بشــير عبـاس عبقـري الموسـيقـا السـودانية والسندباد الذي نقل فن السودان إلى الخارج

[JUSTIFY]في ضروب الفن تختلف الأذواق، ولكن يتفق الجميع على الفنان بشير عباس باعتباره فنانًا وموسيقيًا، فهو فارس اللحن وعبقري الموسيقا السودانية، قام بالتلحين لكل الفنانين السودانيين باستثناء (عثمان حسين وصلاح مصطفى وأحمد المصطفى والتاج مصطفى)… التقيناه بمنزله العامر بحي الروضة بأم درمان، وبصالونه الفخم كانت جلستنا، ولم يسمح لنا ببدء الحوار ما لم نتناول وجبة الإفطار معه بمعية الزميلة عائشة الزاكي والأخ أيمن، وبعد أن حظينا بكرم حاتمي فيَّاض تجاذبنا أطراف الحديث معه حول مسيرته الفنية… معًا لنبحر مع الأستاذ بشير عباس وذكريات لا تنضب:

في افتتاحية حديثنا معك حدِّثنا عن طقوس ميلاد اللحن والمقطوعات الموسيقية عندك؟
– الطقوس في المقطوعات أكثر صعوبة منها في الألحان، فالمقطوعة تعتمد على خيال الفنان الموسيقي، والتلحين يعتمد على الإحساس بالكلمات، ومعظم ألحاني ومقطوعاتي الموسيقية قمتُ بتأليفها في جنوب السودان، وكلُّ الشكر والتقدير لرجال القوات المسلحة الذين عملوا على مساعدتي وذلك بالسفر إلى هناك عبر طائراتهم ومن ثمّ استضافتهم لي. وعادة عندما أكون في حالة تلحين أو تأليف موسيقي أكون وحدي، ومُلهمي الله سبحانه وتعالى، فالتلحين والتأليف نعمة حباني الله بها وأقضي فترة أسبوعين أو أكثر في اللحن الواحد، ولغرب الإسئوائية نصيب الأسد من ألحاني.
ما هي أول المقطوعات التي قمت بتسجيلها للإذاعة أستاذ بشير؟
– أول ثلاث مقطوعات قمت بتسجيلها وقدَّمتها للإذاعة القومية (أمي وأحاسيس ونهر الجور) وكان ذلك في العام (1960م) ومقطوعة (أحاسيس) كانت عبر (الصفّارة).
لديك الكثير جدًا من المقطوعات الموسيقية نذكر منها غير الثلاثة سالفة الذكر (مريدي وليالي الخرطوم والنيلين الأخت وأضواء).. إلخ ولكن علمت أنَّ مقطوعة (مريدي) لها حكاية؟
– ليست حكاية بالمعنى المفهوم، ولكن أذكر أنَّ الرائد زين العابدين محمد عبد القادر قال فيها من المفترض أن تكون تلك المقطوعة هي النشيد القومي للسودان.
العزف على الصفَّارة والبدايات المبكِّرة لك مع تلك الآلة؟
– أول صفارة عزفت عليها كنت قد تلقيتها هدية من الوالد عليه الرحمة عند نجاحي للمرحلة الابتدائية، وكانت صفَّارة من الأبنوس، وأستطيع القول إن والدي كان يمتلك حسًا موسيقيًا عاليًا وهو من اكتشفني.
وأين وكيف تعلمت العزف على العود؟
– تعلمت العود على يد ابنة عمي الأستاذة أسماء حمزة وكان ذلك بالحلفايا، والعود الذي تعلمت عليه كان هدية من الأمير لاي عبد الرحيم محمد خير شنان لعمي حمزة والد أسماء، وحينها كانت الراديوهات حصريًا على عدد من البيوت، كنت أذهب وأتتبع الراديو وأستمع لكبار المطربين أمثال حسن عطية وأبو داود وعثمان حسين عليهم الرحمة، ثم أجلس مع أسماء لألقي عليها ما حفظته وهي تحب الاستماع للفنان عثمان حسين كثيرًا.
