غير أنني أرجو أن أبتدر النقاش هنا بشئ من الإيجاز حول تاريخية أمدرمان المزعومة وريادتها وتنصيبها فوق المدائن وما في ذلك من غمط لحقوق الآخرين ومن افتئات كافتئات العنابسة علي شخصيات لها وزنها وكسبها في مجمل الحراك الإنساني السوداني الشئ الذي يجعل الحكم بالريادة المزعومة بعيداً عن الموضوعية محمولاً علي أجنحة العاطفة.. وهو من بعد ذلك إجتراء سافر علي شخصيات عظيمة وفدتْ أم درمان في مراحل عمرية متقدمة بمعارف لا تخطئها العين علي النحو الذي سيرد ذكره في ثنايا المقال ويصمها الامدرمانيون المتعصبون علي رؤوس الأشهاد وفي رواياتهم المكرورة بأنها لم تكن تشع بذاتها بل بالتأثير الأمدرماني وأرجو أن نقيس هذا الإفتئات علي الإمام المهدي نفسه الذي استولدت فكرته المهدية مدينة أمدرمان والإمام المهدي وافد في حقيقة الأمر، بئس الإجتراء علي شخصيات من أمثال ود الفكي رائد أغنية الحقيبة الذي جاءها من كبوشية وأهل امدرمان لا يعرفون من الغناء إلا كركرات الحلق، والشيخ بابكر بدري الذي كان من رواد التعليم في رفاعة وارتحل بمبادراته التعليمية فيما بعد لأم درمان تلبيةً لدعوة أهل أمدرمان لتعليمهم وهنالك عبيد عبد النور من رفاعة أول من قال هنا أمدرمان ومؤسس مدارس بيت الأمانة وشاعر يا أم ضفاير قودي الرسن وحتي القابلة القانوية بتول محمد عيسي التي جاءت بخبراتها ومعارفها الفنية من رفاعة لتنقذ نساء أمدرمان من (ولادة الحبل) وغيرهم ممن يصفهم الأمدرمانيون بأنهم لم يأتوا بنهضة من أقاليمهم لأنّ فاقد الشئ لا يعطيه أو كما قال بعضهم عفا الله عنهم وغير ذلك من الكذب البواح أو ربما الجهل المزمن.
لكنني أرجو أن أبتدر لفائدة النقاش وبنائه الموضوعي أن أتحدث أولاً عن حكاية المائة عام وهي بالكاد كل تاريخ أمدرمان التي لا يعرف الأمدرمانيون أصل إسمها الموسوم بأم عبد الرحمن ولا أدري ماذا كانت تفعل أم عبد الرحمن هنا وقتذاك؟! ولا أين ذهب عبد الرحمن فيما بعد؟!.
وأم درمان تلك المدينة التي يقول عنها الشاعر سيف الدسوقي في قصيدته زمن الافراح الوردية أنه أحبها مُذْ كان غراماً في عيْنيْ أمه وأبيه..هذا الحب الخرافي أو التفخيم الجزافي دعنا نقول- يظهر بوضوح مشوب بالعاطفية وليس العقلانية كما في أشعار الأمدرمانيين وأقوالهم عبر دلائل عديدة حتي أنّ بعض أبناء أم درمان يتعصبون وينادون (بالأمدرمانويَّة) علي وزن (السودانوية) عند الراحل أحمد الطيب زين العابدين.ولكن رغم هذا تبقي أم درمان مدينة بلا تاريخ.
