من أنت ؟‏

من أنت ؟‏‏
اسمحوا لي أن أفرض عليكم شيئا أحبه حتى الثمالة ، ولا أخفي عليكم أنني أجد فيه تفسير معنى الوجود وكل موجود ،ما أتحدث عنه هو كتابات المفكر الراحل الدكتور مصطفى محمود ،، وأقول أنه على كل شاب وشابة قراءة مؤلفاته والتأمل فيها بعين الباحث عن الحقيقة ، وأدعو كل من بلغ من العمر مبلغا ناضجا أن يقرأها ليؤكد على نفسه صحة ما وصل إليه إدراكه خلال عمره الذي مضى ،أو ينفي عن نفسه أنه تعلم شيئا صحيحا خلال حياته الماضية بأسرها ، نعم لقد استطاع هذا العالم أن يصل إلى الحقائق الكامنة والظاهرة ،فهو لم يترك لأحد من بعده فرصة أن يصل لأكثر مما وصل إليه هو ،وعبَّر عنه بكل دقة وسلاسة وحب من خلال مؤلفاته التي سأتناول منها بالسرد والتحليل كتاب،( القران كائن حي ) في حلقات تتحدث عن مواضيع شتى تخصك ككائن موجود ويبحث عن حقيقة الوجود ،،،
(من أنت ؟ ) من أنت حينما تتردد لحظة بين الخير والشر ، من تكون ؟ ! أتكون الإنسان الخير أم الشرير أم ما بينهما ؟ أم تكون مجرد إحتمال للفعل الذي لم يحدث بعد ؟! إن النفس لا تظهر منزلتها ولا تبدو حقيقتها إلا لحظة أن تستقر على إختيار ،وتمضي فيه بإقتناع وعمد وإصرار ،وتتمادى فيه وتخلد إليه وتستريح وتجد ذاتها ،، ولهذا لا تؤخذ على الإنسان أفعال الطفولة ،أو أفعال المراهقة ولا ما يفعله الإنسان عن مرض أو عن جنون أو عن إكراه ،، وإنما تبدأ النفس تكون محل محاسبة منذ رشدها ،لأن بلوغ الرشد يبدأ معه ظهور المرتكزات والمحاور التي ستنمو عليها الشخصية الثابتة، وإختيارات الإنسان في خواتيم حياته هي أكثر ما يدل عليه ،لأنه مع بلوغ الإنسان مرحلة الخواتيم يكون قد تم ترشح وتبلور جميع عناصر شخصيته ،وتكون قد انتهت ذبذبتها إلى استقرار وتكون بوصلة الإرادة قد أشارت إلى الطابع السائد لهذه الشخصية ،، ولهذا يقول الصوفيون : “العبرة بالخواتيم ،وما يموت عليه العبد من أحوال ،وأعمال وما يشغله في أيامه الأخيرة هو ما سوف يبعث عليه” ، تماما كما ينام النائم فيحلم بما استقر في باله من شواغل لحظة أن رقد لينام ، ولهذا أيضا لا تؤخذ النفس بما فعلته وندمت عليه ورجعت عنه ،ولا تؤخذ بما تورطت فيه ثم أنكرته واستنكرته ،فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته وجوهريته ويدرجه مع العوارض العارضة التي لا ثبات لها .
