البشير .. غضب عابر أم إستراتيجية جديدة ؟

[JUSTIFY]كثيرا ما يغضب الرئيس السوداني عمر حسن البشير ويقذف بحمم غضبه في كل الاتجاهات، وفي كل مرة يتمكن الجيش السوداني من تحرير مدينة أو منطقة من قبضة التمرد، يخاطب البشير الشعب السوداني متوعدا التمرد المسلح بالقضاء المبرم.
آخر المدن المحررة كانت مدينة “أبو كرشولا” بولاية جنوب كردفان التي احتلتها الجبهة الثورية وهي مكون يضم حركات متمردة من دارفور والحركة الشعبية (قطاع الشمال) المرتبطة سياسيا وعسكريا بالحركة الشعبية الحاكمة في دولة جنوب السودان، وتقاتل الجبهة الثورية حكومة الخرطوم في أوسع مساحة جغرافية عرفها تاريخ الحروب الأهلية في السودان منذ نشوب أول تمرد عقب إعلان الاستقلال مباشرة في 1956 من الاحتلال البريطاني.

البشير أعلن في احتفال جماهيري بتحرير المدينة أقيم بالخرطوم أنه “لا تفاوض بعد اليوم مع حاملي السلاح”، وألقى البشير خطابا قويا مرتديا الزي العسكري، وحرص على وجود نائبيه ورئيس البرلمان ومساعده نجل الصادق المهدي ورئيس السلطة الإقليمية لدرافور فضلا عن وزير الدفاع وقادة أفرع الجيش السوداني.
قبيل خطابه كان البشير قادما للتو من إثيوبيا بعد مشاركته في القمة الأفريقية ولقائه على هامشها رئيس دولة الجنوب سلفا كير ميارديت.

لم تأت قمة الرئيسين بجديد، وكما يبدو لم يجب سلفا كير على اتهام السودان له بدعمه للجبهة الثورية، وكان قد وعد عند تسلمه لأدلة ووثائق قالت الخرطوم إنها تثبت دعم جوبا للتمرد في السودان، بالتحقيق في الأمر ومعاقبة المتورطين، وتنفي جوبا الاتهام، لكن دبلوماسيين يقولون ان الاتهام يحظى بمصداقية كبيرة.

وقد تحدثت الخرطوم بشكل مكثّف عن جرائم حرب في مدينة “أبو كرشولا” ووصفتها بالفظيعة، إذ شملت بحسبها تصفية 45 مواطنا سودانيا على أساس الانتماء العرقي والسياسي.

ربما كانت تلك معطيات تشير إلى درجة غضب البشير، لقد حاول سلفا كير أن يتحدث عن تعطيل الخرطوم لتصدير البترول الجنوبي ويتجاهل دعمهم للمتمردين.

البشير هدد بإلغاء كل الاتفاقات مع جوبا إذا ما استمرت في دعم المتمردين، لكن مراقبين يرون أن جوبا ألغت الاتفاقات الأمنية بشكل عملي باستئناف دعمها للجبهة الثورية.

وتقول الوقائع على مسرح العمليات إن الجيش السوداني قد رفع عن كاهله حرجا شديدا وقع فيه بعد العملية الجريئة التي أقدمت عليها الجبهة الثورية المتمردة ومكنتها من احتلال مدينة أبو كرشولا لمدة أربعة أسابيع.

في الوقت نفسه تلقت الجبهة ضربة قوية باسترداد الجيش للمدينة التي خططت لأن تكون نقطة انطلاق لاحتلال المزيد من المدن، ولذا تحدثت الجبهة عن أن استرداد الجيش السوداني للمدينة “أحلام زلوط”
طغيان التمرد
تعرض الجيش السوداني لاستفزاز كبير وطعن في شرفه وقدرته على بسط الأمن والاستقرار، القوات المتمردة اتخذت من مدينة أبو كرشولا مقرا لها وأعلنتها “عاصمة محررة” ورفعت عليها علم الجبهة الثورية، بل أعلنت أنها شكلت لجانا مدنية لإدارة شؤون المنطقة، فيما أعدت قوائم لتصفية أشخاص مطلوبين لديها يجري البحث عنهم شملت نائب الدائرة ببرلمان الولاية ومسؤولا آخر بالمؤتمر الوطني الحزب الحاكم.

