيادي النقابي الشفيع أحمد الشيخ للمحاكمة بالشنق، وهجمت فاطمة على الرجل ولولا تدخل النواب لكان وقع أمر كبير وهي تردد (أنت قاتل)، وهي تعتبر الواقعة الأولى داخل البرلمان السوداني، حيث أدان حتى الحزب الشيوعي هذا الأمر، وقال وقتها القيادي بالحزب سليمان حامد: “نحن ضد هذا الشكل من السلوك والتعبير”، وأضاف أن للمجلس الحق في اتخاذ الإجراءات ضدها في حددود اللائحة، وحدود ما هو مسموح به مؤكداً رفضهم استغلال الموقف لأغراض أخرى، ووصف سليمان حامد التصرف بأنه فردي، وليس للحزب علاقة به، وهو تصرف غير لائق من جانبها، وبعدها تم طرد فاطمة من المجلس نتيجة هذا الأمر.
عاصفة غندور
من أبرز تلك الوقائع والنماذج ما ورد في السادس من ديسمبر 2011م بدار حزب الأمة القومي من تعرض القيادي بالمؤتمر الوطني د.إبراهيم غندور لحصب بالحجارة وقوارير المياه أثناء محاولتة التحدث في ندوة سياسية للتضامن مع انتفاضة الشعب السوري، والذي قاطعته الجماهير المحتشدة بالدار وهي تهتف (لا وفاق مع النفاق)، وأثناء صعوده إلى المنصة قاطعته الجماهير المحتشدة بهتاف (غور غور يا غندور)، وقد تصاعد الأمر إلى التراشق بقوارير المياه، وتم حصبه من بعض الحضور بالحجارة وقوارير المياه، إلا أن تصاعد الأحداث دفع ببعض الشباب السوداني والسوري للتحرك في اتجاه غندور من أجل حمايته، وتم إخراجه سريعاً من الدار حفاظاً على سلامته، وفي ذات اللقاء اعتذرت قيادات حزب الأمة عن ما بدر من البعض تجاه غندور، وخاطبت الحشد القيادية بالحزب مريم الصادق موضحة أن هذا السلوك لا يشبه حزب الأمة القومي، وتأسفت على وقوع الأحداث مشيرة إلى أن دار حزبها مفتوحة إلى الجميع لتقديم آرائه بمن فيهم قيادات الحزب الحاكم.
دقة أولاد مادبو
كعادته دائماً بعد أن يؤدي صلاة الصبح يرتدي نائب رئيس حزب الأمة القومي د.آدم موسى مادبو زية الرياضي وينطلق ممارساً للرياضة (الجكة) في البكور في أحد شوارع ضاحية حي الرياض التي يقطن بها، وأثناء عبور الرجل لإحدى الطرق ارتطم بعربة إصابته بكسر نقل على إثره إلى مستشفى فضل أن يغادر بعدها بأيام إلى الأردن. وقع ذلك الحادث قبيل المؤتمر العام السابع لحزب الأمة الذي أقيم بسوبا، مما حال دون حضور الرجل إلى دورات انعقاد المؤتمر، والذي فيما بعد عاد ورفض مخرجاته. وفي سياق ذلك وقع اعتداء على ابنه مادبو آدم مادبو، حيث تعرض الرجل لمحاولة اغتيال إثر اختطافه وضربه من 15 شخصاً تابعين لجيش الأمة، وقد اتهم مادبو في ذلك الوقت في مؤتمر صحفي لاحقاً، أبناء الصادق المهدي بذلك، وربط حادث والده الذي تعرض له بذات المحاولة التي تعرض لها هو نفسه، وفيما بعد شرعت أسرة آدم موسى مادبو في إجراءات قانونية ودوّنت بلاغاً جنائياً بعد أن شككت في أن يكون الحادث الذي تعرّض له مؤخراً مدبراً من الحزب، بل ذهب مادبو إلى محاولة ضربه إبّان التراضي الوطني بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني الذي كان معارضاً له.
نجله الآخر الوليد تعرض للضرب من قبل نجل المهدي البشرى على خلفية انتقاد الأول لوالد الأخير في مقال نشر بإحدى الصحف. ولكن الوليد فتح دعوى جنائية ضده وقد حكمت المحكمة عليه بدفع مبلغ 60 ألف جنيه لصالح الوليد. ربما تختلف سناريوهات المهاجمة من شخص لآخر، ولذلك يشير المحللون إلى أن حوادث الأمة تعبر في مجملها عن الضيق ذرعاً بالرأي الآخر.
