السودان .. هل صار ورقة في اللعبة السياسية بين “مشار” و”سلفا كير”؟

[JUSTIFY](1)
انتهت زيارة نائب رئيس دولة الجنوب د. “رياك مشار” إلى الخرطوم دون تحقيق أية نتائج إيجابية من جهة حلحلة القضايا العالقة، المتمثلة في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من قبل، سواء في مصفوفة ما يعرف باتفاقيات التعاون بين البلدين أو خارطة التنفيذ التي (اقترحتها) الوساطة الأفريقية بقيادة “أمبيكي”، وتعهد الطرفان بالالتزام بنصوصها دون تكليف نفسيهما مشقة الإقبال بصدق على تنفيذها.. وأسباب فشل زيارة د. “مشار” متعددة.. منها ما له علاقة بدوره الهامشي في حكومة بلاده وصراعه الصامت مع الفريق “سلفا كير ميارديت”، وثمة أسباب جوهرية تدفع بـ(تأزيم) العلاقة بين جوبا والخرطوم، وتستحيل استقامة العلاقة في وجودها ألا وهي قضية الحرب في المنطقتين.. ولكن من يقرأ البيان الختامي للمباحثات بين نائبي الرئيسين في البلدين “علي عثمان” ود. “رياك مشارك” تتبدى له الصورة في أوضح تجليات فشل الزيارة، حيث جاء في البيان الختامي أن الطرفين بحثا مسألة تطبيق اتفاق التعاون وعلى وجه الخصوص المسألة الأمنية، ذلك أن السودان اتهم جنوب السودان بدعم حركات التمرد الأمر الذي دفعه لاتخاذ قراره بتاريخ 9 يونيو 2013م بتعليق الاتفاق في مجال النفط والمسائل الاقتصادية المرتبطة بين جمهوريتي السودان وجنوب السودان، ووفقاً لذلك أخطرت وزارة النفط بجمهورية السودان رصيفتها بجمهورية جنوب السودان بقرار وقف عمليات المعالجة والنقل عبر الأراضي ومنشآت النفط السودانية للنفط القادم من جنوب السودان خلال فترة ستين يوماً اعتباراً من 9 يونيو، وبحث الطرفان أيضاً بإسهاب الادعاءات المتبادلة، وبعد نقاش مستفيض حول النقاط المشار إليها أعلاه فقد اتفق الطرفان على تسع نقاط نوردها كما جاء في البيان، ونخص بالتعليق كل بند على حدة.

أولاً- اتفق الطرفان على إحالة الشكاوى من الجانبين إلى الآليات الثنائية المتفق عليها.. هذه النقطة تمثل واحدة من العلامات الدالة على فشل الاجتماعات التي عقدت في الخرطوم، لأن آليات الشكاوى المتفق عليها لم تنهض أصلاً وتعثر الاتفاق على تكوينها، فكيف إذاً تحال إليها الشكاوى وهي غير موجودة أصلاً.
ثانياً- التأكيد بقبول مقترحات آلية الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى حول الأزمة الراهنة، ويدعو الجانبان الاتحاد الأفريقي ورئيس الإيقاد رئيس الوزراء الأثيوبي إلى الإسراع بالتنفيذ الفوري لمقترحات الآلية الأفريقية.. هذا البند بمثابة تأكيد لما أعلنه الطرفان من التزام سابقاً بمقترحات “أمبيكي”، وقد أصدر السودان بياناً بقبوله المقترحات بعد أزمة إغلاق صنابير صادر نفط الجنوب، بينما التزم الجنوب من حيث المبدأ بالمقترحات ولكنه عملياً لم يفعل الشيء المطلوب منه.. والجديد هنا.. دعوة الاتحاد الأفريقي لمزيد من التدخل وكذلك رئيس وزراء أثيوبيا.