ووصف مدينة_أيَّة مدينة_ بأنها بلا تاريخ لا يُلغي حب أبنائها الجارف علي الأقل من باب (وللأوطان في دم كل حر..) كما أنّ الحب الجارف وحده لا يكفي لتنصيب المدينة زعيمة علي المدائن وجعلها حالة خاصة وفي وقت سابق قال الدكتور عبد الله حمدنا الله إنّ أم درمان مدينة مصنوعة وقد أوردت طيبة الذكر مجلة (الملتقي) التي كانت قمةً في الألق علي أيام المرحوم عبد المنعم قطبي أوردت المجلة وقائع الندوة التي جاء فيها حديثه حيث قال:(إنها مدينة مصنوعة_يعني أمدرمان_ لم تكن قبل المهدية شيئاً مذكوراً ولو إطلعنا علي كتاب طبقات ود ضيف الله لَمَا عثرنا لأمدرمان علي أثر إلا في موضعين هامشيين جداً فلا تكاد تبين فأية قرية صغيرة أكثر وجوداً وذكراً في الطبقات من أمدرمان، ولو تُركتْ أمدرمان للنمو الطبيعي لما وصلتْ لما هي عليه الآن) ويُضيف الدكتور:(الثورة المهدية هي التي صنعتْ أمدرمان ).إنتهي حديث مجلة الملتقي العدد 80-15يونيو1993
ولنمسك بتلابيب هذه العبارة الاخيرة .. إنّ أمدرمان لم تكن قبل المهدية شيئاً مذكوراً ،والثورة المهدية نفسها ليستْ قديمة تاريخياً ،فأمدرمان ظهرتْ علي السطح في ثمانينات القرن التاسع عشر أي أنّ عمرها لا يكاد يتجاوز المائة عام وهي مدة بكل المقاييس قليلة لا تكفي لتبلور ثقافة بعينها يمكن إعتبارها رائدة مطلقاً وفوق هذا وذاك فأمدرمان ليست فيها آثار تحدِّث عن تاريخها ، وأنَّي لها وقد (صُنِعَتْ) قبل مائة عام .. ساعات الروليكس أكثر عراقةً منها!!.
إنّ سنار القديمة (سنار التقاطع) آثارها تحكي تاريخاً وحضارة وفي الشمال كرمة والبركل وغيرها من المناطق التي يتراءي لك عبر آثارها تاريخها وحضارتها المؤثَّلة.
إنّ كل آثار أمدرمان التاريخية مرتبطة بالثورة المهدية وهي آثار كما قلنا لا تعكس تاريخاً تليداً ..إنّ أقدم آثار أمدرمان لا تتعدي تاريخ إنشاء (الطابية المقابلة النيل)..
إنّ المُدن ذات الثقافات (القائدة) تُقاس بتاريخها ، والتاريخ هذا لا يتحدد إلا عبر الآثار التاريخية المشاهَدَة . ففي دمشق مثلاً هنالك الجامع الأموي صرحٌ يدلل علي تاريخ هذه المدينة وأقدميتها ويُدلِّلُ علي ثقافتها القديمة دعك من زنوبيا ومملكة تدمُر. وفي الأهرامات وحتي الجامع الأزهر كلها تعكس تاريخاً وحضارة تليدة لا تخطئها العين.
إذن الآثار مؤشر علي التاريخ والحضارة والأصالة والثقافة وقبل فترة نشرت مجلة العربي الكويتية تحقيقاً مصوراً عن القاهرة أبرزتْ فيها مدينة الألف مئذنة بعضاً من آثارها بكل التاريخ ذي الجذور العميقة بدرجة تبعث علي الدهشة المتجددة بتلك الموروثات الثرة التي تنمُّ عن أصالة حقيقية .. أصالة ضاربة في أعماق التاريخ .. أصالة فيها ما فيها من ثقافة مؤطرة المعالم يعرفها كل العالم.
وماذا عن أمدرمان ؟ تلك العاصمة الأنثي كما يقول أستاذنا الدسوقي؟ أين آثارها؟ إنّ الآثار في البجراوية تعكس تاريخنا العريق أكثر مما تفعل أمدرمان، فإذا قُدِّم إستطلاع صحفي عن أمدرمان المدينة (التاريخية) كالذي كان للقاهرة فسوف لن نجد في أمدرمان (أقدم) من الطابية وبيت الخليفة وبوابة عبد القيوم ؟؟!!! ماذا أقدم من هذا؟؟!! ساعة البلدية؟؟!! أم مسجد النيلين؟؟!!