كرسي نافع
وليس بعيداً عن حادث الترابي الذي وقع في بواكير التسعينيات، وبعد ما يقارب العشرين سنة، وقع حادث آخر مشابه له عندما أقامت سفارة السودان بلندن الأربعاء السادس من شهر يوليو عام 2011م ليلة سياسية داخل مبانيها، تحدث فيها كل من مساعد رئيس الجمهورية د.نافع علي نافع ود.مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية. وبالرغم من اتخاذ السفارة لإجراءات أمنية مشددة للسيطرة على الندوة ومنع دخول الكاميرات والتسجيل والموبايلات، إلا أن أحد الحضور داخل مباني السفارة فاجأ الجميع عندما قذف نافع بأحد بالكراسي وبحقيبة، وسرعان ما تدخل البعض وتم القبض على المعتدي وقبضت عليه الشرطة البريطانية، وقامت باعتقال الشابين، ولكنها سرعان ما أطلقت سراحهما بعد توسط بعض الحكماء من الحاضرين.
حالات شاذة
البعض ما يزال يرى أن العنف السياسي لم يصل إلى درجة الظاهرة حتى الآن، وما حدث لبعض المسؤولين هو مجرد مشاحنات سياسية، بتلك العبارة ابتدر محاضر علم الاجتماع بجامعة النيلين د.علي الصديق حديثه لـ(السوداني) مضيفاً أن أغلب حوادث الاعتداء تكون نتيجتها أن المعتدي غالبا ما يعاني من اضطرابات نفسية، وأحياناً تكون نتيجة للضغوط الاقتصادية والمعيشية. وفي رأي آخر فإن ذلك الاعتداء الذي تم أول أمس على وزير الصحة بولاية الخرطوم، بروفيسور حميدة وجه الغرابة فيه أنه صدر من طبيب معالج، والذي من المفترض أن يكون على درجة من الوعي الاجتماعي، وأن يتمتع بشيء من ضبط النفس، بحكم طبيعة عمله. وبحسب ما ورد في الصحف؛ فإن الطبيب يحمل (مطوة)، فعلى جهات الاختصاص وأعني هنا الشرطة أن تنتبه لمثل تلك الحالات.
ولم يذهب بعيداً عن إفادة من سبقوه المحلل السياسي د.صفوت فانوس الذي استهل حديثه لـ(السوداني) بأن الأمر لم يصل إلى مرحلة الظاهرة التي تتطلب الحذر والخوف، فهي تحدث في المتوسط مرة كل عام. وأرجع الأسباب إلى الفضاءات المفتوحة والعولمة التي نقلت الثقافات الأخرى، ومنها ثقافة العنف والتاريخ الصدامي، وأغلب تلك الحوادث تتبع بتقارير إعلامية وطبية تؤكد أن بعض معتديها يعانون من اضطرابات نفسية، فيتطور الأمر من نقاش لفظي إلى عنف بدني، فمثلاً الاعتداء على الترابي في كندا من قبل الملاكم العالمي، وكذلك حادثة نافع في لندن، إلى حادثة مأمون حميدة، فلا يمكن أن تدخل تلك الحوادث في قائمة الاغتيالات، لأن الأدوات المستخدمة فيها ليست أدوات قتال. فيجب وضع الأحداث في قالبها الصحيح وإعطائها حجمها الحقيقي. وختم فانوس حديثه بأن الأمر يجب أن لا يضخم إعلامياً ويبالغ فيه، فالمسؤولون يتجولون بحرية في الشوارع والمناسبات العامة ويمارسون حياتهم بصورة طبيعية دون خوف أو رقابة.
هناك اعتراف معلن قبل سنوات قليلة مضت من القيادة السياسية بالبلاد، بمساهمة سياسة التمكين في انهيار الخدمة المدنية ودمارها. والقيادة السياسية لم تكتفِ بالاعتراف فقط، بل أعلنت شروعها في إعادة بناء الخدمة المدنية دون محاباة أو انحياز لكادر بحزبها أو موالٍ له، إلا أن كوادر المؤتمر الوطني اعتادت على الدلال واحتكار فرص التوظيف والتدريب، بحجة خدمتها للوطن وجهادها وولائها. وبرز هذا السلوك بوضوح في القضية حديث الساعة المتعلقة بتعرض وزير الصحة بولاية الخرطوم بروفسيور مأمون حميدة للضرب من قِبَل طبيب.
لا يختلف كثيرون في أن شخصية حميدة مثيرة للجدل، بقدر ما هي مثيرة للمتاعب، فلا تمر شهور قليلة حتى يعود للظهور بقوة بقضية تصبح حديث المدينة، وها هو يعود هذه المرة وقد أبرح ضرباً من قِبَلِ طبيب من أصحاب الولاء للمؤتمر الوطني، اقتلع هو واثنان من زملائه فرصة ابتعاث إلى القاهرة لم يحصلوا عليها بالطرق المعروفة والمشروعة، بل اقتلعوها اقتلاعاً، مستندين إلى أنهم أبناء الحزب الحاكم المدللين. وتقول الأخبار المتعلقة بالقضية موضوع الحديث إن شجاراً نشب بين وزير الصحة بولاية الخرطوم بروفيسور مأمون حميدة وأحد الأطباء، عقب مناقشة حول نثريات ابتعاث للخارج، وإن الطبيب أبرح الوزير ضرباً بـ(علاقة مفاتيح) على شكل (ضفارة)، فتسربت معلومات بأنها مدية طعن بها الوزير على خاصرته، وتم تدوين بلاغ بقسم الشرطة الخرطوم شمال تحت المواد (77- 99 -103) (الضرب الإزعاج ومقاومة القبض).