كان للمجتمع السوداني نظرة سالبة تجاه الشخص الذي يمارس الفن، فهل وجدتَ اعتراضًا من الأسرة؟
– رغم تشجيع والدي لي إلا أنَّ الاعتراض جاء من من قِبل عمتي (فاطمة بشير) فكنت عندما أسمع صوتها وأنا بمنزل عمي حمزة أرمي العود بعيدًا عن يدي، فكانت كلَّما تراني مُمسكًا به تصرخ في وجهي، ولكن مرَّت الأيام وأصبحت من أكثر المعجبين بفني.
أستاذ بشير أنت كثير السفر والتجوال في أنحاء العالم، حدِّثنا عن الغربة وأثرها في فنك؟
– لا يوجد فنان في الحقل الفني السوداني (لفّ) العالم مثلي بمجهودي الخاص و بمساعدة بعض الشخصيات، وكان كل همِّي هو إيصال الموسيقا السودانية بالعود لكل العالم، حيث وصلتني دعوة في العام (1980م) عن طريق السفارة السودانيَّة في اليابان وزرت عددًا كبيرًا من الدول على سبيل المثال إنجلترا وفرنسا وأمريكا وألمانيا في وقت كان فيه من النادر جدًا أن يزورهم الفنانون.
وهل نجحت فيما تصبو إليه من إيصال الموسيقا السودانية للخارج مع ملاحظة اختلاف السلالم الموسيقية بيننا وبين العالم؟
– سلمنا الخماسي مميَّز، فالسلم السباعي يتشابه في كل العالم. وأقولها بالفم المليان إنه لا يوجد فن في شمال وغرب إفريقيا بصفة خاصة منافسًا للفن السوداني، وأذكر عند زيارة فرقة (أضواء المدينة) المكوَّنة من عدد من المطربين المصريين (عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وصباح وفائزة أحمد) وكان ذلك أيام حكم الرئيس الأسبق الراحل عبود فقام الفنان الكابلي بدعوة تلك الفرقة لمنزله وكنتُ من ضمن المدعوين فعزفت مقطوعة (ألحان) وكان بهذه المقطوعة (تقاسيم) بالعود، وصادف وجود الشاعر والكاريكاريست الكبير صلاح جاهين فعلَّق قائلاً: (أول مرة أسمع تقاسيم سودانية) وطبعًا هي معروفة في الغناء الشرقي، فكانت تلك المقولة شهادة أعتزُّ بها.
بالتأكيد أستاذنا شاركت في الكثير من المحافل الدولية، هلا حدَّثتنا عن تلك المشاركات والنتائج التي خرجت بها…
– تلقيتُ دعوة في العام (2003م) عن طريق أستاذنا البروف الماحي إسماعيل للمشاركة في يوم الموسيقا العالمي بألمانيا وكانت المشاركة تخضع لشروط معينة منها أن يكون لدى المشارك ما لا يقل عن (7) مقطوعات من مؤلَّفاته الخاصة. وكان عدد الدول المشاركة (22) دولة من خمس قارات، فأحرزت المرتبة الثالثة عالميًا في وقت جاءت فيه البرازيل في المرتبة الخامسة وفرنسا في المرتبة التاسعة، وفي العام (2005م) أقامت جامعة الدول العربية مسابقة للمقطوعات الموسيقية وشاركت فيها بمقطوعة (نبتة حفيدتي) وأحرزت المرتبة الثانية وكان حينها المستشار الثقافي لسفارة السودان بمصر الأستاذ حسن فضل المولى، وعندما تقرَّر إقامة ليلة لتسليم الجوائز اغتيل السفير المصري بالعراق وتأجَّلت الليلة، ثم تقرَّر يوم آخر فحدثت حادثة غرق العبَّارة المصرية، ولكن بإذن الله سأُغادر إلى القاهرة في غضون الأسبوع القادم لاستلام جائزتي التقديرية.