ثالثاً- اتفق الطرفان على إلزام نفسيهما بالحوار والتباحث الثنائي دون المساس بدور الآلية الأفريقية رفيعة المستوى في مواصلة تسهيل التفاوض.. عجيب أمر البيان الختامي الفقرة الثالثة تناقض الفقرة الثانية.. إذا كان السودان وجنوب السودان قادرين على حل مشاكلهما دون حاجة للوسطاء الأفارقة، فلما الدعوة لمزيد من التدخل والتوسل لرئيس وزراء أثيوبيا الجديد للقيام بدور الوسيط بين حكومة دولة السودان التي عمرها (24) عاماً في السودان ودولة الجنوب التي عمرها (عامان) ورئيس وزراء أثيوبيا الذي له (شهران) فقط؟!
الفقرة الرابعة من البيان، تحدثت عن احترام السيادة ووحدة الأراضي لكل دولة.. والخامسة تقول: الامتناع تماماً عن دعم وإيواء المعارضات المسلحة لكل دولة وفقاً لاتفاق الترتيبات الأمنية!! لو كانت الدولتان تملكان إرادة حل حقيقي لأزماتهما الأمنية لالتزم كل طرف بقيادة مبادرة لإصلاح ذات البين بين أصدقائه وحلفائه من المتمردين من الدولة الأخرى وحكومتها!! وهنا تستطيع دولة الجنوب إذا ارتضى الشمال بدورها لعب دور جوهري في التوسط بين الحكومة ومتمردي الجبهة الثورية ورعاية التفاوض، مثلما تستطيع الخرطوم حمل الجماعات المعارضة لحكومة “سلفا كير” على توقيع اتفاقيات سلام مع حكومة بلادهم ويصبح كل (عفش) داخل المنزل مسؤولية أربابه.. لكن الخرطوم وجوبا تمارسان الهروب من أمام المشكلة الحقيقية المتمثلة في القضايا الأمنية والحروب الحدودية بالوكالة، فالعلاقات بين الجنوب والشمال لن تستقيم مطلقاً في وجود حرب بالنيل الأزرق وجنوب كردفان، وأية اتفاقيات يتم إبرامها بين البلدين سرعان ما تتعرض للانهيار والموت السريري، ولن تحل قضية الحرب في المنطقتين إذا كان الطرفان تعوزهما الإرادة السياسية لحل المشكل.

في البند السادس: تطبيع وتطوير العلاقات الثنائية.. والسابع: تفعيل اتفاق آليات التطبيق والمراقبة والتقييم وحل النزاعات بشأن اتفاقيات التعاون الموقعة في أديس أبابا 23 أبريل 2013م، وتمثل هذه البنود تكراراً لما سبق ذكره.
وفي الفقرة الثامنة جاء النص غامضاً، ليقول: (دعم أية مبادرات تحقق السلام والاستقرار للدولتين). ما هي المبادرات المعنية؟ هل هي الوساطة الصينية التي تنشطت خلال فترة ما قبل زيارة د.”نافع علي نافع” إلى الصين؟ أم هي المبادرة الإريترية التي طرحها “أسياسي أفورقي” لـ”البشير” أثناء زيارته الأخيرة لأسمرا؟ وابتعاث “أفورقي” وزير خارجية إلى جوبا ولقاء “سلفا كير” وأعضاء وفد حكومته المفاوض؟ أم هناك مبادرات مسكوت عنها طوال الفترة الماضية؟
وفي الفقرة التاسعة من البيان الختامي: العمل على حل القضايا العالقة باتفاقية السلام الشامل، وعلى وجه الخصوص الحدود والوضع النهائي لأبيي.
وختم البيان بعبارات تفاؤل ودبلوماسية تقول: وقد جرت المباحثات بين الطرفين في إطار من الشفافية والصراحة المتبادلة، وأكد الجانبان رغبة أكيدة في معالجة الأزمة الراهنة بين البلدين على ضوء مبادئ احترام كل دولة لسيادة الأخرى، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم إيواء ودعم أي عناصر معادية للدولة الأخرى، واستمرار التعاون على المستوى الثنائي ومستوى الآليات الأفريقية.