عملية أبو كرشولا جعلت همس المدينة جهرا، فالهمس كان يلقي باللائمة على وزير الدفاع الرجل المقرب من الرئيس البشير ويشكك الكثيرون في مقدرته على تأهيل الجيش ليخوض تحدي فرض سلطان الدولة على كامل التراب السوداني.

وقد أعاد خطاب البشير الغاضب بعض التوازن النفسي لأفراد الجيش، ولم يكن أمام البشير وهو القائد الأعلى إلا أن يسلك ذلك المسلك وجيشه خارج للتو من معركة استرد فيها مواقع مهمة كاد احتلالها يعصف باستقرار البلاد ويضع مستقبلها في طريق المجهول.

حوالي ستين عاما هو عمر مؤسسة الجيش السوداني وكانت هذه المؤسسة عبر تاريخ السودان محور الاستقرار السياسي والراعي لقومية وتماسك الإطار الجيوسياسي للدولة، وظلت هذه المؤسسة كذلك الدرع الواقي من تقلبات السياسة الدولية وهمزات الأعداء.
لكن القناعة بأن الجيش قضية إستراتيجية لم تترسخ لدى قطاع كبير من قيادة الدولة الحالية رغم أن من أهم أهداف الانقلاب الذي قاده البشير في 1989 رفع كفاءة الجيش والعناية به.

المحصلة أن الإستراتيجية تقوم بخدمة السياسة، والإستراتيجية عموما، هي فكرة تربط بين الوسائل والأهداف. فكلما كبرت الأهداف السياسية، تطلب الأمر اعتماد إستراتيجية أكثر شمولا، ووسائل عديدة.

الجيش السوداني يتمتع بخبرة قتالية وتنظيمية وتدريبية طويلة منذ إنشائه في العام 1925 وشاركت وحدات منه في الحرب العالمية الثانية. كذلك خاض أطول وأعنف حرب أهلية في أفريقيا، وقد كانت حربا أهلية بأبعاد دولية وإقليمية معلومة أدت في نهاية المطاف إلى انفصال جنوب البلاد في يوليو/تموز 2011.

سهام النقد انهالت بكثافة على وزير الدفاع، لأن في عهده -تحديدا في 2009- شهد الجيش أهم تعديلات وتغييرات طالته، حيث صبت كلها في صالح توسيع صلاحيات وزارة الدفاع، لتصبح الوزارة مسؤولة لأول مرة عن التخطيط الإستراتيجي للسياسة الدفاعية للدولة والشؤون المالية والإمداد اللوجستي والإشراف العام على أداء الجيش.

ومن المهم الإشارة إلى أن تلك التغييرات جاءت أيضا في إطار دفع وتحريك لمشاعر الشعب والجيش لمواجهة التدخل الغربي في قضية دارفور وكذلك الأصوات المنادية بدعوة قوات أممية.

الحسم العسكري
كثير من الحكومات والدول تعد الحوار مع المتمردين حاملي السلاح اعترافا ضمنيا بمشروعية حمل السلاح ضد الدولة، بل هو تشجيع ودعوة لمجموعات أخرى بأن حمل السلاح أقصر الطرق لتحقيق الأهداف السياسية.

كما أن الدول المتربصة مجاورة كانت أم بعيدة تجد في التمرد وسيلة سهلة وفاعلة للتدخل في الشؤون الداخلية، فالذين يتمردون على الدولة يسهل استغلالهم وتوظيفهم لصالح الأطماع الأجنبية وتنفيذ إستراتيجيات المحاور الدولية. لكن ما الترياق الناجع للتعامل مع الحركات المتمردة الحاملة للسلاح؟

تركيا الدولة الديمقراطية شبه الأوروبية لديها نهج واضح وصريح في التعامل مع حزب العمال الكردستاني.. النهج قائم على الحسم العسكري واستبعاد خيار الحوار تماما في ظل إصرار الطرف الآخر على حمل السلاح.

هذا النهج لا يخص حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ذي التوجه الإسلامي، بل ينسحب على كل زعماء تركيا من كمال أتاتورك العلماني المتعصب، مرورا بكل الحكومات التي حكمت تركيا وانتهاء بأردوغان، فتركيا لم تلن لها قناة وهي تكافح بشراسة حزب العمال الكردستاني المسلح.