تمت استضافتك في عدد من الإذاعات العالمية فلنبحر معك وأنت تحكي لنا عنها؟
– تمت استضافتي في عدد من المحطات العالمية مثل لندن ومونت كارلو وصوت أمريكا و(إم بي سي) سنة (1978م) وفي تلك الإذاعة تحديدًا كنت أول أجنبي يسمحون له بزمن (10) دقائق فعزفت مقطوعتين بالصفارة والعود في زمن (5) دقائق، وفي الزمن المتبقي تحدَّث صديقي البروف عبد العزيز بطران عن السودان.
لا يُذكر اسم البلابل إلا ويُذكر اسم الموسيقار بشير عباس، هل لنا أن نتحدَّث عن تلك الثنائيَّة؟
– البلابل يصعب تكرارهنَّ، فهنَّ في المقام الأول شقيقات يعشنَ ظروفًا متشابهة، وهذا سبب رئيس للنجاح، ولكل مجموعة هادٍ كما يقولون، والبلابل بقيادة هادية لحنتُ لهنَّ ما بين (32 ــ 35) أغنية ما بين عاطفي ووطني، ويعتقد الكثيرون أنَّ أول ظهور لهنَّ كان في السبعينيات بأغنية (رياح الشوق) كلمات الحسين الحسن، ولكن الحقيقة أنَّ ظهورهنَّ الأوَّل كان عقب انقلاب هاشم العطا في يوليو حيث ظهرن بأغنية (أب عاج أخوي) كلمات الفريق جعفر فضل المولى، وكان حينها مديرًا للفنون الشعبية، وكان له دور مهم في ظهورهنَّ، وكان من المفترض أن يتغنَّى بتلك الأغنية ثنائي النغم (زينب وخديجة) ولكنهما لم تنتظما في حضور البروفات، ولكن البلابل ككورس كنَّ أكثر حرصًا على الحضور مما حدا بالعقيد عثمان محمد أحمد الشهير بـ (كنب) ــ وكانت معسكراته بالقرب من سلاح الموسيقا أن يقترح أن تُوكل مهمة أداء تلك الأغنية للبلابل، وكنَّ قد ظهرنَ معي قبل ذلك في برنامج (تحت الأضواء) من تقديم الإذاعي حمزة بولاد، وهنَّ من المفترض أن يكنَّ أربعة، ولكن في يوم تلك السهرة حضرت ثلاث واعتذرت شقيقتهنَّ شادية.
دعنا نتحدَّث عن دخولك وتعيينك في الإذاعة القومية؟
– في يونيو (1959م) قدَّمت للإذاعة كعازف عود، وكانت لجنة الاختيار مكوَّنة من الأساتذة علاء الدين حمزة عليه الرحمة رئيسًا، ونائبه عبد الله عربي، والمشرف الموسيقي مصطفى كامل عازف القانون، وكانت الفرقة الموسيقية تعمل بالفترة المسائية في التسجيلات والبروفات فخلقوا لي وظيفة سكرتير أوركسترا الإذاعة القوميَّة، وهذه الوظيفة كانت نواة لخدمة الموسيقا، واستمرت حتى (1963م)، ولكن لا تخلو مؤسَّسة من المكايدات واتُّهمت بأني أقوم بتسجيل مقطوعاتي دون غيرها عملاً بالمثل الشائع (الفي يدو القلم مابكتب نفسو شقي)، فطالبتُ بنقلي كموظف إلى القضائيَّة وعملتُ مساعد محاسب، وكان نائب رئيس الحسابات الأستاذ عبد الله عربي والمسؤول عن شؤون الموظفين الأستاذ الكابلي، وكان معنا الدكتور محمد سراج، فمارستُ عملي خارج الإذاعة ولكني كنت متعاونًا بها.
ولكنك عاودت العمل في الإذاعة مسؤولاً عن ركن الموسيقا؟
– في العام (1966م) تمَّ تعيين الأستاذ برعي محمد دفع الله ضابطًا للموسيقا بالإذاعة ونائبه الدكتور مكي سيد أحمد (عليهما الرحمة)، فابتُعث هذا الأخير إلى بلغاريا لمدة (6) سنوات، فطلبوا من برعي تعيين نائب له فوقع اختياره على شخصي، وفي العام (1967م) تولَّيتُ مهمَّة إدارة ركن الموسيقا في وقت صعب وحرج للغاية عندما كان الأستاذ برعي في بعثة للقاهرة.