ليس لدينا في أمدرمان هرم بناه (بعانخي) ولا (شبكا) ولا (شبتاكا) ولا مسجد شيده عبد الله إبن أبي السرح.. وليس لدينا في أمدرمان (المحروسة) ساعة مثل ساعة (بق بن) في العراقة ولا معلم بارز مثل برج بيزا المائل .. إنّ الآثار والمعالم تحكي وتوثِّق للحضارات والثقافات.
ولا يُقلل هذا من أمدرمان ودورها في الحركة الوطنية وإسهامها في جميع المجالات بمشاركة وربما ريادة جهود القادمين من خارجها _كما سنري_ لكننا إذا ما قارنا أمدرمان _وهنا مربط الفرس_ بالمدن التاريخية المؤهلة حضارياً للقيادة ووضعنا معاييرنا القائمة علي الآثار القديمة فلا أظنّ إطلاقاً أنّ أمدرمان ستحظي بموطئ قدم ، حيث لا يمكن إنكار أنّ أمدرمان أقدم آثارها تمثِّل عصر الثورة المهدية التي انطلقت قبل مائة عام ونيف فقط ليس أكثر وفي تلك الأيام أيام الثورة المهدية التي أسست لأمدرمان كانت أوروبا قد تجاوزت بأزمان سحيقة عصر النهضة وكانت أمريكا_الولايات المتحدة_ يسري فيها نظامها السياسي المعروف الآن..وكانت الجامعات في أوروبا تمنح الدرجات العلمية علي هذا النحو الذي نراه الآن، وكان المصريون (في مصر القريبة دي) قد عرفوا طريقهم للحضارة والمدنية وأنظمة الحكم بينما كنا هنا أيامذاك يُراسل الخليفة عبد الله ملكة إنجلترا فكتوريا ويأمرها بالدخول للإسلام وأنه سيكافئها علي ذلك بتزويجها من الأمير يونس ود الدكيم الذي كان رافضاً لهذا العرض وزواجه من النصرانية وذات تلك الأيام شهدتْ الحرب بسيوف (العُشر) وبعض هذا وغير هذا من المسكوت عنه.
كيف كُنَّا؟؟ وكيف كانوا؟!! وعن هذا نرجو أيضاً أن نكتب يوماً عن حال أمدرمان والسودان عموماً إبان الثورة المهدية وحتي ما قبلها وما كان عليه العالم الخارجي . فعندما كان الانصار يقاتلون بسيوف (العُشر) كان العالم الخارجي قد عرف البارود، وحينما كان الخليفة عبد الله التعايشي يقذف بأولاد البحر في السجون ويأمر (بتطهير) سلاطين أو شواطين كان العالم الخارجي قد عرف التنظيم السياسي وأنظمة الحكم ، وحينما كان الخليفة أيضاً يمنح ولده يعقوب لقب (جُراب الراي) كان العالم الخارجي بما في ذلك مصر قد قطعتْ أشواط بعيدة في النماء والمدنية .. وبعض هذا من ذاك فالتطور وليد شرعي للحضارة الراسخة .. وهذا من المسكوت عنه الذي يحتاج لبحوث المختصين في السوسيولوجيا من باب نقد الذات أو قُلْ جَلْدْ الذات.
وعودٌ علي بدء فسوف لن تجد امدرمان الطريق سالكةً أمامها للمنافسة إذا طُرحت مسابقة للمدن التاريخية هذا بغض النظر عن معايير الأناقة الجمال ولا أُريد هنا أن أقول مثلما قال الدكتور محمد الواثق في قصيدته أمدرمان تحتضر:
ولا أُحبُّ بلاداً لا ظِلالَ لها ..
يُظلُّها النيمُ والهجليجُ والعُشَرُ..
إذْ إنّ موضوعنا يقتصر علي التاريخية فقط .
نواصل..
[email]khaldania@yahoo.com[/email]