خالد يبحث
أخبرتنا إحدى فضليات الحي بأن هذه الأسرة تحتاج إلى الكثير من الرعاية والاهتمام وقادتنا بالخطى لتلك المنطقة فإذا بنا أمام منازل مشيدة بالطين، تبدو وكأنها أثرية، أمام المنزل مجموعة من الأطفال، يلعبون ويمرحون بينما ظل الطفل خالد «9» سنوات يراقب بأذنيه ويتلمس الأرض بأقدامه الحافية فأشارت لنا «دليلنا» المرافقة إليه وقالت إنه أحد أبناء الحاجة أسماء عبد الباقي يوسف وهو كفيف وأمه كفيفة، اقتربنا منه وصافحناه وتأملنا فيه فإذا به يستقبلنا بحفاوة غير طفولية وبأدب رفيع وهو يتلفت يميناً وشمالاً عيناه محمرتان وكثيرة الإفرازات البيضاء.. مقلتاه تتحركان بسرعة مع صعوبة في التركيز، حاولت مداعبته وقلت له يا خالد أمك وين، فقال إنها بالداخل ثم قال إنها تأتي من هذه الجهة وأشار بيده ناحية اليمين، فالتفتنا ووجدنا الحاجة أسماء وهي تسير ببطء شديد ودون مرشد أو عصا في تلك اللحظة انتابني شعور بأن خالد يستطيع الرؤية وعرفت لاحقاً أنه يحس بمكان أمه أينما كانت وأنه كفيف ولا يرى إطلاقاً.
سجن اختياري
استقبلتنا الحاجة أسماء وكأنها تعرفنا من قبل فالمرأة مطبوعة على السماحة والبساطة، طلبنا منها مقابلة زوجها أولاً ثم نعود إليها لنعرف قصتها، وبالفعل توجهنا من الناحية الغربية للمبنى ووجدنا باباً مغلقاً بطبلة من الداخل فاستعانت إحدى السيدات بصبي يلعب وطلبت منه أن يدخل عبر الجدران ويفتح الباب وبررت ذلك بأن الصغيرة صفاء قد تخرج دون أن تخبر أحدًا، بيد أن والدها معاق وكفيف لا يستطيع متابعتها ومراقبتها لذلك يتم حبس الصغيرة ووالدها بهذه الكيفية الاختيارية.
مأساة «رحمة»
عند دخولنا لتلك الدار وجدنا الصغيرة صفاء «12» سنة ولقبها «رحمة» وجدناها تقف على قدميها الحافيتين وقد كُبِّلتا بأسوار من حديد تزحف بهما في مساحة تقدَّر بـ «4 * 5» أمتار رسمت على وجنتيها ابتسامة بريئة وكأنها فرحة بمقدم الزائر .. على عينها حول وذبذبة سريعة ومتكررة على أهدابها، تحمل كباية بلاستيك فارغة تومئ بها فعرفت «الدليلة» أنها عطشانة وتحتاج لماء بررت فرحة الصغيرة بقدوم الوافدين لأنها سوف تحظى بجرعة ماء، شربت الماء وكأنها كانت صائمة في صيف هجير.
دنوت من قدميها المكبَّلتين وترددت في تصويرها لفجاعة المشهد فقد تورمت قدماها الصغيرتان وتضخمت أصابع قدميها الغضة وتحول احمرار كعبيها إلى لون أخضر نتيجة تفاعل الكربون مع مسامات ساقيها النحيفتين.
رحمة الحوامة
سألت بدهشة عن سبب سجن وتكبيل صغيرة مكفوفة فأخبرتني جدتها لأبيها بأنها ذات مرة خرجت دون أن تخبر أحدًا وقالت إنها ركبت مواصلات سوق ليبيا وبما أنها لا تنطق بحرف فقد استلمتها الشرطة وتم الإعلان عنها في صحيفة الدار وحتى لا تخرج مرة أخرى فقد تم تكبيلها بهذه الكيفية، «فتوكلت على الله وصوَّرتها».
