أحلام عذرية..
شباب تفاوتت أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين عدا أحدهم الذي فاقت سنوات عمره الأربعين، خُيل لي للحظة أن الخروج باعترافاتهم سيكون بالأمر العصي، ولكن ما أن بدأت التحدث إليهم كل على حده حتى بدأت الفكرة في الانقشاع… قد لا يتصور أحدكم ذلك الكم الهائل من الشباب الذين صارت تعج بهم زنازين سجوننا بمختلف مسمياتها، يقضون محكوماتهم جراء دخولهم دنيا المخدرات، قصص وروايات شكلت ملامح شباب يفيضون طاقة وحيوية جعلوا من الإدمان عالماً لهم، بعضهم اختاره بمحض إرادته، وآخرون ساقتهم أقدارهم إليه، وداخل (سجن الهدى) تسكن العديد من الطاقات المدمرة التي تم اغتيالها بواسطة تجار المخدرات، يقبعون خلف الزنازين وبلادنا واقتصادها في أمس الحاجة إليهم بعد أن امتلأت شوارعنا بجموع الأجانب الذين باتوا يزحفون إليها بأعدادهم المهولة كل يوم.. لم يندم هؤلاء الستة على فقدهم أحلامهم مثل ندمهم عليها الآن بعد أن صارت مكبلة قيد التنفيذ، فأحدهم حلم أن يكون طبيباً والآخر أبدى حسرته على عمره الذي تسرب من بين يديه دون أن يحقق حلمه بالزواج والذرية الصالحة.. والثالث كان يُمني النفس بالابتعاد عن هذا الطريق الذي كانت نهاية مطافه سجن الهدى… ربما الحياء أو الندم هو ما منعه من رفع رأسه والنظر إلى عيني وأنا أتحدث إليه أو ربما هيئ لي ذلك، ولكنه ظل طيلة جلوسه معي مطأطأ الرأس يبدي أسفه على سنوات عمره التي مضت منه دون أن يتزوج.. ظل يبعث برسائله إلى الشباب للابتعاد عن طريق المخدرات الذي يقود إلى الدمار والذي بدوره قاده إلى (سجن الهدى) ينتظر انقضاء محكومته التي مضى منها أربعة أعوام من أصل عشرة سنوات، لم يكن (ف) وحده الذي يقضي عشرة سنوات، بل رفاقه الذين جلست إليهم خففت محكوماتهم إلى عشر سنوات من أصل عشرين سنة عن طريق الاسترحام والاستئناف عدا أحدهم الذي لم تخفف محكومته بعد.. ورغم أن (ف) كان يتحمل مسؤولية والدته وخمسة أطفال بينهم شقيقته المريضة بعد زواج أشقائه الأكبر منه، إلا أن حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه لم تثنه عن تعاطي أول سيجارة وهو ما زال بعد ابن الستة عشرة ربيعاً عندما أتى شقيقه الأكبر (بقندولين حشيش) لتكون تلك أولى خطواته نحو الإدمان.. لم يستطيع حينها إكمال ما تبقى من (سيجارة البنقو) بعد شعوره بدوار مرة تلو الأخرى إلى أن توطدت أواصر العلاقة بينه وبين سيجارته التي باتت لا تفارقه الأمر الذي جعله ينفق كل عائد يجنيه من عمله في الزراعة وصيد الأسماك على هذا الداء الذي أهمل معه أسرته وأفنى حياته وهو مازال بعد في الثالثة والعشرين من عمره.
مزاج سيئ
ما أن أكمل (ف) قصته مغادراً مقعده حتى بدأت من على ذات المقعد تفاصيل رواية جديدة، قد تختلف عن سابقتها ولكن الألم كان قاسمهما المشترك وربما بدأت – وأعني القصة – أكثر حزناً وألماً على ثمانية أطفال تخلى عنهم شقيقهم الأكبر تاركاً من تصغره عمراً تتولى أمر رعايتهم ومبلغ زهيد تتحصل عليه جراء أداها للخدمة الإلزامية، لم يكن (م ـ م) يعلم أن (عزومة) على سيجارة (بنقو) في 2004م (لظبط مزاجه السيئ) حسبما أفاد، ستجعل منه مدمناً وأن مبايعته لنصف قندول من الحشيش ستلقي به داخل (سجن الهدى) وعمره لم يتعدِ الثانية والعشرين، كان (م) يعتقد أن الأحكام العالية التي يحاكم بها متعاطو وتجار المخدرات لا أساس لها في الواقع، وأن الأمر برمته ما هو إلا تحذيرات للموجودين خارج أسوار السجون للتخلي عن المخدرات، ولكن ما لبث أن تبخر معتقده بعد أن أفاق على صوت القاضي وهو يصدر عليه حكمه بعشرين عاماً خففت إلى عشر سنوات لم يمضِ منها سوى عامين.. مناشدات شتى أطلقها (م) محذراً أبناء جلدته من الشباب من مغبة الدخول إلى هذا العالم قائلاً: (المخدرات دي اختوها أنا ندمان ندم شديد).