وقد أعطى الله الإنسان مساحة كبيرة هائلة من المنازل والمراتب ،يختار منها علوا وسفلا ما يشاء ،، أعطاه معراجا عجيبا يتحرك فيه صاعدا هابطا بلا حدود ،، ففي الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف وترق الطبائع ،وتصفو المشارب والأخلاق حتى تضاهي الأخلاق الإلاهية في طرفها الأعلى ـ وذلك هو الجانب الروحي من تكوينه – وفي الطرف الآخر الهابط تكثف وتغلظ الرغبات والشهوات ،وتتدنى الغرائز حتى تضاهي الحيوان في بهيميته ،ثم الجماد – في جموده وآليته وقصوره الذاتي – ثم الشيطان في ظلمته وسلبيته ، وذلك هو الجانب الجسدي الطيني من التكوين الإنساني ،،وبين معراج الروح صعودا ومنازل الجسد والطين هبوطا ،تتذبذب النفس منذ ولادتها ،فتتسامى هنا وتتردى هناك بين أفعال السمو وأفعال الإنحطاط ،ثم تستقر على شاكلتها وحقيقتها [ قُلْ كُلٌ يَعْمَل عَلى شَاكِلتِه] الإسراء ٨٤ ، ومتى يبلغ الإنسان هذه المشاكلة والمضاهاة بين حقيقته وفعله فإنه يستقر ويتمادى ، ويمضي في اقتناع وإصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله ، ومعنى هذا أن النفس الإنسانية أو ( الأنا ) هي شيءغير الجسد وهي ليست شيئا معلوما بل هي سر وحقيقة مكنونة لا يجلوها إلا الإبتلاء ،والإختبار بالمغريات وما الجسد والروح إلا الكون الفسيح الذي تتحرك فيه تلك النفس علوا وهبوطا بحثا عن المنزلة التي تشاكلها وتضاهيها والبرج الذي يناسب سكناها فتسكنه، فمنا من يسكن برج النار ( الشهوات) وهو مازال في الدنيا ،فلا يبرح هذا البرج حتى الممات ،فتلك هي النفس التي تشكل النار في سرها وهي التي سبق عليها القول والعلم بأنها من أهل النار وذلك علم سابق للنفوس لا يتاح إلا لله وحده ، وهذا العلم الرباني ليس علم إلزام ولا علم قهر ،بل هو علم حصر وإحاطة ،فالله بهذا العلم لا يجبر نفسا على شر ،لا ينهى نفسا عن خير .والسر الآخر الذي ينكشف لنا أن البيئة لا يمكن أن تصنع من إنسان صالح – نفسه صالحة بالحقيقة – وإنسانا مجرما ، إن المجتمع والعصر والظروف تصنع للجريمة شكلها ولكنها لا تنشيء مجرما من عدم ،ولا تصنع إنسانا صالحا من نفس لا صلاح فيها ،، ونجد في سورة الكهف حكاية عن غلام مجرم وكافر ،أبواه مؤمنان [ وأَمَّا الغُلامُ فَكاَنَ أبَواهُ مُؤمِنَيْنِ فَخَشِينَا أنْ يُرْهِقَهُماَ طُغْياناً وكُفْرًا] الكهف ٨٠ ،، وأكثر الأنبياء كانوا من آباء كفرة ،واستجابت أكثر الأقوام لهؤلاء الأنبياء ولم يستجب الآباء ،، من الذي يستطيع أن يقلب حقائق الأنفس ويغيرها سوى الله ؟ لا أحد ! والله لا يفعل ذلك إلا إذا طلبت النفس ذاتها أن تتغير وابتهلت من أجل ذلك ،ولا سبيل إلى تطهير النفس وتزكيتها إلا بإتقان العبادة والتزام الطاعات وإطالة السجود وفعل الصالحات ، وبحكم رتبة العبودية يصبح الإنسان مستحقا للمدد من ربه فيمده الله بنوره ويهيء له أسباب الخروج من ظلمته .. ذلك هو سلوك الطريق عند الصوفية بالتخلية – تخلية النفس من الصفات المذمومة – ثم التحلية – تحلية القلب بالذكر والفضائل – والتعلق والتخلق والتحقق ، والتعلق عندهم هو التعلق بالله وترك التعلق بما سواه ، والتخلق هو محاولة التحلي بأسماء الله الحسنى ، الرحيم الكريم الودود الرؤوف الحليم الصبور الشكور … قولا وفعلا ،، والتحقق هو أن تصل إلى أقصى درجات الصفاء واللطف والمشاكلة ،فتصبح ربانيا في طباعك أو تكاد ولا سبيل إلى صعود هذا المعراج إلا بالعبادة والطاعة والعمل الصالح ،والتزام المنهج القرآني والسلوك على قدم محمد العبد الكامل ،والعارف الكامل عليه صلوات الله وسلامه ،، وأقول نفس بهذه الإمكانيات هي ( السر الأعظم) ذاته الذي لا يعلمه إلا الله وحده ،، والحمد لله .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]

Exit mobile version