حديث الأرقام
بعد أن كان سماعها يُصيب المُتلقِّي بالرُّعب، بتنا الآن نسمع الكثير الخطير عن قصص الانتحار؛ خاصة في الأوساط الشبابية حيث تعج صفحات الجريمة بالصحف اليومية بمختلف أنواعها، بالكثير من تلك القصص الغريبة، وللحقيقة فقد دفعني تكرارها للتقصي عن الأسباب التي أدت إلى هذه الزيادة المخيفة في الفترة الأخيرة، فحملت أوراقي وذهبت إلى جُل الجهات التي لها علاقة بهذا الموضوع الخطير.. وأول ما تحصّلتُ عليه تقرير صادر عن مستشفى الأذن والأنف والحنجرة يؤكد إصابة (827) بحالة تسمم بمادة الصيغة وشكلت حالات الإصابة بين الإناث أعلى النسب حيث بلغت إصابتهن (702) حالة.. و(125 ) حالة وسط الذكور.. وبلغ عدد الوفيات ( 7) حالات (4 ) إناث.. و( 3 ) ذكور. وأكد ذات التقرير المُشار إليه أن الفئات العمرية للإناث من عمر (15 إلى 24) عاماً تعد أكثر الفئات تعرضاً لإصابات التسمم والتي بلغت (453) حالة بالصبغة حيث انخفضت إصابة الذكور إلى (51) في ذات الفئة.
قصص من أرض الواقع
منذ طفولتها كانت حزينة بسبب انفصال والديها حيث سافر والدها إلى إحدى دول المهجر ولم يعد يهتم بها ولا يسأل عن أحوالها بينما تزوجت والدتها من رجل آخر كان يعاملها بقسوة فوق احتمال البشر. قررت تركهم والعودة إلى منزل جدتها وكلها أمل في أن تنعم بالراحة والأمان ولكن للأسف تعرضت للكثير من الضغوط النفسية بسبب خالتها المطلقة التي كانت في حالة شجار دائم معها، لذا قررت أن تضع نهاية لقصة حياتها المحزنة بأن ذهبت لمنزل (الحنانة) وقامت بشراء الصبغة لتضع نهاية لحياتها.
القصة الثانية لطالبة جامعية متفوقة جدا، فاجأها شقيقها (المتطرِّف) بأنه يرغب في تزويجها من شخص لا تعرفه وعندما رفضت لم يهتم برأيها بل قام بضربها وتهديدها لتوافق على ذلك العريس، اسودت الدنيا في عينيها بسبب تلاشي أحلامها وطموحاتها العلمية والعملية وفي لحظة انفعال قررت أن نتهي حياتها بتجرع كأس من العصير المخلوط بمادة الصبغة السامة إلا أن العناية الإلهية أنقذتها من الموت المحتوم بعد نقلها إلى المستشفى وعمل فتحة للتنفس بالقصبة الهوائية.
دراسة علمية ميدانية
وفي سياق بحثنا عن مزيد من المعلومات فيما يتعلق بجريمة الانتحار جلسنا إلى الباحثة وداد محمد عبد المجيد والتي أجرت دراسة ميدانية تحليلية عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤدية للانتحار وسط النساء غير المتزوجات حيث هدفت الدراسة إلى الكشف عما إذا كان هناك ارتفاع حقيقي في معدلات جريمة الانتحار وسط النساء غير المتزوجات في السودان والوقوف عليها.
وقالت وداد إنَّ دراستها هدفت كذلك لمعرفة الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للشارعة في الاتنحار والتعرف على الدوافع التي تقف وراء هذه الجريمة ودور الإعلام والشعائر الدينية في توجيه السلوك.. ومن خلال بحثها تأكد لها ارتفاع الحالات في فئة النساء الشارعات في الانتحار مع تزايد حالات الشروع وسط النساء غير المتزوجات في المراحل السنية المتوسطة، وهنا تأتي أهمية الأسرة في حالات الشروع في الانتحار من تفكك أسري وتربية غير مستقرة وغياب الضوابط الأخلاقية إضافة لتواضع تعليم الوالدين وعدم توازن واستقامة شخصية أحدهما أو كلاهما.
ومضت الباحثة وداد عبد المجيد بقولها: هنالك تأثير واضح للعامل الاقتصادي في العينة المبحوثة من وظائف هامشية ومصادر دخل محدودة مع كبر عدد أفراد الأسرة وتزايد الالتزامات المعيشية. وأيضاً تأثير العامل النفسي على سلوك الفرد حيث تتأثر شخصية الفرد هشة التكوين الأخلاقي والديني بأمراض القلق والاكتئاب والعدوانية.
تخلُّص من الحياة
يُعرَّف الانتحار بأنه هو: التصرف المتعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته. كما يُعرَّف أيضا بأنه قتل النفس تخلصاً من الحياة. ويعتبر الانتحار أحد حالات الطوارئ النفسية وهو عبارة عن عمل عدائي موجه ضد النفس ونتيجته المتوقعة هي الموت. أما المحاولة الانتحارية فهي مشابهة للانتحار كسلوك إلا أن الفرق هو عدم وجود توجه نفسي ورغبة أكيدة للموت والنتيجة البقاء على قيد الحياة وهنالك تداخل بين الانتحار والمحاولة الانتحارية فكم من شخص كان مصمما على الموت ولكنه لم يمت وكم من شخص لم يكن يرغب في ذلك ولكنه قضى نحبه.
