البرلمان يضبط الحكومة «متلبِّسة» في جريمة خرق قرارات الرئاسة

[JUSTIFY]اتهم «البرلمان»، الحكومة بخرق قرار مجلس الوزراء الخاص بتصفية الشركات الحكومية، وذلك بإنشائها «5» شركات جديدة في المركز والولايات خلال شهر مارس المنصرم، ووجه البرلمان بتشكيل لجنة للتقصي والمساءلة في هذا الامر… وبقراءة هادئة هذه الخطوة في مجملها تتراءى أو تعني الآتي:
أولاً: أن الحكومة لا تحترم قراراتها وتستهين بقوانينها، وبذلك تهزم فكرة الدولة والنظام وتفضح شعاراتها المرفوعة.
ثانيًا: أن الحكومة تعطي المبررات لمتنفذين درجوا على تجاوز القوانين واللوائح متى ما اقتضت مصالحهم ذلك.
ثالثًا: هذا التجاوز يعني أيضًا انهيار المثال والقدوة في تطبيق القرارات والقوانين واحترام رمزيتها.
رابعًا: أن القوانين والقرارات تطبق بشكل انتقائي.
خامسًا: هذه الخطوة تشير إلى أن هناك متنفذين يخرقون القرارات وفقًا لمصالحهم الشخصية، ودون الحاجة لتبرير هذه التجاوزات.
سادسًا: تعطي هذه الخروقات «الحكومية» للقرارات الرئاسية انطباعًا يشير إلى ضعف مؤسسات الرئاسة وأجهزة الدولة المنوط بها حراسة قرارات الحكومة.
سابعًا: تعني مثل هذه الممارسات أن الدولة تعاني من خلل يتعلق بقدرتها على فرض هيبتها وقدسية قراراتها…
ثامنًا: وتعني أيضًا أن هناك جهات تعمل على إضعاف هيبة الدولة وانتهاك قدسية قراراتها.
والسؤال الذي يمكن استدعاؤه هو، ما الذي يدفع بعض المتنفذين في الحكومة نحو الاستهانة بقرارات مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية؟
ولسنا هنا بحاجة إلى التذكير بتجاوزات وزير الزراعة الدكتور عبد الحليم المتعافي لقرارات مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية في استبقاء مدير وقاية النباتات خضر جبريل رغم انتهاء مدته القانونية في الخدمة، ورغم أنف قوانين الخدمة المدنية… وهل نحن بحاجة أيضًا إلى التذكير بالاختراقات التي أطاحت قرارات مجلس الوزراء الخاصة بإلغاء رسوم العبور في الولايات عبر مراحل سابقة…
وقبل الخوض في قضية اختراق الحكومة لقرار مجلس الوزراء القاضي بتصفية الشركات الحكومية، نشير هنا إلى تبريرات دفع بها المتعافي حينما سأله الصحافيون عن أسباب تجاوزه لقرارات رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء وقوانين الخدمة المدنية في استبقائه خضر جبريل بالخدمة، حيث قال بطريقة مقتضبة جدًا وأسلوب يحتمل كل التأويلات: «ما في حاجة في البلد دي بتتم من دون رضا الرئيس، وما في وزير بخوِّف الرئيس»… فكأنما أراد المتعافي «الذكي اللماح» أن يشير إلى أن تسوية القضية تمت برضا الرئيس وقد أقنعناه بتجاوز قراراته السابقة لأمر اقتضته «المصلحة العامة».. استدعينا هذه القضية لأنها ذات صلة وثيقة بتجاوزات النافذين في الحكومة لقرارات الحكومة، ولعل رد المتعافي المشار إليه هنا يفسر الحالة التي نحن بصدد تشخيصها، ولعله أيضًا يقربنا من الإجابة عن السؤال الجوهري المطروح…

وتبديد المال العام وتخريب الاقتصاد:
أما بشأن تجاوز الحكومة لقرارات مجلس الوزراء الخاص بتصفية الشركات الحكومية، فلا بد من الإشارة إلى وضعية هذه الشركات الحكومية وتجاوزاتها وما حام حولها من شبهات فساد، وكيف أن بعضها أصبح مرتعًا لممارسة الفساد المالي وتبديد المال العام وتخريب الاقتصاد الوطني
