النيل .. وحرب المياه
لم يعد يفصلنا وقت طويل حتى نرى أن الأمن القومي المصري بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، فالتوجه الإثيوبي لبناء سد النهضة على النيل الأزرق لم يعد مشروعا فحسب، بل بات حاجة إقليمية ليست وليدة العهد وإنما تعود إلى زمان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر،وتهدف إلى تعطيش الشعب المصري فيما تنشغل قياداته الديمقراطية الحاليةبتحليل وتبرير جهاد المصريين في سورية.
أظهرت تداعيات الربيع العربي في مصر تحديدا الوجه الحقيقي للإسلام السياسي الذي ما فتئ يبشر الأمة بالديمقراطية والتعددية، فيما بقي أمن مصر المائي وشريان حياة 84 مليون مصري في داخل البلاد فقط عنوانا للتصريحات الرنانة فقط لا غير، الرئيس المصري محمد مرسي أكد أن جميع الخيارات مفتوحة في التعامل مع قضية سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق بحجة بناء محطة كهرومائية (يشكل النيل الأزرق 86 في المئة والنيل الأبيض 14 في المئة من إجمالي مياه النهر التي تلتقي في أراضي السودان قبل أن تصل إلى مصر في أقصى الشمال) ، نقطة وانتهى التصريح، وفيما يصادق البرلمان الإثيوبي على اتفاقية “عنتيتي” التي تحرم مصر والسودان من نصيب الأسد من مياه نهر النيل الأطول في العالم، تكتفي الحكومة المصرية بالتأكيد على لسان رئيس وزرائها هشام قنديل أن أمن مصر المائي غير قابل للمساومة أو التنازل، مع العلم أن الخبراء والمتابعين للملف يربطون بين إسم هشام قنديل، الخبير في الري التقني وليس بحل الأزمات الدبلوماسية، وبين قضايا استهتار بالأمن المائي المصري في السابق.
هناك حيثيات صعبة تتحكم بمعادلة دول المنبع ودول المصب، واتفاقية تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وتحديدا «اتفاقية مياه النيل» التي وقعتها مع بريطانيا عام 1929، لكن اليوم تغير واقع الحال، فمصر غارقة في أزماتها السياسية والاقتصادية والإجتماعية، والتطورات التي شهدتها البلاد في الماضي القريب أعطت للدول الإقليمية الضوء الأخضر للمضي قدما في تركيع بلاد الفراعنة، هذه الرسائل فهمها الجيش المصري ورد بالقول إن الخلاف مع إثيوبيا لم يصل بعد إلى المستوى العسكري، وإنه من السابق لأوانه إقحامالمؤسسة العسكريةفي هذه المشكلة، “لم يصل” و”من السابق لأوانه” أي أنه قد “يصل” و”يحل الأوان”، المسألة باتت مسألة وقت، وتأكيد الخارجية الإثيوبية بأن الحرب النفسية من جانب القاهرة لن ترهب أديس أبابا وأن بناء السد على النيل الأزرق لن يتوقف، يأتي في سياق التصعيد المرتقب.
الإصطفافات الإقليمية والدولية
أثبتت الوقائع على الساحة السياسية أن ضعف الحكومة المصرية التي يسيطر الإخوان المسلمون على زمام أمورها، أعادت مصر سنوات وسنوات إلى الوراء وسمحت للدول المحيطة بالاستخفاف بدورها الإقليمي. أما إثيوبيا فأدركت أهمية لعبة الاصطفافات وعملت على تنمية علاقاتها مع الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب في القرن الأفريقي وخصوصا في الصومال التي كانت غريمتها في المنطقة، وكذلك وطدت أديس أبابا علاقاتها الاقتصادية مع بكين والدبلوماسية مع دولة جنوب السودان الحديثة الولادة بعد تفكك سلة الغذاء العربية.
وفيما استمرت السلطات المصرية الحالية بلعب دور الدمية الأمريكية الصهيونية في المنطقة وخرجت من جميع المعادلات الإقليمية وكذلك ابتعدت عن ملف السودان على الرغم من أهميته القصوى، جاءت الصفعة الإثيوبية على شاكلة سد النهضة لتكون مكملة لتهديدات المسؤولين الإسرائيليين بتدمير سد أسوان وتعطيش مصر وخنقها بالحرمان من المياه، وعليه فإن التخاذل المصري والتحالفات الخاطئة أعطت أديس أبابا أوراقا تفاوضية قوية، في حين أن السلطات المصرية الحالية لا تتمتع بقدرات ديبلوماسية كافية لمعالجة هذه الازمة، لانها ترجح الكفة الحزبية على كفة الأمن القومي ولا تسمح للخبراء غير الإخوان بالدخول على خط المعادلة، فهل لهؤلاء آذان صاغية وأهداف أكثر واقعية من الخلافة المنشودة؟
تثبت المتغيرات الراهنة ضرورة بحث مصر عن بدائل لمياه النيل وسبل استخراج الطاقة، تحليل مياه بحر المتوسط لم يعد نافعا فحسب، بل بات حاجة ملحة لأن القادم من الأيام يحمل في طياته حرب مياه لن تكون نزهةلا سيما وأن حلفاء النظام المصري الحالي اصطفوا مع إثيوبيا، وأن للشركات العابرة للقارات دور لا يستهان به وهي التي تتطلع إلى خصخصة مياه النيل عبر المؤسسات الدولية.
صراحة على المصرين تقديم كل أنواع الشكر لحلفاء نظامهم الشوفيني الحاكم من دول الخليج ، فبعد المحاولات القطرية استئجار الآثار المصرية، ها هو تحالف من دول الخليج يتشكل ضد مصر في موضوع بناء سد النهضة، فالسعودية وقطر والإمارات تقدمت بعرض زراعة 5 ملايين فدان بجوار السد الإثيوبي، هذا يعني أن الأمن القومي المصري مهدد بأموال عربية، فهل من يسمع و يرى الكارثة التي يقدمها لنا الصهاينة العرب على طبق الديمقراطية؟
بقلم : إلياس مارديني
صوت روسيا