(2)
{ بعد أن فشلت (القمم) الرئاسية التي عقدت في الفترات السابقة بين الرئيسين “عمر البشير” وسلفا كير ميارديت” بات متعذراً على من دونهما من القيادات في الدولتين تحريك جمود الاتفاقيات لغياب الإرادة السياسية للتنفيذ، وللخلل الجوهري في التفاوض بين الشمال والجنوب منذ أن كان السودان موحداً بإعلاء شأن الاعتبارات الأمنية على الاعتبارات السياسية، حيث تشكل الانشغالات بالشأن الأمني أولوية لكلا الطرفين انطلاقاً من طبيعة النظامين، حيث تعلو الأجهزة الأمنية والعسكرية على الأجهزة السياسية في الدولتين.. وحينما تصبح الأجهزة العسكرية في دولة ما هي القابض على أنفاس الحزب السياسي تصبح تلقائياً الانشغالات والأولويات لهذا البلد أمنية.. وبالنظر إلى شخصية الدكتور “مشار” الذي بعثت به حكومة دولة الجنوب إلى الخرطوم، فإن الرجل بلا سلطات وبلا صلاحيات منذ أن طرح نفسه في الساحة الجنوبية كمنافس وبديل للرئيس “سلفا يكر”.. ويتكئ د. “رياك مشار” على تأهيل أكاديمي رفيع ونظرة سياسية عميقة، وتسنده قاعدة اجتماعية هي الثانية في الجنوب بعد (الدينكا)، إلا أن قبيلة (النوير) التي ينحدر مهنا “مشار” تتنازعها ولاءات عديدة، ويملك قيادات كـ”تعبان دينق” في ولاية الوحدة والكجور و”ريانق” في مناطق واط وأيود سلطة كبيرة ونفوذاً.. و(النوير) خلافاً لـ(الدينكا) منقسمون إلى مجموعات، وعجز “رياك مشار” منذ سنوات الحرب عن الدخول في تحالفات مع القبائل التي تقاسمهم إقليم أعالي النيل كـ(الشلك والأنواك واليرون ودينكا الرنك).. بينما نجح الدينكا في نسج تحالفات مهمة مع (الباريا والأشولي والكاكوا والجور والفرتيت)، الشيء الذي جعل الدينكا قبيلة تصعب منافستها سياسياً.. ورغم المؤهلات الشخصية لـ”رياك مشار” وطموحه وعلاقاته، فإن حسابات السياسة في بلدان كجنوب السودان تلعب القوة العسكرية دوراً جوهرياً فيها.. فالحركة الشعبية كتنظيم سياسي ضعيفة جداً إذا رفع غطاء الجيش الشعبي، والسيد “سلفا كير ميارديت” أحكم قبضته على الجيش الشعبي واختار قيادته وفق معايير دقيقة تضمن الولاء له في مواجهة منافسيه المحتملين عند اختيار رئيس الحركة الشعبية ومرشحها القادم.

(3)
{ “رياك مشار” بوضعه الراهن غير مؤهل لإحداث اختراق في قضية مفصلية كالعلاقة مع السودان، وقراءة بنود البيان الختامي الصادر في نهاية المباحثات، تكشف بوضوح بؤس حصاد الجولة التي هي أشبه بالعلاقات العامة بين الرجل الثاني في الشمال والرجل الثاني في الجنوب.. لأن الخلافات عصية على الحل، وخيمت على نفوس السياسيين (مرارات) عميقة جداً يصعب نزعها وبات التعايش بين النظامين أشبه بالمستحيل.. ولاستقامة علاقة تعاون بين الدولتين ثمة أربعة احتمالات هي:
1. أن يذهب أحد النظامين في جوبا والخرطوم ويحل مكانه نظام آخر يرتضي لنفسه دوراً يحدده النظام الآخر.. والمؤتمر الوطني في الشمال موقفه أفضل من الحركة الشعبية في الجنوب.. ورغم تصاعد لهجة المعارضة وتعدد جبهات حاملي السلاح وتدهور الأوضاع الاقتصادية، إلا أن الشعب هنا قناعته بالبديل ضعيفة جداً.. كما أن الوطني يملك أوراقاً عديدة بيده في حال استخدامها سيكتب لنفسه عمراً جديداً.. وأهم تلك الأوراق تجديد مفاصل الدولة والدخول في تحالفات جديدة كحزب الأمة القومي الذي بدأ في الفترة الأخيرة يتخذ مواقف غير بعيدة عن الوطني، وتباعدت المسافات بينه والجبهة الثورية وتحالف المعارضة الذي يسعى للحفاظ على شعرة معاوية مع حزب الأمة طمعاً في رصيده الجماهيري.. وسقوط المؤتمر الوطني في السودان (عملية) صعبة جداً.
2. أن يسقط نظام الفريق “سلفا كير ميارديت” في الجنوب.. إذا كانت المعارضة في السودان ضعيفة فإن المعارضة في الجنوب أضعف منها.. وتستخدم الحركة الشعبية ورقة العلاقة مع السودان في لعبة السياسة الداخلية، فالجنوبيون يسهل توحيدهم حينما تخاطب الحركة الشعبية مشاعرهم بأن الشمال (طامع) في أرضهم ويتطلع لتوحيد السودان القديم بفوهة البندقية.. وبطبيعة الحال، يمثل الرؤساء الذين يحققون للشعوب استقلالها زعماء مقدسين، لذلك ينظر كثير من الجنوبيين لـ”سلفا كير ميارديت” بعين الرضا وغفران أخطائه مهما تعددت.. ونجحت الحركة الشعبية في احتواء خصومها السابقين، فطبيعة الشخصية الأفريقية الزنجية متسامحة جداً، لذلك لم تجد الحركة الشعبية حرجاً في استيعاب كل القيادات الجنوبية التي كانت فاعلة في المؤتمر الوطني قبل الانقسام، الشيء الذي أضعف جبهة المعارضة الجنوبية لتبدو احتمالات سقوط وذهاب النظام في الجنوب بعيدة في الوقت الراهن.
3. ثالث الاحتمالات، أن تتدخل دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وتستخدم العصا الغليظة لتهديد الدولة الرافضة لتسوية العلاقات وطرح مبادرة أمريكية جديدة تنهي التوتر.
4. الاحتمال الرابع والأخير، أن تقبل الحكومتان على تبادل الوساطة وإيقاف الحرب في النيل الأزرق وجنوب كردفان، واستيعاب الحكومة السودانية للمتمردين في المنطقتين.. مقابل ذلك تضطلع الخرطوم بوساطة بين حكومة الجنوب والمتمردين الحاملين للسلاح في أعالي النيل وجونقلي.. ذلك هو الطريق السهل والآمن، لكن الطرفين لا يقبلان على سلك ما صعب من الدروب والمسالك.

