الطيب مصطفى : أخي علي عثمان.. الآن حصحص الحق!!

[JUSTIFY]إذا كنا قد ركّزنا في المقالين السابقين على حديث الأستاذ علي عثمان محمد طه حول مشروع السودان الجديد والذي أدهشنا كونه يصدر لأول مرة عن الرجل الذي لم يسبق له أن نبس ببنت شفة عن هذا المشروع الإستراتيجي الخطير بالرغم من أنه يمثل الهدف الأساسي والركيزة الكبرى والعمود الفقري الذي ما نشأت الحركة الشعبية إلا من أجل إقامته في السودان سواء قبل الانفصال أو بعده فلأننا كنا نعلم نحن في منبر السلام العادل دون غيرنا من الأحزاب والقوى السياسية ما ينطوي عليه هذا المشروع فقد كنا ندندن حوله قبل أن تُوقَّع نيفاشا وقبل صدور «الإنتباهة» وكنا نتحدث عن شجر نراه بعيون زرقاء اليمامة يسير نحونا ونحن في غمرة ساهون لاهون عابثون نوقِّع مع أفعى سامة صكوك مصرعنا ولا نرى فيها جراء غفلتنا إلا أرنباً مسالماً جنح للسلم ووضع سلاحه إلى الأبد بينما الحقيقة غير ذلك تماماً، فقد كانت الحركة تتأبط شراً وتفكر في تحقيق هدفها الإستراتيجي بعد أن وضعت أهم لبِنات صرحه في تلك الاتفاقية المشؤومة التي كانت محطة ووسيلة تكتيكية في طريق بنائه وإقامته.

كانت الحكومة ولا تزال حتى وقت قريب (تتزاوغ) عن الإفصاح عن طبيعة الصراع بينها وبين الحركة وجيشها الشعبي الأمر الذي جعلها تفقد البوصلة وتوجِّه بصرها نحو أهداف متوهَّمة جعلها تطيش عن إصابة الهدف الحقيقي مما جعلها تخبط خبط العشواء وهي تفاوض غريمها على غرار دون كيشوت وهو يطارد طواحين الهواء.
أكثر ما يحيرني ــ والله العظيم ــ أن الأوراق التي كنا نكتب منها ونستشهد بها في طرحنا للقضية التي سخَّرنا لها كل جهدنا.. أكثر ما يحيرني أن هذه الأوراق والأدبيات والخطط والمحاضرات التي كان يقدمها قرنق وأولاده كانت متاحة ومعلومة للحكومة ولمفاوضيها ولكل الدنيا وكان قرنق يكتب ويتحدث عما يعتزم فعله ويطرح مشروعه بدون أدنى تمويه ولكن حالة من الجنون والهزيمة النفسية انتابتنا وتلبّستنا كما تلبَّست أولئك الذي كانوا يعلقون أبصارهم ويحدقون في ملكهم العريان ولا يرَون فيه إلا متسربلاً بناصع الثياب وزاهي الألوان بينما هو في الحقيقة عارٍ كما ولدته أمه!!

صحيح أنَّ د. نافع تحدَّث عن مشروع السودان الجديد مراراً وتكراراً خلال السنة الأخيرة أو قل السنتين الأخيرتين كما أنَّ د. كمال عبيد ظل يتحدث عنه منذ أن كُلِّف بملف التفاوض لفترة وجيزة قبل أن يُزاح لأنَّ التفاوض في معسكرنا لا يحتمل الصقور الذين لا يُجيد اختيارهم إلا الحركة الشعبية وهي تضع الصقر الكاسر والحاقد الأكبر باقان أموم على رأس مفاوضيها وإنما يحتمل الذين ظلوا يمسكون بخطام التفاوض منذ الأزل وإلى يوم يبعثون تتزحزح الجبال الرواسي ولا يتزحزحون فحواء السودان عقمت عن أن تنجب أمثالهم بالرغم من أنهم لم ترد كلمة (السودان الجديد) في خواطرهم ناهيك عن أن ترد على ألسنتهم فواحرَّ قلباه على وطن بلا وجيع يفاوض عنه وينافح عصافير الخريف على حد وصف الفريق مهدي بابو نمر!!.

إدراك الحكومة لحقيقة أنَّ الحركة الشعبية تعمل على إقامة مشروع السودان الجديد يعني أنَّ الحكومة ينبغي أن تتعامل مع ملف الجنوب تعاملاً إستراتيجياً وليس تكتيكياً بمعنى أن على الحكومة أن تعلم أنَّ الحركة لا تقاتل أو تفاوض إلا من أجل تحقيق ذلك الهدف الإستراتيجي وأنَّ نيفاشا محطة مرحليَّة وكذلك الحكومة الانتقالية التي أعقبتها وكذلك الانفصال إذا لم تُفضِ الوحدة إلى إقامة ذلك المشروع وكذلك عدم انسحاب الجيش الشعبي من جنوب كردفان والنيل الأزرق ليفعل ما يفعله الآن بينما نقوم نحن بسحب قواتنا بالمخالفة للاتفاقية التي كانت تقضي بأن يكون الانسحاب متزامناً وكذلك اتفاقية الحريات الأربع وكل ما يُبرم مع الجنوب من اتفاقيات.. إنها مسيرة لم تُخفِ الحركة حقيقتها منذ أن سمَّت نفسها الحركة الشعبية لتحرير السودان ومن عجبٍ أن الاسم (تحرير السودان) لم يُغيَّر حتى بعد أن انفصل الجنوب فأي سودان يحررون بعد أن انفصلوا بدولتهم ولماذا تخلَّوا عن أسمائهم القديمة أيام انفصاليي أنيانيا (1) وأنيانيا (2) (دولة الأماتونج مثلاً) أيام (أقري جادين وجوزيف أدوهو) وأصروا على اسم جنوب السودان الذي يريدون أن يستبْقوه اسماً يلحق به السودان من جديد عندما يتم تحقيق مشروعهم الإستراتيجي لتحرير وبالأحرى احتلال السودان بالتعاون مع العنصريين في دارفور ممن اعتنقوا مبدأ وعقيدة وإستراتيجية (السودان الجديد)؟!

