أقولُ عن تشخيص العلَّة إن سعادتي كانت غامرة أنَّ الأستاذ علي عثمان تحدَّث لأوَّل مرَّة عمَّا ظللنا نطرقه حتى جفَّت حلوقُنا ألا وهو مشروع السُّودان الجديد الذي ما أُنشئت الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان لأول مرة إلا من أجل إقامته في السُّودان بهدف إعادة هيكلة السُّودان وطمْس هُوِيَّته وإبدالها بهُوِيَّة جديدة عبَّر عنها قرنق منذ أن دشَّن تمرُّده اللعين وحشد له أتباعَه وباقانَه وعرمانَه.
كنا نكتب آناء الليل وأطراف النَّهار عن أنَّ مشروع السُّودان الجديد الذي تُعبِّر عنه الحركة من خلال اسمها (تحرير السُّودان) ما هو إلا مشروع أمريكي انتزع قرنق من تنزانيا حيث كان يدرس ليُكمل دراسته تحت رعاية وتمويل المخابرات الأمريكيَّة ثم يقوده فور عودته من خلال منصبه العسكري في القوات المسلحة السُّودانية ثم إعلان تمرُّده عام (1983م) بتخطيط وترتيب من المخابرات الأمريكيَّة.
ما الجديد الذي تحدَّث عنه علي عثمان؟! لن أستفيض ولكني سأذكر بعض العبارات التي تكشف عن اقتناع الرجل أخيراً بأنَّ معركتنا مع الحركة الشعبيَّة ومع دولة جنوب السُّودان ومع أتباع الحركة من العلمانيين العنصريين في دارفور مناوي وعبد الواحد محمد نور اللذين انضم إليهما للأسف الشديد جبريل إبراهيم وكوَّنوا جميعاً ما يُسمَّى بالجبهة الثوريَّة السُّودانية المستنسَخة من الحركة الشعبيَّة.. أقول اقتناع الرجل بأنَّ معركتنا مع هؤلاء إستراتيجيَّة لن تخبو أو تنطفئ قبل أن يدخل الجمل في سم الخياط بما يعني أنَّه ما من تفاوض سيُنهي الصراع ويحقِّق السلام فكل تفاوض أو عمل عسكري ما هو إلا تكتيك ومرحلة في الطريق نحو تحقيق ذلك الهدف الإستراتيجي.
علي عثمان قدَّم أمام الإعلاميين بل أمام كبار المسؤولين التنفيذيين محاضرة عن الهدف الإستراتيجي للحركة الشعبيَّة وهو حديث جديد وقول خطير لو تعلمون عظيم وبالرغم من أنَّ كثيراً من التغطيات الصحافيَّة للقاء الرجل مع أجهزة الإعلام تجاهلت الحديث عن الهدف الإستراتيجي المتمثل في مشروع السُّودان الجديد ولاذت بما ظلت تهتم به من حديث حول صغائر الأمور ومحقراتها فإن بعضها الآخر أورد أهم ما في حديث النائب الأول.
قال علي عثمان بعد أن شنَّ هجوماً عنيفاً على ما يُسمَّى بالحركة الشعبيَّة قطاع الشمال والجبهة الثوريَّة إنَّ هذه الحركات عبارة عن (مخالب لتنفيذ مؤامرة دوليَّة على السُّودان وهي مجموعات خائنة ومرتزقة مرتبطة بعمل خارجي ولا تمثل أبناء النوبة وأهل دارفور الذين هم أشد تأذِّياً من الحركة الشعبية والجبهة الثوريَّة وستكون معركة هؤلاء العملاء خاسرة وسنكسبُها لمصلحة الوطن مهما كانت التحدِّيات والتضحيات) ثم قال إن (الحركة أُنشئت لقيادة مخطَّط تمزيق وإعادة تشكيل السُّودان وحاربت كل أنظمة الحكم من أجل هذا الهدف وهو مشروع السُّودان الجديد الذي لا تزال إستراتيجيتُه تشكِّل قناعات الحركة الشعبيَّة التي تريد تغيير السُّلطة في السُّودان وتغيير تركيبته) مضيفاً أنَّ (الحكومة عندما تقول إنَّ هناك مؤامرة كبيرة على البلاد تستهدف وجودها وكيانها ليس قولاً للحفاظ على الحكومة أو النظام القائم إنما هو الحقيقة التي عبَّر عنها غير السُّودانيين).
يا بني وطني والله العظيم ما أردتُ بالتركيز على هذه القضيَّة وهذا الجزء من حديث الرجل الثاني في الدولة إلا لأنطلق منه إلى الحقيقة التي ظلَّ الكثيرون يروغون عنها (ويتزاوغون) بالرغم من أنها أخطر قضيَّة واجهها ويُواجهها السُّودان في تاريخه الطويل.
ماذا بعد أن كشف علي عثمان عن أنَّ من يحاربوننا خَوَنَة وعملاء ومرتزقة؟!
ماذا بعد أن بيَّن أنَّهم ينطلقون من مشروع إستراتيجي وليس تكتيكياً.. مشروع إستراتيجي مدعوم من قوى دوليَّة لن تتخلَّى عنه قبل أن تحقِّقه على الأرض أو تنهزم؟!
من الآن فصاعداً وبعد حديث النائب الأول واعترافه بما ظل ساكتاً عنه بالرغم من علمه به وكشفه للمخطَّط الإستراتيجي الذي يستهدف السُّودان هُويَّةً ووجوداً لا يجوز لأحد أن يتحدَّث عن تفاوض قبل أن نقضي على هذا المشروع ونُرديه قتيلاً.. لا أعني بهذا الحديث الصحافة والإعلام وإنما أعني الحكومة تحديداً فإمَّاً أن تتصدَّى لمشروع إفناء السُّودان وإما أن تُعلن استقالتها وتذهب غير مأسوفٍ عليها فيكفيها ما فعلته بالسُّودان من مصائب وكوارث مرَّغت أنفَه وأنفَ شعبه في التراب وحطَّمت سمعتَه وجعلته أحاديثَ سارت بها الركبان في أرجاء الدنيا.
علي عثمان قال في حديثه للإعلام مخطِّئًا دعاة الانفصال إن السُّودان كان يحارب في العمق الجنوبي أمَّا اليوم فإنه بسبب الانفصال أصبح يقاتل في العمق السُّوداني الشمالي لكن الرجل رغم حصافته وذكائه نسي أن يسأل نفسه عمَّن منح حق تقرير المصير الذي تسبَّب في الانفصال كما نسي أن يسأل عمَّن سحب جيشَه من الجنوب قبل أن ينسحب الجيش الشعبي من الشمال وليبقى في جنوب كردفان والنيل الأزرق ويُلحق بنا الهزائم ويستنزف مواردَنا ويقتل أبناءنا ويستحيي نساءنا ويتَّخذ من الولايتين منصَّة انطلاق لتحقيق مشروعه الإستراتيجي؟! نسي علي عثمان أن يسأل عن كلِّ التنازلات والانبطاحات التي ظللنا نقدِّمها مهراً لسلام مستحيل مع حركة تعمل من أجل هدف إستراتيجي نعلم عنه الكثير لكننا رغم ذلك نتجاهله على غرار أولئك الذين خُدعوا في قصَّة الملك العريان.
الطيب مصطفى
صحيفة الإنتباهة [/JUSTIFY]