ما هو لونك الرياضي أستاذ بشير؟ وهل مارست الرياضة؟
-أنا مريخابي على السكين، ولعبتُ مع الكابتن المدرب العظيم (سيد سليم)، وكنتُ في المدرسة الوسطى ألعب في التيم الأول في الجناح الشمال.
وما هي علاقتك بالسياسة؟
-أنا اتحادي ديمقراطي (تبع الزعيم الأزهري)، وكل علاقتي بالسياسة الآن متابعة وفهم ما يحدث داخليًا وخارجيًا ولكني لا أمارس أي نشاط سياسي.
الساحة الفنيَّة والغنائيَّة تعج بكثير من الأصوات، فما هو تعليقك وهل تعجبك أصوات بعينها؟
– الكل يريد أن يكون فنانًا، وفي السنوات الأخيرة لم أستمع إلى جديد بالساحة الفنية ولم تكن هنالك إضافات، ولكن هذا لا ينفي وجود أصوات جميلة كالفنانين عاصم البنا وجمال فرفور وطه سليمان وأولاد الصادق ومحمود عبد العزيز ونادر خضر عليهم الرحمة، والأصوات النسائية مثل مها عبد العزيز، وهذه سيجمعني معها عمل قريبًا، وكذلك شموس وإنصاف فتحي ورفيعة إبراهيم.
أستاذ بشير، حدِّثنا عن تكريمك المزمع قيامه في غضون الأيام القادمة؟ وهل كانت هنالك تكريمات أخرى سبقت هذا التكريم؟
– هذا التكريم من جامعة المستقبل بقيادة ربانها البروف الطيب مصطفى، ويصادف هذا التكريم الاحتفال باليوبيل الذهبي وعطاء امتدَّ لأكثر من خمسين عامًا، وستستمر فعالياته لمده خمسة أيام متتالية، وسيكون الختام يوم 22/ أغسطس، وستُقدَّم خلاله أعمالي الخاصَّة من قِبل طلاب كليات جامعة المستقبل. ومن أعظم التكريمات التي أُقيمت لي كانت من أهلي بحلفاية الملوك عندما أحرزتُ المرتبة الثالثة عالميًا، وعلى مستوى الدولة جاءني خطاب من النائب الأول علي عثمان محمد طه يشيد فيه بأعمالي الفنية وأنه يشعر بالفخر عندما يسمع بانتصاراتي الفنية، وكنت قد أرسلتُ له (سي، دي) خاص بجائزتي التي أحرزتُها في ألمانيا.
أستاذنا، هل هنالك اتجاه للثوثيق لأعمالك الخاصة؟
– هنالك اتجاه لضم كل أعمالي في (سي، دي)، وحتى إذا لم تسنح لي الفرصة لعمل ذلك بنفسي فأبنائي سيقومون بذلك بالنيابة عني.
ما هي آخر أعمالك الفنية؟
– عمل سيجمعني مع البلابل بعنوان (تتبارك ما تتشارك) كلمات الشاعر محمد عبد الله برقاوي، ولحن آخر وعدتُ به الفنان حسين الصادق عندما قام بتكريمي بالمسرح القومي وقلت لجمهوره (امسكوا الخشب).
الحديث معك لا ُيملُّ ونحن على مشارف الختام هل ثمة شيء تود قوله؟
– أنا سعيد جدًا بزيارتكم وسعيد بما يُكتب من صحفيين وكتّاب، وأخصُّ بالتحية الأستاذ عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، وأنا حريص كل الحرص على قراءة صحيفة (الإنتباهة) لدرجة أنني عندما أرسل أحد أبنائي لإحضار الصحف اليوميَّة يقول لي (الإنتباهة وتاني شنو معاها)؟

[/JUSTIFY]

الانتباهة

Exit mobile version