وتظل ممارسة العديد منها، دليلاً دامغًا على الفساد المحصن بالنفوذ السياسي وسلطة الدولة، وبات واضحًا أنه حينما فتحت الدولة الباب واسعًا أمام تسجيل الشركات الحكومية، تحولت من دولة مؤسسات ومرافق خدمية إلى أكبر تاجر في السوق ينافس شركات القطاع الخاص مع استئثار شركاتها «المدللة» بالتسهيلات والإعفاءات الجمركية والضرائبية، والرسوم الحكومية الأخرى وجميع أنواع الجبايات التي أرهقت شركات القطاع الخاص مما اضطرها للخروج من السوق ليخلو الجو لشركات الحكومة فخرجت شركات القطاع الخاص لأن المنافسة غير شريفة وتفتقد أبسط صور العدالة الاجتماعية والمساواة التي هي أساس حكم الشريعة الإسلامية التي تدعي الحكومة أنها تطبقها في الوقت الراهن… وبهذا أصبحت الشركات الحكومية الآن دليلاً على الحكم غير الرشيد وفي بعض ممارساتها شبهة فساد ظاهر، وتخريب للاقتصاد الوطني الأمر الذي دفع الرئيس البشير إلى إصدار قرار جمهوري بتصفية عدد منها، على أن يستمر برنامج التصفية حتى تخرج الدولة كليًا من السوق وتدع منافسة القطاع الخاص، في حين أصدر مجلس الوزراء قرارًا بعدم تسجيل أية شركة حكومية جديدة في مايو من العام الماضي، وبدا أن اتجاه الدولة العام هو تصفية هذه الشركات.. لكن ما الذي حدث؟!
الحكومة تخرق القرار
في يوم 11/6 الماضي اتهم المجلس الوطني «البرلمان»، الحكومة بخرق قرار مجلس الوزراء الخاص بتصفية الشركات الحكومية، وذلك عندما انشأت «5» شركات جديدة في المركز والولايات خلال شهر مارس الماضي، ووجه البرلمان بتشكيل لجنة للتقصي والمساءلة في أمر هذه الشركات وطبيعة العلاقة والمعاملات القائمة بين الجهاز الحكومي والأطراف ذات العلاقة في نطاق الهيئات والشركات الحكومية، وإعادة النظر في أمر هذه الشركات.
قرار جمهوري بالتصفية
في يوم «25/3/ 2011» كان الرئيس عمر البشير قد أصدر قرارًا جمهورياً يقضي بتصفية «22» شركة حكومية هي:ـ «شركة الجزيرة للتجارة والخدمات، شركة منقاش للاستيراد والتصدير، شركة المتحدة للاتصالات، شركة بشائر للطرق والجسور، شركة أنظمة الكمبيوتر والاتصالات، شركة كردفان للتجارة، شركة أواب للاستثمار، شركة كوبتريد للإسكان، شركة المصورات للاستثمارات الهندسية، شركة الهجرس للنقل، فندق سندبان، فندق شارع السيد عبد الرحمن، شركة المشير الاستشارية، شركة هاي فست العالمية، شركة باوتك الطبية، شركة كناري للبلاستيك، مصنع المنهل لأغطية الزجاج، مصنع شواهق للحديد والصلب، شركة GBG، شركة الأمن الغذائي، الشركة العالمية لمواد الطباعة».
الخروج من السوق بالباب
وبعد ساعات قليلة من قرار الرئيس البشير الذي ظن الكثيرون وقتها أنه تصحيح لأخطاء جسيمة وقعت فيها الدولة، وإقرار بالخطيئة والعمل على المعالجة، بعد ساعات من ذلك، قال وزير مجلس الوزراء بالإنابة الدكتور محمد المختار: «إن قرار التصفية جاء إنفاذًا للقرارات والإجراءات الاقتصادية التي أصدرها مجلس الوزراء مؤخرًا باستكمال خروج الحكومة من النشاط الاقتصادي المباشر وتحفيزًا للقطاع الخاص وتمكيناً له من القيام بأدوار أكبر في التنمية».
وأضاف الوزير وقتها: «وقد صدرت توجيهات للجنة العليا للتصرف في مرافق القطاع العام باتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتنفيذ هذا القرار فورًا وأوضح أن هذه القرارات تأتي في إطار المراجعة الكلية لدور القطاع العام والحيلولة دون خلق أي تشوهات في المجال الاقتصادي تُضعف من قدرته على جذب وتحفيز القطاع الخاص ليلعب دوره المحوري المرتجى»!!