قصة ندم
لفت انتباهي بملابسه النظيفة وتلك الثنيات الموجودة على بنطاله من أثر المكواة، خلته للحظة أحد النزلاء المعسرين من أصحاب الشيكات المرتدة، كانت تجلس إلى جواره فتاة علمت لاحقاً أنها من أبناء عمومته، جاءت تقدم له واجب الزيارة فأتى به العسكري إلى غرفة الرعاية الاجتماعية حيث أجلس… فضولي ساقني لمعرفة قصته فما لبثت قليلاً حتى انضم إلى مجموعة الشباب الذين جيء بهم إليّ فعلمت أن له رواية مع المخدرات بدأت فصولها عندما أصبح ما يتحصل عليه من عمله بصيانة الموبايلات لا يجدي نفعاً مع ظروف الحياة الضاغطة، فبدأت حقيقة أن الرزق الحلال لا يجدي نفعاً – حسب اعتقاده – تتمثل أمامه، كانت أمنيته أن يصبح طبيباً ولكن نسبته التي أحرزها (72%) حالت دون ذلك.. كان يريد أن يجني المال بأية وسيلة فأسرته التي يعولها بحاجة إلى المال الذي يسد رمق أباً وأماً وأربع فتيات اثنتان منهما مطلقات، قدره جعله ابناً واحداً وسط أربع فتيات.. ولج إلى عالم المخدرات (سائقاً) مهمته توصيل المخدرات واكمال عملية التسليم والتسلم قصاد مبلغ للمشوار الواحد حسب قوله (بالميت كدا 2 مليون جنيه)!!
بدأت معتقدات (م ـ خ) البالغ من العمر ثلاثين عاماً مختلفة بعض الشيء فيما يختص بطبيعة عمله، سألته عما إذا انتابته بعض المخاوف جراء عمليات التسليم والتسلم، فكانت إجابته أنه يتحصن بالقرآن ويتحجب به!! باغته بالقول: تخالف شريعته وتنافي أحكامه وتزعم أنك تتحصن بكتابه؟ فرد قائلاً: (البنقو) مادة مهلوسة غير مخدرة وتجارته غير محرمة، ولذلك لا أرى غضاضة فيه، فأنا لا أتعاطاه ولا أعرف كيف يكون مذاقه، ولكن النوع الموجود في السودان يسمى (بالقنب) ويمكن للشخص أن يتعاطاه لمدة من الزمن دون أضرار تذكر والإقلاع عنه! وهنا بدأ حديثه غير مقنع داهمته بسؤال عن المكاسب التي حققها طيلة خمس سنوات من العمل في الاتجار بـ(البنقو)، فأكد أنه لم يحقق أية مكاسب تذكر، بل يتساءل عن المبالغ التي جناها أين ذهبت وفي أي شيء أنفقها؟ ويواصل قائلاً: كنت استمتع بالمبالغ الزهيدة التي أتحصل عليها من عملي في صيانة الموبايلات أكثر من ملايين المخدرات التي كانت تدخل جيبي، وكثيراً ما وقفت مع نفسي فلم أجد سبباً مقنعاً لترك العمل خاصة أنه عمل بلا ضرائب ولا زكاة.
ولكن كيف تم القاء القبض عليه وما هي قصة ذلك المخزن والمكالمة التي أثبتت الجرم عليه والحكم الصادر في حقه، تفاصيل تطالعونها في الحلقة الثانية من التحقيق، إلي جانب قصة (الجزار) الذي أدخله الفراغ و(لمة) السوق إلي عالم المخدرات، بالإضافة إلي قصة الرجل الذي أراد شقيقه إنقاذ والدته وتوفير المال لها لزراعة الكلي، فكان نصيبها السجن.
صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY] هبة محمود