النُّباح عادَة أزليَّة من عاداتِ الكلاب، لم ينجح مَخلوق أو فَتْح عِلْمي بِعيْنِه في تغييرها، غير أنَّ حسَّان بن ثابِت يزعُم أنَّ آل شَماس قد فعلوا، إذ يقول واصفاً إياهم بألذّ حُجَّة وأذكى ُمبرِّرْ سِيِقَ بغرضِ المَدْح في الشِّعر العَربي ..
يُغْشَونَ حتَّى ما تّهــِرُّ كِلابُهُم لا يَسألونَ عَن السَّوادِ المُقْبـِل ..!
إذاً فكرَم هؤلاء القوم ــــ لعَظَمتِه و نُدْرَتِه ــــ قد جَعلَ كلابهم تُعيد النَّظر في أمرِ النُّباح باعتباره نِشاطاً مُرهِقاً تُجانبُـه أبجديَّات الحكمَة والمنطق، لأنها إن تمسَّكت بحقِّها في إظهار السَّائـِد والمُتنحِّي من صفاتها الوراثيّـَة ستظل في حالة نُباح دائم إلى ما شاء الله! .. فضيوف آل شماس لا تُوقفُهم شمسٌ حارقةٌ ولا تُثنيهم عتْمةُ ليل، مما أقنعَها بأن تُفضِّل السُّكوت على النُّباح في معيَّـة هؤلاء الأغراب الذين لا يكفُّون عن التَدَفُّق والتَجدُّد كمياه النهر ! .. بل أنَّها قد ذهبتْ إلى أبعد من ذلك وآثرتْ أن تزهَد حتَّى في الهَرْ الذي هو أضعف إيمانِها – كونه أقل بدرجات من النُّباح وأعلى بدرجة من الصَّمت – ..!
إلى جانب ذلك فهم أيضا ـــــ أي آل شماس ـــــ لا يتَجشَّمون عَناء السؤال عن ماهيَّة أو هويَّة ذلك السَّواد باعتباره سيكون في الغالب عدد آخر من الضيوف الذين يَلُوحُون من على البعد على هيئة سواد متحرك يُعانق امتداد الأفق لكَثرتِهِم .. لماذا لا يسألون ؟! .. لأن عندهم من المأكل والمشرب والمُتَّكأ ما يكفي تلك الجَحَافل و أضعافها ويزيد، فهم أسياد قوم وأثرياء بالضرورة ..!
أما ذلك السَّواد ـــــ أو تلك الجحافل ـــــ فهي تتوجه صوب ديار آل شماس بحماس وثقة لأن هذه الضيافة وتلكم الحفاوة هي أمر مألوف ومحسوم لا يتطلَّب استئذاناً أو تنسيقاً مسبقاً، يكفي أن يلوح سوادُهم في الأفق حتى يصبح هؤلاء القوم على أهبة الاستعداد بكافة الخدمات وبمُنتَهى الحفاوة .. لأجل هذا كان ذلك العَشَمْ الكبير والمتجدِّد في رحب وسعة كرم بني شماس له ما يبرِّرُه ويُمَنطـِقُ قُوَّتَــه ..!
وعلى الرَّغم من أنَّ قَفَزاتٍ حضاريَّةٍ كثيرةٍ قد تتابعت و أعقبت تلك الأزمان وغيرت ما غيرت وأبقت على ما أبقت من تلك الأعراف المثالية، إلا أن حكاية الضيف والمضيف قد ظلَّت تاريخية وممتدة عبر الزمن، لكن آلية التعاطي معها هي مُبرِّر هذا الحديث ..!
ذلك أن الكثير من أعرافنا المُلزمة و تقاليدنا العَريقة قد خَفَتَ بريقُها، وتراجعت سَطوتُها أمام التزامات الحياة العصريَّة المعقَّدة، واللُّهاث المحموم وراء لقمة العيش الذي يلازمه إحباط من قلَّة الدخل وقلَّة الحيلة .. عادات كثيرة تغيرت فأصبح المرء لا يحسن إلا إلى من يعرف، وأصبح الإحسان إلى من لا تعرف صفة مرتبطة بشيخ أو مسيد أو ولي من أولياء الله الصالحين .. بطبيعة الحال هنالك بعض من يفعل (الخير في أمتي إلى يوم القيامة)، لكن هؤلاء يوصفون بأنهم أهل الخير والإحسان ويشار إليهم على أنهم صفوة ..!
فاليوم لا سواد مُقبِل أو مُدبِر إلا في المناسبات ذات الزوايا الحادَّة ــــــ أي الأفراح الكبيرة أو الأحزان العظيمة ـــــ وكل من تُسَوِّلْ له نفسُه أن يفعل غير ذلك بلا تنسيق مُسبق متكئاً على العَشَمْ في حفاوة مُفتَرضَةٍ فهو من كَوكبٍ آخَر، أو من زِمنٍ آخَر ..!
صحيفة الرأي العام
منى ابوزيد