خيانــة مشـــروعة
وكان الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد مالك أشار إلى جود فوضى ضاربة بأطنابها تتعلق بالشركات الحكومية وتجنيبها الأموال لاسيما في الوزارات بالمركز والولايات مشيرًا إلى أن الوضع العام للشركات سواء كانت مسجلة أو غير ذلك يظل ضبابيًا لجهة عدم توفر المعلومات عن انتسابها للحكومة أو القطاع الخاص إضافة إلى عدم معرفة النسبة التي تشارك بها الحكومة، واتهم الشركات بأنها شركات غسيل للأموال لافتًا إلى وجود شركة نفطية سجلت ثلاث مرات وأكد مالك وقتها في حديثه لـ «الإنتباهة» أن قرار مجلس الوزراء يُعتبر خطوة جيدة داعيًا لمزيد من الضبط السيادي ومنع الاستهانة بتنفيذ قرارات الرئاسة ومجلس الوزراء وضياع هيبة القرار.
شركات تعمل في الظلام
في يوم «13/5» كشفت المسجل التجاري، رئيس لجنة المراجعة الميدانية للكيانات التجارية هند محمد عبد الرحمن الخانجي عن ضوابط جديدة
بعدم تسجيل أي شركة حكومية لدى المسجل التجاري واعتبرت أن القرار يصب فى خانة التضييق والحد من وجود شركات حكومية كثيرة، وأقرت، بأن هنالك شركات حكومية لم تتوصل إليها لجنة المراجعة بعد لعدم معرفتهم بمقارها، وشددت على أن «90%» من الشركات الحكومية المخالفة لقانون الشركات والتي وصلتها لجنة المراجعة وفَّقت أوضاعها وأن «10%» من الشركات الحكومية الأخرى طلبت مهلة لتوفيق أوضاعها… ولعلَّ حديث رئيس لجنة المراجعة الميدانية يؤكد الاتهام القائل بتهرب كثير من هذه الشركات من المراجعة مما يعني أنها متورطة في وحل الفساد ولا تقوى على المراجعة ولو كانت صورية.
تساؤلات مشروعة
لكن الناظر إلى كل تلك التصريحات الرسمية التي تؤكد بشكل قاطع اتجاه الحكومة الرامي للخروج من النشاط الاقتصادي المباشر والعمل التجاري ومنافسة القطاع الخاص، وإلى قرارات رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء الماضية باتجاه تصفية هذه الشركات يتبين له أن الحكومة هي أول من يخرق القانون والقرارات السيادية، بشكل يُضعف هيبة الدولة، وأنها تتساهل بنحو مهين لرمزية الدولة وهيبة مؤسساتها السيادية التي تصدر القرارات… والأسئلة الأكثر إلحاحًا هي: لماذا تتساهل الحكومة لهذه الدرجة مع مثل هذه القضايا؟ وهل لهذه الشركات علاقة بتمويل الحزب الحاكم ونشاطه السياسي والاجتماعي والثقافي، مما يجعلها بعيدة عن المحاسبة والمراجعة، والعودة من الشباك متى ما أوصد أمامها الباب رسميًا؟ ولماذا يسمح مجلس الوزراء بإنشاء شركات حكومية جديدة طالما أن هناك أكثر من «700» شركة حكومية، يجري العمل على تصفيتها وإخراجها من السوق كما هو معلن أعلاه وفقًا لتصريحات المسؤولين.
سابقة خطيرة جدًا
في يوم «26/2/ 2013» أعلن رئيس لجنة التشريع والعدل بالبرلمان «الفاضل حاج سليمان» عن إحالة شركة حكومية لنيابة المال العام بتهمة التعدي على المال العام، وأقر «الفاضل» بأن الشركة غير مسجلة لدى مسجل عام الشركات وما تزال تمارس نشاطها مما يعتبر مخالفة لقانون الشركات، معلناً عن رفع الملف لوزارة العدل لاتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة الجهات التي أنشأت الشركة.
وكشف «الفاضل» في تصريحات عقب اجتماع مع المراجع ومسجل الشركات وقتها بأن معاملات الشركة ورأس مالها وأرباحها مجهولة حتى الآن وغير واضحة كما أنها لم تخضع للمراجعة مما يعتبر استغلالاً للمال العام، وقال إن إخفاءها للمعلومات مخالفة، منوهاً بأن مسجل الشركات أكد عدم معرفته بوجود الشركة وأقر بأنها غير موجودة في السجلات بطرفه.
