عشرة أعوام مرت منذ رحل أستاذي وأستاذ الآلاف من السودانيين البروفسور عبدالله الطيب، رحمه الله، عالم اللغة العربية المتفرد، والمثقف الموسوعي، ومفُسر القرآن الكريم للملايين من بسطاء السودان ومتعلميه. كلما تذكرته، وتلفتُّ حولي أتعجب من الجهل المتفشي في بلاد السودان، تذكرتُ الفكي زين العابدين، شيخ الخلوة (المدرسة القرآنية) في غرب مدينة الأبيض في خمسينيات القرن الماضي، يسوق حيرانه صباح كل يوم جمعة، يطوف بهم أحياء الأبيض، ويقف أمام بيوت بعينها، ويجعلهم يُنشدون :
العار أن تموت بلادنا جهلا وفيها سادة العلماء!
رحل عبد الله الطيب، ومن قبله الفكي زين العابدين وغيرهم، وتركونا نغوص كل يوم في رمال الجهل المتحركة التي تبتلع كل شئ جميل ومُتقن وخيّر.
قبل أن اعرفه، ظننته خير مثال لسكان الأبراج العاجية. يعيش وسط شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، يحفظ أسماءهم العصيّة على الحفظ، واشعارهم الأكثر استعصاءا على الحفظ والنطق والفهم. يعرف قبائلهم، وبطونهم، وأنسابهم، ومضاربهم، وبيئتهم بتضاريسها وجبالها،وصحاريها،وواحاتها، ويعرف أسماء جمالهم، وخيولهم، وكلابهم، وسيوفهم، ورماحهم؛ ويعرف أسماء أمهاتهم، ومحبوباتهم، وبناتهم، وابنائهم، وابناء عمومتهم وخؤولتهم – وجيرانهم. كنت أظنه، من فرط انتمائه ومعرفته لتلك العهود في جزيرة العرب، لا يعيش بيننا، يأكل طعامنا، ويمشي في اسواقنا، ويهتز لما نهتز له، ويطرب لما نطرب له.
وحين قرأت كتبه (الأحاجي السودانية)، و(من نافذة القطار) و(بين النير والنور) وغيرها، اصابتني الدهشة حين وجدته يعرف “الشئ السوداني” خير معرفة، بتراثه وتاريخه الاجتماعي، ولهجاته، وفنونه، و”جنونه”، والعابه الشعبية. يعرف الأمثال الشعبية، والقصص الشعبي، والشعر الشعبي، والغناء الحديثوالشعبي، وخاصة ما يُسمى بأغاني البنات التي لا يُعرف لها شاعر. يعرف نباتات السودان وحشائشه، وأشجاره، وفواكهه الصحراوية التي تشبه بيئته الجافة، وحيواناته المستأنسة والوحشية. يعرف المهن والحرف والطب الشعبي والوصفات ااطبية التقليدية، واسماء الأمراض المحلية.
اكتشفت، (في كثير من الدهشة) سودانية عبد الله الطيب حين فاجأني بمعرفته لجانب لم أكن أتصور أنه عليم به. في مقابلة صحفية (لعلها إذاعية)، لم يستطع المذيع في نهاية المقابلة مغالبة فضوله بعد أن تحدث البروفسور مليّا عن الشعر الجاهلي، والأدب العربي، وتجاربه في جامعة الخرطوم وجامعة زاريا النايجيرية، فسأله في خِفّة: لماذا تزوجت أوروبية (خواجية بالسوداني)؟ لم تطرف للبروفسور عين، ولم يتلجْلجْ حين قال عفو الخاطر: “الريد قِسَمْ يا عينيّ!”
يا ألطاف الله! أيعرف ساكن البرج العاجي، العالم النحرير،استاذ اللغة العربية وآدابها، عضو مجمع اللغة العربية (بل هو المجمع بأكمله)، وحافظ أشعار العرب وآدابهم وتاريخهم، ومُفسر القرآن الكريم، وعالم كتب الفقه والتراث الإسلامي، وضيف الدروس الحسنية الرمضانية الدائم في حياة الملك الحسن وفي عهد ابنه محمد السادس، مثل هذه الأغنية الشعبية، ويستشهد بها؟ أدهشني ايضا حسه الفكاهي المرهف، وادراكه لطرافة المفارقة بين صورته النمطية وحقيقته السودانية البسيطة. حكى لي احد الأصدقاء أنه حضر أحد آخر محاضرات عبد الله الطيب في دار اتحاد الكُتّاب السودانيين وكانت عن الشعر الجاهلي. وبعد أن أجاب البروفسور على استفسارات وتعليقات جمهوره المُحب للشعر، قديمه ومُحدثه، ونزل عن المنصة، فاجأه مُشاكس بسؤال مُباغت: “ما رأي البروفسور في مشكلة جنوب السودان؟”
عاد البروفسور إلى المنصة، وجلس في تؤدة. التمعت عيناه الذكيتان، وابتسم ابتسامته التي تملأ وجهه، والدنيا، وقال ردا على السؤال: “خازوق!”
والحق يقال، “الخازوق” ما تركنا عليه عبد الله الطيب من جامعات منزوعة الدسم والبركة، وانحطاط للغة العربية في عهد قلب القاف غيناً والذال زيناً، وفي عهد ملأ الفم بالكلام المحفوظ، المكرر،الرنّان الذي يصُكّ آذان السامعين ولا يقول شيئاً.
رحم الله عبد الله الطيب، وتولّانا في غيابه برحمته. الخرطوم :بقلم: عوض الحسن