كاذب رغم أنفك (1)

كاذب رغم أنفك (1)
رصدت الحكومة الأمريكية مئات الملايين من الدولارات لتطوير أجهزة الكشف عن الكذب، والغريب في الأمر ان الأمريكان مازالوا يزعمون ان البوليغراف -وهو جهاز الكشف عن الكذب الذي اخترع قبل 90 سنة- يتمتع بكفاءة عالية… هب يا صديقي ان الأمريكان كمشوك ووضعوا كيسا على رأسك ونقلوك إلى زنزانة ثم حرموك من النوم يومين أو ثلاثة ثم استجوبوك باستخدام البوليغراف.. يضعون في مناطق مختلفة من جسمك قطعا معدنية أو بلاستيكية موصولة بأسلاك، ويطرحون عليك مختلف أنواع الأسئلة ليستنتجوا من نبضات قلبك واهتزاز أطرافك ما إذا كنت صادقا أو كاذبا، وبداهة فإنك ستجيب عن الأسئلة وقلبك مضطرب النبضات، ومسامك تضخ العرق بكميات تجارية، والدم يتدفق عبر شرايينك وأوردتك على دفعات غير منتظمة.. هنا سيصدر الجهاز تقريرا يقول إنك كذاب وابن ستين كذاب، وإنك حفيد مسيلمة، حتى لو لم تقل سوى الحق ولا شيء غير الحق.. وطالما أن الجهاز يقول انك كاذب فستبقى موضع شك ومساءلة وربما محاكمة (العجيب في أمر هذا الجهاز المستخدم على نطاق واسع لدى الأجهزة الأمنية الأمريكية ان معظم المحاكم لا تعترف باستنتاجاته).
المشكلة هي انك يا صاحبي غافل عن أمر خطير تتعرض له في العديد من المطارات والموانئ.. لم يعد الأمر يقتصر على إرغامك على خلع حذائك وتفريغ أنبوب معجون الأسنان الذي تحمله للتأكد من أنه لا يحوي قنبلة موقوتة، بل إنك لا تدري بأن هناك أشعة مسلطة عليك لتقرأ كم مرة ترمش عينك وتتقلص عضلات وجهك، ويكركر مصرانك الأعور.. ومن ثم فقد تجد شخصا «عريض المنكعين شلولخ» يطلب منك ان تتجه معه إلى مكتب منزوٍ لاستجوابك بشأن ميولك الإرهابية! ميولي الإرهابية؟ أنا الذي لو صرخت فيه زوجته أصيب بنوبة قلبية؟ ولو أمرني شرطي المرور بالوقوف على طرف الشارع أطلب منه بامبرز أو أهرع إلى أقرب دورة مياه؟ سيصيح فيك ذلك الشخص: بلاش كذب والأشعة تحت الحمراء أثبتت انك مضطرب وحالك حال، ومن الخير لك ان «تعترف»! تقول لهم انك مضطرب لأنك غائب عن العمل منذ ثلاثة أيام بحجة المرض ثم لمحت المدير في المطار ينظر إليك شزرا وعيناه تقولان: مسوي حالك عيان.. طيب يا جميل! أو انك (كما صاحبنا الكويتي الذي نشرت الصحف مصيبته مؤخرا) قلت لزوجتك إنك ذاهب إلى مكة لأداء العمرة ويا ويلي لو انكشف أمر وجودي في مطار أمريكي!! أنا شخصيا متأكد من ان تلك الأجهزة ستعطي الانطباع بأنني إرهابي لأنني أكون على درجة عالية من التوتر في المطارات لأنني أخاف ركوب الطائرات، ولا أنام خلال أي رحلة جوية حتى لو أعطوني بنجا كاملا، ولكن المحققين الأمنيين غير معنيين بحقائق الحياة وهي أن معظمنا يكذب يوميا تفاديا للحرج أو إنقاذا لموقف ما، والسياسيون وكبار المسؤولين في أي دولة يمارسون الكذب على عينك يا تاجر كـ «جزء من طبيعة العمل».. مثلا: ارتفاع أسعار السلع الضرورية ليس بسبب زيادة الرسوم الجمركية بل بسبب إصابة الخراف في استراليا بالاسهال، ولأن الجراد قضى على القمح في سيبيريا، ولتفشي جنون القصب ارتفع سعر السكر الكوبي.. وغالبية الناس لا تتقن حتى الكذب البسيط، فتجدهم يفركون أيديهم او يحكون أنوفهم أو فروة الرأس عندما يكذبون.. ذلك لأن المخ والقلب يعملان بإيقاع مختلف عند الكذب.. أنت تفضح نفسك ويضطرب حالك لكذبة بسيطة أمام زوجتك مثل: رايح بيت أخوي (بينما أنت رايح مزرعة صديقك لسهرة بريئة).. فما بالك عندما يوصلون اعضاء جسمك بأسلاك.. حتى عندما يسألونك وأنت في مثل ذلك الحال عن اسمك وتذكر لهم اسمك الصحيح سيسجل الجهاز انك كاذب لأنك لن تكون مرتاحا لذكر المحقق لاسمك.
جعفر عباس
[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]
Exit mobile version