(4)
{ بعد فشل المباحثات التي جرت في الخرطوم بين نائبي الرئيسين في البلدين، اتجه د. “رياك مشار” إلى لقاء قيادات ورموز المعارضة الشمالية، وهي محاولة ذكية لقراءة ما يجري في الساحة الداخلية ومدّ جسور التواصل مع قوى يمكن أن تشكل بديلاً ثانياً للإنقاذ، بعد الحركات المسلحة التي تحتضن جوبا أغلب قادتها ورموزها وتراهن عليها في المستقبل.. وشملت لقاءات د. “مشار” اثنين من الرموز السيد “الصادق المهدي” والدكتور “حسن الترابي”، ومن المنطقة الوسطى مولانا “محمد عثمان الميرغني”، وبث التلفزيون الرسمي خبراً عن لقاءات د. “مشار” بهؤلاء الرموز، وقد بدأ التلفزيون الرسمي في الفترة الأخيرة الانفتاح على بقية المكونات السياسية من غير الحكومة وحزبها الحاكم، وتحدث للتلفزيون السيد “كمال عمر” عن المؤتمر الشعبي عن لقاء “الترابي” و”مشار”.. لكن بعيداً عن الضوء فإن د.”مشار” حتماً التقى بآخرين من القوى السياسية، وهي لقاءات علاقات عامة، وربما سعى د. “مشار” أيضاً لتمتين علاقته الشخصية بقيادات شمالية لها تأثيرها على الحكومة سلباً وإيجاباً، وقدم د. “مشار” الدعوة لقيادات المعارضة الشمالية لزيارة جوبا في مقبل الأيام.. وتبدو قدرة حكومة دولة الجنوب على التعاون وتمتين علاقتها بالقوى السياسية الشمالية تفوق قدرة حكومة السودان، التي لا يبدو ظاهراً إن لها علاقات مع القوى الجنوبية المعارضة لـ”سلفا كير”.. وقد استقبلت الخرطوم قبل أيام المجلس الإسلامي لجنوب السودان الذي يقوده الفريق (م) “الطاهر بيور” ويضم كل قيادات الحركة الإسلامية الجنوبية، ولكن هؤلاء قدرتهم على الفعل ضعيفة جداً.. فهل سعى “مشار” بمدّ جسور التواصل مع “الصادق” و”الترابي” و”الميرغني” إلى تحقيق مكاسب شخصية في سياق معركته مع “سلفا كير”؟[/JUSTIFY]

يوسف عبد المنان
صحيفة المجهر السياسي

Exit mobile version