حي كميِّ
مثل كثيرين غيري شغلت وظائف عديمة الجدوى لي وللجهات التي كنت أعمل لديها، أي أنني كنت واحدا من «الأحياء الأموات»، وهم الموظفون الذين لا يحس أحد بوجودهم ولا يكلفهم أحد بمهمة ما، تأتي وتنصرف في المواعيد المحددة إلى ومن مكان العمل، من دون أن يكلفوك بأي عمل، وتتقاضى راتبك في نهاية كل شهر! في بداية الأمر يبدو تقاضي راتب نظير عدم فعل شيء ممتعا، ولكنك سرعان ما تحس بالتهميش والضآلة.. (الاستثناء لهذه القاعدة أمثال ذلك الشاب المصري الذي سبق لي الكتابة عنه.. فقد توفي والده بعد ان عمل سنوات طويلة في الإذاعة، ومن باب المجاملة عرضت الإذاعة على الشاب العمل لديها، فوافق مسرورا ولكنه طلب ان يعمل في المناوبة/ الوردية الليلية.. قال له المدير: ليه يا ابني ده انت لسه شاب.. اشتغل بالنهار عشان تقدر تقضي وقتك مع اهلك وأصحابك بالليل!! ولكن الشاب قال للمدير – بكل بجاحة – إنه يعرف ان كل ما هو مطلوب منه في المناوبة المسائية هو تشغيل شريط موسيقي من الحادية عشرة ليلا حتى السابعة صباحا.. وعلى كده أشغل الشريط وآخد راحتي في النوم).. المشكلة هي انك تستطيع إثبات وجودك في بيئات العمل الصغيرة التي تتألف من عدد محدود من الموظفين، حيث يكون اجتهادك وإخلاصك باديين للعيان، ولكنك قد تضيع في «الطوشة» إذا كنت تعمل – مثلا – في شركة بها آلاف الموظفين، فقد تكون مواظبا ومجدٌّا ومخلصا ولكن رؤساءك لا يلاحظون ذلك، بل يلاحظون أولئك الذين لا همّ لهم سوى تسويق أنفسهم، فيحدثون جلبة وضجيجا للفت الأنظار إلى أنفسهم.. يتقربون لرؤسائهم باقتراحات سمعوها من زملائهم «المجتهدين في صمت».. يثرثرون كثيرا في الاجتماعات مما يعطي الانطباع بأنهم «فاهمون/فهمانون».
في وضع كهذا يصبح أداء العمل أو إهماله سيّان، فـ«الإدارة» تكون معنية على نحو أساسي بمسائل شكلية غير ذات بال مثل مدى تمسك الموظف بمواعيد الحضور والانصراف، وتجد في معظم الدول العربية أنظمة إلكترونية لرصد مواعيد حضور الموظفين وانصرافهم في غياب أي نظام لرصد إنتاجيتهم وكفاءاتهم.. وهكذا يجد موظف مؤهل نفسه محنطا في مكتب، لا أحد يوكل إليه مهمة ولا أحد يحاسبه على الجلوس ساهما وواجما، ومن ثم يبدأ هذا الموظف في ابتكار وسائل لنفي الملل، وإذا كانت لديه خدمة الانترنت في الكمبيوتر الذي أمامه، فإنه يجعل البريد الالكتروني أداة «ونسة وترفيه»، ثم يدخل غرف المحادثات (التشات) ويندمج في الكلام الفارغ، وأحيانا قد يفاجأ بأن زملاءه غادروا المكتب بينما كان هو مندمجا في الانترنت، ويخرج مهرولا فيراه رئيسه المباشر مصادفة ويستنتج أنه مجتهد ويعمل ساعات تفوق الساعات المقررة ويأخذ عنه انطباعا ايجابيا، ويفاجأ ذلك الموظف عند التقييم السنوي انه نال تقدير «ممتاز»، والإنسان ملول بطبعه وغالبية الناس تميل إلى تمضية الوقت في أداء عمل مفيد، بمعنى أنه يرحب بالأعباء الوظيفية التي تملأ وقته، ولمقدم البرامج الحوارية في التلفزيونات الأمريكية المشهور جوني كارسون مقولة جميلة: لا تؤد عملا لا تجد فيه متعة، وإذا كنت سعيدا بعملك فإنك ستشعر بالرضا عن النفس وراحة البال، وإذا كنت فوق كل ذلك في صحة جيدة فستكون قد حققت نجاحا ربما لم يخطر قط على بالك.. ولكن الخواجة لا يعرف ان الأمور عندنا ليست بتلك السهولة: ليس من حقنا اختيار الوظائف التي نرغب فيها او نتقنها.. بل لا يملك معظمنا حتى حق اختيار شريك الحياة
جعفر عباس
[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]