أعجب مافي الأمر أن (قطاع الشمال) بدون أدنى حياء لم يُخفِ أنه جزء من دولة الجنوب من خلال اسمه الذي استبقاه (قطاعاً) أو قل فرعاً تابعاً للأصل فبالله عليكم ماذا نقول عن هذا الشيوعي الوضيع الرويبضة عرمان وعن الحلو وغيرهما من العملاء؟!
لا أريد أن أتحدَّث عن كل ما قاله قرنق وأولاده باقان وعرمان عن أن مشروعهم مستمر بعد توقيع نيفاشا وما كانوا يعتزمون فعله وما فعلوه بالفعل خلال الفترة الانتقالية التي كانوا يشاركون فيها الحكومة الحكم ويقودون المعارضة من داخل البرلمان ومن الشارع من خلال التحالف مع المعارضة فذلك كله كان جزءاً من مخطط إقامة مشروع السودان الجديد خلال الفترة الانتقالية وهو أمرٌ مكتوب بسيناريوهاته المختلفة المفصلة تفصيلاً وبالرغم من ذلك كانت الحكومة تظن يوم وقَّعت نيفاشا بل وحتى اليوم أنَّ الحركة يمكن أن تجنح للسلم، لكنها اليوم اقتنعت وأرجو أن تكون قناعة نهائية لا تتغير أو تتبدل أنه ما من شيء يزحزح الحركة عن خطها الإستراتيجي الذي أعلن عنه باقان عشية قرار الجنوبيين المساند للانفصال حين قال لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية: (إن مشروع السودان الجديد ليس مرهوناً بالوحدة وإننا سنعمل على إقامته بعد الانفصال).

أتحدث الآن عن كيف أضاعت الحكومة وقتها وخُدعت وخدعت بذلك الشعب السوداني وكيف طاشت رميتها وأذَّنت في مالطا وكيف كانت دبلوماسيتها بعيدة كل البُعد عن توضيح الحقيقة لمن يمكن أن يتعاطفوا معها خاصة في محيطها العربي والإسلامي الذي غاب عنه أنَّ مشروع الحركة يستهدف هُوية السودان تماماً كما هو الحال بالنسبة للقضية الفلسطينية.
في المقابل كان قرنق يخاطب محيطه الإفريقي بهُوية إفريقية للسودان حيث كان الرجل يقول في زياراته للدول الإفريقية (إن العرب مكثوا في الأندلس أكثر مما مكثوا في السودان وكما أُخرجوا من الأندلس سيخرجون من السودان) و(أن العرب في السودان لا يختلفون عن البيض في جنوب إفريقيا) وبذلك لطالما ألَّب الأفارقة ضد السودان الشمالي فقد كان يُستقبل في إفريقيا السوداء استقبال الرؤساء ولذلك لا غرو أن يرفض المبادرة المصرية الليبية ويُبطل ويُلغي بضغط منه اتفاقية الدفاع المشترك ويلوذ بدول الإيقاد الإفريقية التي أنتجت نيفاشا بعد أن صُنعت في المطبخ الأمريكي.

لم يكن دبلوماسيونا يعلمون شيئاً عن صراع الهُوية الذي يجتاح النزاع في جنوب السودان ولذلك كانوا (يعرضون بره الدارة) ولذلك لم يحفل العرب كثيراً بقضية السودان كما اهتموا ببقية القضايا الكبرى المتعلقة بالهوية كقضية فلسطين التي اتخذها العرب قضيَّة مركزيَّة.

كنت أتحسَّر عندما يجلس وزراء خارجيتنا مع نظرائهم العرب وأتساءل ماذا تراهم يقولون لهم؟! أشهد الله إنني عندما جلستُ قبل أشهر مع رئيس مركز الدراسات بصحيفة أخبار اليوم القاهرية وحدَّثتُه عن مشروع السودان الجديد دهش الرجل وطلب عقد ندوة حول الأمر بعد أن تفاعل تفاعلاً كبيراً.

لقد أضعنا فرصاً كبيرة حيث كنا في غفلة كبرى عن عرض قضيتنا حال من يعاني من السرطان ويشكو للطبيب من صداع يقضّ مضجعه… ذلك كان حالنا فقد تنكبنا الطريق وفشلنا في وضع إستراتيجية للتعامل مع الجنوب قائمة على حقيقة الصراع كمن يضع خطة لزراعة القمح تقوم حيثياتها جميعاً على أن المزروع أرز وليس قمحاً ولذلك كنا نتفاوض حول السلام المستحيل الذي لم يتحقق ولن يتحقق في إستراتيجية الحركة الشعبية قبل أن تحتل السودان وتُخضعه لسلطانها هويةً ووجوداً.

الطيب مصطفى
صحيفة الإنتباهة [/JUSTIFY]

Exit mobile version