تفاصيل الرواية
تبدأ تفاصيل الرواية وفقاً لمصادر مطلعة تحدثت لـ(السوداني)، روتها كما سردها وزير الصحة بروفيسور مأمون حميدة أمام مجلس وزراء ولاية الخرطوم في جلسته الراتبة أمس، والذي أعطى أولوية للقضية عقب نشرها بطريقة مثيرة ببعض الصحف، عقب تسريب من الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة بالولاية معز حسن بخيت، لمعلومات عبر اتصالات هاتفية ببعض قادة الصحف بنجاة وزير الصحة من محاولة اغتيال. وهنا وبناءً على تسريبه للمعلومات، تصدرت القضية الأخبار، مما دفع بمجلس الوزراء لمناقشتها في اجتماعه، وطلب من حميدة الرواية كاملة، وشرع يحكي: “أن ثلاثة أطباء من كوادر المؤتمر الوطني، كانوا يعملون بمستشفى أمدرمان، ومن هناك بدأوا في اختلاق المشاكل بمطالبتهم بأوضاع استثنائية على اعتبار فضلهم على الدولة التي جاهدوا في سبيلها كما زعموا، بجانب أنهم نافذون في الحزب ويستحقون ميزات أفضل عن أقرانهم وأبناء دفعتهم”. ووفقا لحميدة فإن هؤلاء الثلاثة بذلوا جهوداً كثيرة لنيل بعض المخصصات التي لا تتناسب ووضعهم الوظيفي، حتى مسألة الابتعاث لمصر حصلوا عليها بالإلحاح الشديد. إلا أن الابتعاث لمصر له شروطه، ومن ضمنها قضاء فترة بمستشفى محدد بالبلاد. وبالفعل بدأ الأطباء الثلاثة بقضاء الفترة بأحد المستشفيات الوطنية بالخرطوم، وبما أن وزارة الصحة تمنح المبتعثين للخارج نثريات بالعملة الصعبة، فقد اعتقد الأطباء موضوع الحديث أن نثرياتهم ستكون بالعملة الصعبة، وهي عبارة عن (1000) دولار شهرياً، حتى وإن قضوا الفترة المقررة داخل البلاد، إلا أن وزير الصحة كان له رأي آخر، بأنه لا يوجد قانون يلزمه بدفعها بالعملة الصعبة، واستمر السجال بين الوزارة والأطباء لفترة من الزمن، مما أشعر الأطباء بالمماطلة، فاتجهوا إلى مدير إدارة التدريب بالوزارة، وحين شعروا بأن الطريق مسدود هنا أيضاً، وصلت الملاسنات بينهم ومدير إدارة التدريب إلى حد التشابك بالأيدي، وخرجوا منه كما أتوا إليه من دون نتيجة، وبعدها نما إلى علمهم أن الوزير يصر أنهم لا يستحقون صرفها بالعملة الصعبة، طالما ظلوا داخل البلاد.
وفيما يبدو واستناداً على خلفيتهم الحزبية، قرر الأطباء الثلاثة إرسال رسالة خطية إلى المدير العام لوزارة الصحة بالولاية د.صلاح عبد الرازق، تحمل إشارات تهديد له وللوزير قدمت ضمن الوثائق عند فتح البلاغ في مواجهة الطبيب.
وفي يوم الثلاثاء الماضي اتجه الطبيب المتهم لمقابلة الوزير الذي التقى به بحوش الوزارة، حيث تناقشا حول مسألة النثريات، وهنا أخطر الوزير الطبيب بأنه يطالب بحق ليس له، وواصل حديثه للطبيب: “ملفك لم أطلع عليه حتى الآن، أمهلني فترة حتى أطّلع عليه”، وتحديداً عند هذه النقطة يقر حميدة بأن هناك لوبي بالوزارة يسعى لخلق صراعات بينه والأطباء، بتعطيل الدورة المستندية، مما يتسبب في عدم إطلاع الوزير عليها. أثارت عبارة “أمهلني فترة لأطلع على ملفك” ثائرة الطبيب واحتدَّ النقاش بينه والوزير حتى وصلت مرحلة الضرب بعلاقة المفاتيح.
مجلس وزراء الولاية بعد استماعه للرواية، أعلن استهجانه للطريقة التي تعامل بها الطبيب مع قضيته، مؤكداً أنه لا كبير على القانون، وتمسك بسير القضية عبر الإجراءات الجنائية، خاصة عقب تأكيد مدير شرطة الولاية الفريق أول محمد الحافظ حسن عطية أن البلاغ يُدين الطبيب.
صحيفة السوداني
تقرير: بثينة دهب- هبة عبد العظيم