حزب العمال الكردستاني يشبه في توجهاته الجبهة الثورية في السودان بمختلف مكوناتها، فهو حركة مسلحة تبنت النهج الماركسي الثوري تتخذ من جبال المناطق الكردية منطلقا للحرب ضد الدولة التركية، ولا يبدو أن تركيا جلست يوما للحوار مع متمردي حزب العمال الكردتستاني، ولم نسمع كذلك أن دول الغرب تبنت قضيتهم وأحالتها إلى مجلس الأمن أو أدانت قصف تركيا للمتمردين بكل أنواع الأسلحة بما في ذلك الطيران الحربي.

الجيش التركي يتوغل عند اللزوم داخل أراضي العراق وهو يطارد المتمردين، وينظر إلى ذلك باعتباره عملا مشروعا يصب في إطار دفاع تركيا عن أمنها واستقرارها. بالطبع لا يمكن أن نتصور أن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تشجع اليوم التمرد في السودان، تقبل أو ستتساهل مع أي عصيان عسكري يمكن أن يقع في أي بقعة من بقاع البلاد.

خطاب الرئيس البشير الغاضب ربما كان نهجا جديدا أو خطة عمل جديدة للتعامل مع حاملي السلاح، فلا يبدو أنها كلمات حماسية اقتضتها بعض الظروف، بل هي نتاج لتجارب مريرة ظل السودان يتجرعها ولا يأخذ منها العبر، وظل التمرد يتمدد ويتوالد ويستحدث كل فنون الأذى مهددا استقرار الدولة وتماسكها.

ليس بعيدا عن النهج الجديد ما أعلنه رئيس البرلمان السوداني من سعيهم لإجراء تعديلات في قوانين الجيش تفضي إلى تشريعات تقنن دعمه ومساندته.. الحسم العسكري قد لا يتحقق بصورة نهائية وقاطعة، بيد أنه يمكن أن يسجل الجيش السوداني نقاطا كثيرة ويفرض هيبته الأمر الذي يساعد في تقصير أمد الحوار والتفاوض إذا ما ارتضت الأطراف المتنازعة ذلك السبيل.
إذا ما كان البشير مقتنعا بطريق الحسم العسكري، فإن ذلك يقتضي منه إجراء عمليات جراحية واسعة النطاق وسط قيادة الجيش، بما في ذلك وزير الدفاع الذي لم يستجب لدعوة البرلمان الذي استدعاه بعد وقوع مدينتي “أم روابة” و”أبو كرشولا” في قبضة المتمردين.

الإخفاقات التي وقعت في عهده كثيرة وبشكل متشابه وممل، ابتداءً من هجوم حركة العدل والمساواة على العاصمة الوطنية “أم درمان” في مايو/آيار 2008 ومرورا باحتلال جيش جنوب السودان لمدينة هجليج النفطية ذات الأهمية الإستراتيجية في أبريل/نيسان من العام الماضي 2012 وانتهاءً باحتلال مدينتي “أم روابة” و”أبو كرشولا”، فهل سيقيل البشير وزير الدفاع أو حتى يحاسبه بعد انجلاء غبار المعركة فيستجيب لمقتضيات استراتيجية الصمود الجديدة أم أن العلاقة الخاصة التي تجمعه بالرجل ستقف في طريق التغيير الحتمي؟.

دعم الجيش معنويا وماديا أصبح إستراتيجية ضرورية للحفاظ على السودان دولة مهمة في المنطقتين العربية والأفريقية.

لن يفلح الجيش أبدا ما لم يملك زمام المبادرة في القضاء على أي عصيان وهذا يقتضي أن تكون جهازيته ومعنوياته تلامس عنان السماء، فوجود جيش قوي مهاب لن يجعل السودان يستجدي الدول المجاورة بعدم دعم الحركات المسلحة، لأن العاقبة ستكون معلومة، إستراتيجية الصمود في وجه الضغوط لابد أن تشمل بجانب تأهيل الجيش الذي هو أهم مكونات هذه الاستراتيجية، تقوية الجبهة الداخلية وإشاعة السلام الاجتماعي وفيها المخرج والحل الناجع.

الجزيرة نت
ياسر محجوب الحسين

[/JUSTIFY]
Exit mobile version