فجيعة الوالد
توجهت برفقة الحبوبة لغرفة الوالد واسمه عبد العزيز أحمد محمد وقبل السلام عليه أخبرتني أمه بأنه لا يتحدث ولا يرى ورجله مبتورة، وقالت إنه ذات مرة خرج يتسول في الشارع فصدمته سيارة أدت لبتر رجله اليمنى، فخرج مرة أخرى وضبطته الكشة وغاب قرابة الشهر إلا أنه عاد بهذه الهيئة لا حديث ولا نظر، وحقيقة وجدته مستلقيًا على سرير بلا فراش وتركت للكاميرا نقل هذا المشهد المأساوي.
أسماء مرهفة ومرهقة
خرجنا لنجلس مع الحاجة أسماء التي يبدو عليها الإعياء والتعب والإرهاق تبتسم تارة وتحزن تارة أخرى وقالت إنها تزوجت من ابن خالتها الكفيف وأنجبت أطفالها موسى «17» سنة، أحمد «18» سنة، صابر «7» سنوات، وخالد «9» سنوات، وصفاء «12» سنة، وقالت أولادها كانوا في الروضة وخلوها عشان ما بقدرو والبقية منهم لم يكملوا تعليمهم وعايشين في الدنيا دي والحمد لله الجيران بساعدونا وبقدموا لينا المساعدة وربنا يجزيهم خير.
وفيما يتعلق بفقدانها وزوجها وبعض أبنائها لنور البصر قالت: كان علاجهم بالمراهم والحبوب والآن ما عندهم حاجة، مبسوطين وحامدين الله على القسمة دي. والدهم كان عندو طبلية في حلة كوكو، ما قدر اشتغل فيها والولد الكبير عندو كارو بجيب لينا المصاريف والحمد لله.
الإدراك الذوقي
سألتها يا حاجة أسماء بتعرفي أولادك كيف؟ قالت بحس بيهم وكان واحد بعيد مني وحصلت ليهو حاجة بعرفوا في تلك اللحظات جاءنا ابنها خالد وجلس بقربنا دون أن ينطق بكلمة فلمسته من يده فقط وقالت يا خالد انت مشيت وين؟ وكأنها أرادت أن تثبت لنا بياناً عملياً.
الإدراك الحسي
هذا الإحساس الذوقي العالي بالأمومة جعلني أستفسر عن رؤية الأم لصغارها المكفوفين فعلمت أن الذوق لا بالكم ولا بالكيف ولا يعرفه إلا من عاشه تجربة حقيقية. فقد عرّف المختصون كف البصر على أنه عدم القدرة على الإدراك بالعين المجردة نظرًا لقصور عضوي أو عَصبي، وقالوا هو عدم القدرة على رؤية الأشكال والضوء ولم يشمل التعريف عدم القدرة بإدراك الموجودات المحيطة به.
فريق إسعافي
خرجت من تلك الديار مشغولاً بهذا الأمر وفي الصباح توجهت لوحدة حماية الأسرة والطفل لمعرفة التكييف القانوني لوضع هؤلاء الأطفال وشرحت للقائمين بالأمر التفاصيل الدقيقة وقالوا لي إن هذا الوضع لا يحتمل التصريحات والتوضيحات ولا بد من زيارة هذه الأسرة وبالفعل تم الاتصال بوزارة الرعاية الاجتماعية وتم تشكيل فرق عمل مشترك وتوجهت معهم مرة أخرى لتلك الديار، وللحقيقة فقد كان فريق عمل على مستوى رفيع به عدد من الاختصاصيين والإداريين وطلبوا فقط عدم تصويرهم لطبيعة عملهم وجمعوا كل المعلومات التي تطابقت مع ما قلنا وأخبرني مندوب الوزارة أنه سيولي الأمر اهتماماً كبيراً وألمح إلى استعداد الوزارة لتقديم معينات تتمثل في التأمين الصحي والدعم الشهري الراتب وتوفير عجلة متحركة للوالد وتدريب المكفوفين على استخدام العصا ورفع قدراتهم، وقال إنه سوف يسعى لتوصيل المنزل بالإمداد الكهربائي لأن والدة إسماعيل قالت إنها تعاني في الليل من الظلام وسط المكفوفين.
صحيفة الانتباهة