لعلَّ مما أعجبني تعليق رائع للصحفي (الشاطر) الشاب أحمد دقش في إحدى القنوات قال فيه إن ممَّا دفع الشيخ حمد للتنازل لابنه الذي لم يتجاوز الـ (33) عاماً أن الشيخ حمد استشعر حقيقة أنَّه كان راعياً لثورات الربيع العربي التي أطاحت بزعماء كبار في دول عريقة وأنَّ عليه واجباً أخلاقياًَ بأن يتَّسق مع ما دعا إليه بحيث لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
سألتُ فيصل القاسم مذيع قناة الجزيرة الشهير عمَّن كان يعنيه في مقال كتبه على موقعه في الإنترنت عندما قال إن (بعض الحكام العرب يُصِرُّ على الاحتفاظ بموقعه حتى آخر قطرة من بوله) فقال إنَّه كان يعني الحبيب بورقيبة الذي بلغ من العمر أرذله وبالرغم من ذلك لم يتنازل وأنَّه كان يتبوَّل على سريره لدرجة أنَّ من كانوا يزورونه يسدُّون أنوفَهم من الرائحة الكريهة!! فاضطروا أخيرًا بعد صبرٍ جميل على إخراجه كرهًا!!
يا سبحان الله!! الملك والسلطان من أعظم ما يُبتلى به بنو البشر ويقاتلون في سبيله وأمامكم نماذج شاخصة فقد أنهى الصراع على السلطة أعظم حكم راشد يشهده التاريخ حين احتدم الصراع بين الصحابيَّين الجليلَين علي ومعاوية رضي الله عنهما وما كانا يتنازعان الحكم إلا اقتناعًا بأنهما الأصلح لقيادة مسيرة الأمَّة.
هل أدل على ذلك من الاستخدام القرآني الإعجازي لكلمة (تنزع) الملك ممَّن تشاء؟ ففي حين أن الملك قد يؤتى بدون قهر أو شدَّة فإنه يُنتزع انتزاعاً ويكفي ما نراه في سوريا وما فعله بشار الأسد بها وبشعبها وما فعله القذافي ذلك المجرم الذي خلَّد اسمه كأحد أبشع الطغاة في التاريخ البشري.
العجيب في الأمر وهو ما أدهش العالم بالفعل أنَّه ما من سبب البتَّة لهذا القرار العجيب إذ لا توجد معارضة للحكم في قطر ولو أُجريت انتخابات رئاسيَّة أو حتى ملكية لحقَّق الرجل بين مواطنيه نسبة الـ(99%) التي يحصل عليها الطغاة المستبدون بالتزوير والبلطجة والقهر والاستبداد.
ذلك كان أعظم المستحيلات التي تمكَّن الشيخ حمد من قهرها.. هوى السلطة وما أعظم من ينهَون الأنفس الشُّح عن الهوى!! وهل من هوى تشحُّ به النفوس أعظم من هوى وشهوة السلطان؟!
تخصَّص الشيخ حمد في صنع المستحيل وقهره.. فقد قدَّم درساً بليغاً للعالم لم يسبقه إليه أحد في التاريخ بأنَّ الإعلام الحُر أشدُّ فتكاً وتأثيراً من أسلحة الدمار الشامل فكانت قناة الجزيرة التي لولاها لما تصدَّع حكم القذافي ومبارك وتهاوى حكم علي عبد الله صالح وتزلزل حكم بشار ولا يزال الحبل على الجرار.
عبقرية مدهشة تُقنعك بأنَّ الخيارات السياسيَّة أكبر من أن تُختزل في اللونين الأبيض والأسود أو الحق المطلق والباطل المطلق.. يُنشئ لأمريكا قاعدة عسكريَّة جرَّت عليه وعلى بلاده سخطاً واتهامات بالعمالة بالرغم من أنَّه أفاد منها كثيرًا لحماية دولته الصغيرة في الصراع الإقليمي المحتدم من حوله لكنه شنَّ من خلال قناة الجزيرة على أمريكا حملة وحملات فضحت زيف شعارات الحرية وحقوق الإنسان التي تتشدَّق بها لدرجة أنَّ وزير الدفاع الأمريكي المتغطرس أيام بوش الابن دونالد رامسفيلد وصـــــــف (الجزيرة) بالقناة الشريرة (The vicious channel) وسمعتُ ذلك بأذني وذلك حين كانت صواريخ أمريكا تُمطر بغداد وكابول بوابل من حممها وتفعل بعاصمة الدولة العباسيَّة الأفاعيل وكان دور (الجزيرة) في نصرة فلسطين والمقاومة وفضح دولة الكيان الصهيوني عظيمًا أمَّا الربيع العربي فقد تجاوز الدَّور القطري (الجزيرة) إلى أدوار سياسيَّة وعسكريَّة مدهشة وكانت مبادرات قطر في حل المشكلات السياسيَّة داخل الدول العربيَّة شيئاًَ مُذهلاً ما كان من الممكن أن يقوم به لولا الموقع الكبير الذي احتلته في خريطة السياسة الدوليَّة في العالم بفضل الشيخ حمد الذي لن أنسى له زيارة غزة وليس تل أبيب كما فعل مبارك والأقزام ولو امتدَّ به الأمر لربما صلى في القدس فمَن غيرُه فعل أو يفعل ما فعل ويفعل؟!