في الحالات التي تكون نتيجتها الموت فإن التعامل يكون وخاصة في المجتمعات الغربية مع أهل المتوفى، بينما في المجتمعات العربية والإسلامية فالانتحار يعتبر أمرا مرفوضا دينيا واجتماعيا وينظر للمنتحر نظرة اشمئزاز وخجل ولا زال يعتبر الكثير الانتحار وصمة عار. ووفقا للاحصائيات يموت سنويا في العالم مليون شخص بسبب الانتحار وتقدر نسبة المحاولات الانتحارية بحوالى (8 10) ملايين محاولة ينجح منها مليون شخص في الإقدام على الانتحار.
رأي من الدين
ولأنَّ الله تعالى لم يفرِّط في الكتاب من شيء فقد حوى القرآن الكريم نصاً صريحاً يُحرِّم الانتحار، إذ قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) الآية 29 من النساء – ، ويوضِّح ديننا الحنيف بلا لبسٍ أن النفس ملك لله تعالى وحده وليس لأحد أن يقتل نفسه والدليل على ذلك من السنة النبوية ما روي عن أبي هريرة في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ابدا ).
وكما هو معلومٌ فإن خسائر عدة تنجم عن الانتحار منها إحداث خسائر بشرية ومادية بالخصم، فيقوم شخص أو أكثر باستعمال سلاح (متفجرات في معظم الأحيان) وقد يستعمل وسيلة نقل لتسهيل المهمة (كالسيارات المفخخة) لدخول منطقة الخصم وحتى يأتي الوقت والمكان المناسبين، وقد توصف من قبل البعض بأعمال إرهابية.
زاوية قانونية
وفي إطار بحثنا عن كل ماهو متعلق بقضية الانتحار جلسنا إلى الخبير القانوني أحمد السليك ليحدثنا عن الجانب القانوني فقال: (لا يعتبر الانتحار جريمة باعتبار أن القانون لا يعاقب الأموات لأن المتهم في ذلك الوقت يكون قد توفي ولكن الشروع فيه وعدم تحقق الوفاة بعد ذلك يعتبر جريمة واقعة على النفس وقد عرف القانون الشروع بأنه إتيان فعل يدل دلالة ظاهرة على قصد ارتكاب جريمة إذا لم تتم تلك الجريمة بسبب خارج عن إرادة الجاني وقد جاءت جريمة الشروع في الانتحار بالقانون الجنائي السوداني لسنة 1991م في نص المادة 133 وتنص على من يشرع في الانتحار بمحاولة قتل نفسه بأي وسيلة يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سنة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً.
جريمة الشروع في الانتحار تطبق على الأشخاص المكلفين وهم الأشخاص العاقلين وتجاوزوا سن الثامن عشر وهي سن التكليف حسب نص قانون الطفل لسنة 2010 لأن كل من لم يبلغ الثامن عشر يعتبر طفلاً ولا تطبق عليه أي عقوبة جنائية لذلك فإن عقوبة الشروع في الانتحار بالنسبة لغير البالغ تكون عقوبتها الإيداع بدور التربية لتنفيذ التدابير الإصلاحية.
وهنالك أيضاً جريمة متعلقة بالانتحار والشروع فيه وهي المادة 134 من القانون الجنائي لسنة 1991 تحريض الصغير غير البالغ أو المجنون أو السكران أو الشخص الذي يكون في حالة اضطراب نفسي أو عقلي وهي جريمة تعاقب الشخص المحرض سواء كان ذلك الشخص صغيراً غير بالغ أو مكلف والعقوبة تكون السجن لمدة سنة إذا تم الشروع في الانتحار أو تنفيذ عقوبة القتل العمد وذلك في حالة تمام فعل الانتحار.
وهنالك صورة للانتحار وهي صورة الشروع فيه او إتمام فعله وذلك بأن يقوم شخص ما بمساعدة أي شخص على الانتحار وذلك بأن يساعد الشخص الذي يريد الانتحار على الحصول على أي أداة أو عقار أو أي شيء يمكن أن يسبب الموت مع علمه بأن ذلك الشخص يود الانتحار أو يقوم ذلك الشخص بتسبب الفعل المؤدي للانتحار ويشترط لذلك العلم بأن الفعل يؤدي للانتحار وأن الشخص الذي يريد الشروع في الانتحار يكون راضياً بوقوع ذلك الفعل عليه لتحقق المساعدة وذلك الرضا.
هذه الأسباب تقود للانتحار
وتقول الأستاذة إنصاف محمد فصل الله اختصاصية علم النفس : ( تُعد الأمراض النفسية من الأسباب الرئيسة التي تؤدي بصاحبها إلى الانتحار الاكتئاب والفصام، إدمان المخدرات، الاضطرابات الشخصية الحادة والاكتئاب ثنائي القطب. كما هو معروف في علم النفس الإحباط يولد العدوان ولكن في الانتحار العدوان يكون مرتدا على الذات وقد يكون حالة من الانتقام اللاواعي، وقد يلجأ الشخص إلى الانتحار كانتقام من الآخرين وخصوصاً من هم حوله ليزيدهم حسرة وألما ويشعرهم بالذنب ولكي يعيشحيفى السودانيوا الحسرة المستمرة، ويلجأ لهذا الأسلوب الشخصيات الطفلية غير الناضجة عاطفياً ولديها درجة من النرجسية والاعتماد، وتكون الأسباب في الحرمان العاطفي الذي عاشته هذه الحالة وخصوصاً الذين فقدوا أمهاتهم من الطفولة، ولأن هذه الشخصيات اعتمادية تواجه صعوبة في النجاح في مناحي الحياة المختلفة الدراسية والعملية وتتراكم الإخفاقات تلو الإخفاقات وتتراكم خبرات الفشل مما يسبب انعدام تقدير الذات وتدعيم السلوك الايجابي أو السلبي للشخصية المريضة.
تحقيق: عفاف عبدالفتاح
صحيفة السوداني