ولعل اتجاه مسجل عام الشركات واتخاذه ضوابط جديدة ورهنه تسجيل الشركات الحكومية بموافقة مجلس الوزراء جاء نتيجة لما اورده رئيس لجنة التشريع والعدل بالبرلمان عن جود شركة حكومية غير مسجلة لدى مسجل عام الشركات تمارس نشاطها في مخالفة واضحة لقانون الشركات واستغلال المال العام لاسيما ان المجلس ءكد عدم علمه بوجود الشركة وهذه ليست المرة الأولى، فقد تردد حديث في وقت سابق عن وجود شركات حكومية كثيرة غير مسجلة وغائبة عن أعين الرقابة تمارس كل صلاحياتها وتعمل على تجنيب المال العام، وترددت بعض المعلومات عن ضبط «اربع» شركات حكومية غير مسجلة في المسجل التجاري في العام «2011م». وبعضها شركات وهمية تم تسجيلها ولم يكن لها وجود على أرض الواقع.
نهب مسلح بالسلطة
وكان تقرير المراجع العام الأخير قد أشار إلى تجاوزات بهذه الشركات، أبرزها تجنيب المال وصرف حوافز بغير وجه حق، وأن بعضها يشكل عبئاً على الدولة بجانب أنها أحد معوقات النمو الاقتصادي الخاص، والقدرة التنافسية للاقتصاد السوداني، أما المراجع العام بولاية الخرطوم قد اشار أمام تشريعي الولاية أخيرًا، إلى أن هناك »56« شركة بعضها يتبع مباشرة لحكومة ولاية الخرطوم وآخر تساهم فيه، وهذا يتنافى مع قرار خروج الدولة من القطاع الخاص والشركات.
وزارة المالية آخر من يعلم
وحول عدد الشركات والمؤسسات الحكومية أكد نائب رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني د. بابكر محمد توم، على عدم امكانية معرفة عددها أو حجمها. وقال وقتها: «لا يعلم عدد الشركات الحكومية إلا الله»، وقال إن وزارة المالية لا تعرف عددها، حيث هناك شركات تنشأ دون علم الوزارة، بجانب أن ديوان المراجع العام لا يعرف عناوينها ولم تقدم للمراجعة لسنوات، كما أنها لا تسلِّم حساباتها، وبالتالي يصعب تحديدها، وطالب بضرورة اشراك المسجل التجاري في اية لجنة خاصة بالتصفيات، وشدد على المسجل التجاري بالا يسجل شركة جديدة او فرعًا لشركة، اي سجل الشركات، الا بعد التأكد. واقر التوم بأن الكثير من هذه الشركات «متمكُنة» وعلى رأسها «متمكنون».
مخصصات خرافية
الجدير بالذكر أن هناك العديد من الشركات والمؤسسات الحكومية يفوق إنفاقها صرف الكثير من الوزارات المركزية، وأن هناك بونًا شاسعًا بين مخصصات الدستوريين ومديري الشركات والمؤسسات الحكومية رغم أن حجم مسؤولياتهم ومهامهم التنفيذية أقل بكثير من الدستوريين، ورغم ذلك يتقاضون مرتبات كبيرة، ومخصصات عالية تفوق ما يناله الوزراء الاتحاديون.
ويُشار إلى أن «90%» من المديرين يتم التعاقد معهم من قبل رئاسة الجمهورية وفق معايير مختلفة، وحول المخصصات الشهرية والسنوية التي ينالها مديرو الشركات والمؤسسات الحكومية، أشارت تقارير صحافية إلى أن بعض المديرين يتقاضون أكثر من «15» ألف جنيه في الشهر، ويحظى المديرون بمخصصات أخرى كالسكن والعربة والهاتف والعلاج بالخارج وتذاكر السفر لهم ولأسرهم وهناك مديرون ينالون حوافز سنوية لا تقل عن مرتبات عشرة أشهر، وآخرون ينالون حوافز في نهاية العقد حتى ولو كان سنوياً، وهناك من ينال «300» مليون حافزاً سنوياً..
وأخيرًا البغلة في الإبريق
إذن وبناء على ما تقدم من معطيات ومؤشرات مهمة وقرائن أحوال يمكن القول إن هناك متنفذين مستفيدين من وجود هذه الشركات ولا شك أنهم سيقاومون قرارات الرئاسة القاضية بتصفية هذه الشركات الحكومية ويسعون إلى إنشاء المزيد منها، ولا شك أن هؤلاء أصحاب نفوذ قوي يمنحهم القدرة والجرأة على تجاوز قوانين الدولة وقراراتها.

صحيفة الإنتباهة
أحمد يوسف التاي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version