في إطار تخصُّصه في قهر المستحيل كان السؤال المدوِّي: كيف استطاع الشيخ حمد أن يأتي بمونديال كأس العالم إلى دولته الصغيرة مساحة وسكانًا في مناخ الخليج العربي الذي يُجبر نصف أهله على مغادرته فراراً من صيفه الجهنَّمي؟! إنها هِمَّة وإرادة مُتخصِّصة في صُنع المستحيل.
قد ألتمس للشيخ حمد العذر أنَّه لم يُدخل دولته في مسار الديمقراطيَّة فمَن يفعل أفعالَه ويُنجز المستحيلات جديرٌ بأن يحظى بشيء من التعاطف إذا قصر عن بلوغ أمرٍ كان هو الأولى به من غيره في منطقته فما أحوج الدول إلى إعمال قيم التداول السلمي للسلطة من خلال الشورى والديمقراطية التي تفضي إلى فصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وإلى إشراك الشعوب في تحديد مصيرها ورسم مستقبلها!!.
لم يتقدَّم به العمر.. ملكة بريطانيا، عرَّاب النظام الديمقراطي، وقد بلغت من العمر عتياً لا تزال (مكنكشة) رغم أنَّ ابنها ولي العهد شارلس المنتظر على أحرّ من الجمر تجاوز عمره عمر الشيخ حمد!!
ملكة هولندا تنازلت أخيراً بعد أن أوشكت على بلوغ الثمانين!
تأملتُ طويلاً.. بالله عليكم هل أبلغ أن يستولي الشيخ حمد على الحكم قبل بضعة عشر عاماً لكي يصنع لأمته الكبيرة ودولته الصغيرة التي كانت إمارة خاملة الذكر مجداً ورفعة أم أن يغادر طائعاً مختاراً من حكم دولة أضحت تناطح الكبار بلا مؤهِّلات سوى ثروة محدودة نسبياً مقارنة بآخرين عاجزين عن التمام يمتلكون كلَّ مؤهِّلات الريادة وصُنع الأمجاد لأنفسهم وأمتهم ودولهم.
لقد أُسقط في أيدي من اتَّخذوا صنيعَه القديم سبّة عيَّروه بها فماذا يقولون بعد أن تخلَّى عن سلطة تستحق أن يتشبَّث بها بعد أن قدَّم لها الكثير في حين أنَّه استولى عليها حين كانت لا تستحق أن يُمرِّغ سمعته بتهمة اغتصابها؟!
عجيبٌ ألّا ينتظر ابنَه حتى يبلغ سن الرشد البشري أو (الأشُد) في التوصيف القرآني وأعجب أن يتخلَّى قبل أن يبلغ السبعين حتى يُتيح لابنه الأمير تميم بلوغ السن والخبرة التي تؤهِّل لزعامة دولة أصبحت ذات شأن لكن متابعتي لسيرة ابنه الناصعة تجعلني أثق في أنَّه شبلٌ ضخم من ذلك الأسد الهصور وسيكون الشيخ حمد راعياً وموجِّها لمسيرة الأمير الجديد سيما وأنَّ تميماً يعلم ما فعله والدُه من صنيع أدهش العالم.
حزنتُ أنَّ بعض المسطِّحين تردَّى في درك تفسيرات طفوليَّة عن دور الأميرة موزة وغير ذلك من الكلام السطحي وكأنَّهم أرادوا أن يجرِّدوا الحدث المدهش من دلالاته العميقة الجديرة بأن تُزلزل منطقتنا العربية.
اثق في أن الشَّيخ حمد سيواصل مسيرته العبقريَّة وليته يولي الجانب الاجتماعي اهتمامًا يُزيل به الفقر من العالم الإسلامي.[/JUSTIFY]
الطيب مصطفى
صحيفة الإنتباهة