و مع غيابِ الزوجِ (ورُبما الأبْ والأخْ) وجدتْ المرأةُ نفسها في تحدٍ كبيرٍ لسدِ ثغرةِ الغيابْ ولعبِ الدورِ المزدوجِ كأمٍ وابِ معاً، وحال زوجاتِ المُغتربين في المُدنِ أعظمُ بكثيرٍ مِن حالِهنَ في القُرى، فبطبيعة المدينةِ التى تُطفئ كثيراً مِن وهجْ الترابطِ الإجتماعى، تجدْ زوجةُ المغتربِ نفسها مُضطرةً لِمواجهةِ كثيرِ مِن المسئولياتِ بمفردِها وذلكَ على الرُغم مِن وجود الأخ او الأب او الجار وذلك مرجعهُ لصخب المدينة و حكمهُ القاسي فى انشغال الأغلبية عن بعضهم البعض.
مِنْ هذا الواقع إستوحيتُ سِلسلتي و مزجتها بشئُ مِن خيالي الذي يسعدُ كثيراً بإضافة بعضُ البُهاراتِ التي تجنحْ أحياناً لتتخطى حدود الواقع، ناسِجةً بعضُ المواقفِ و القِصصِ التي قدْ لا تخلو مِن الطرافةِ في بعضْ الأحايين وقدْ تكونُ مؤلمةً أحياناً أخرى، هي المواقفُ التي مرّتْ وتمُرُ وسّتمرُ مادامَ غيابُ الرجلِ مُستمراً.
سأنشُرها في حلقاتٍ متتابعةٍ راجيةً مِن اللهِ تعالى أنْ يتوقفَ هذا النزيفُ مِنْ هِجرةِ الرجُلِ السوداني وراء لُقمةِ العيشِ.
(1) خروف الضحية
يمُرُ يومُ الوقفةِ كَكُلِ عامٍ ثقيلاً مُرهِقاً ومليئاً بالفوضى، فبينما يكونُ الناسُ وقوفاً بعرفةِ يطرقونَ بابَ الرحمةِ أغُطُ أنا في عملٍ شاقِ لا ينتهى ….. الساعةُ الآنْ الواحدةُ ظُهراً و أنا لا زِلتُ أتجولُ في سوقِ سعدْ قِشرة أُحاولُ عبثاً إيجادَ ما يُرضى إبني أحمد فهو صعبُ المِراسِ و لا يقتنعُ بإختياراتي أبداً.
نظرتُ إليه بحنانٍ وهو يُجادِلُ البائعَ في مقاسِ القميصِ و البائعُ يتعاملُ معهُ بِسِعةِ بالٍ مُنقطعةِ النظير.
تركتهم يتحاورون بينما سرحتُ بأفكأرى بعيدا وأخذتُ اتأملُ تقاطيعَ وجهِ أحمدْ وإلى أىُ حدٍ يُشبهُ والدهُ! فأخذني الحنينُ بعيداً إلى تِلكَ البُقعةِ التي تستحوذُ على زوجي بعيداً عنّا حتى أنني لمْ أعُدْ أستطِعمُ للأيامِ شيئاً فكُلها تُشبهُ بعضها، حتى فرحةُ العيدِ منقوصةِ ومُبللةِ بالمشقة، تباً لتِلكَ المسافاتِ التي تسرِقُ فرحتنا .. وتباً لِمنْ إخترَعً السفرَ .. وتباً لِمنْ إخترعَ الطائرات.
إنتبهتُ أنّ أحمدَ إقتنعَ أخيراً بِما إختارهُ مِن ملابسَ (العيدِ) وأصبحَ بإمكانِنا أنْ نُغادرَ الآن إلى المنزِلِ فأمامي (كوم) مِن العملِ المنزلي إستعداداً ليومِ الغدِ.
وصلتُ إلى المنزلِ و عقاربُ الساعةِ تُشيرُ إلى الثانيةَ والربعِ ظُهراً (الزمن دا جارى كد ليه؟؟) و كأنهُ يُعاندي ليسبِقني إلى يومِ العيدِ …… بدلتُ ملابِسي سريعاً وبدأتُ مشروعَ الترتيبِ المنزلي و فجأةً تذكرتْ!! لا يوجدُ ما نأكُلُهُ اليومْ فبِما أنني صائمةُ لمْ أتذكّرْ أنْ علىّ إعدادَ وجبةِ الغداءِ لأبنائي .. (كمْ انا أمُ سيئةُ) …… تركْتُ العملَ و توجهتُ إلى المطبخِ في مُحاولةٍ لإعدادِ وجبةٍ سريعةٍ ولكن حدثَ ما لمْ يكُنْ في الحُسبان، فقدْ فرغتْ أُسطوانة الغازِ (دا وقتك انتى كمان!!).
لا مفرَ مِنَ مُحاولةِ الذهابِ إلى رأسِ الشارعِ، ليتني إحتفظتُ بِواحدةٍ بديلةٍ قِبالةَ العيدِ حتى لا أدخُلَ في هذا المطبُ الشائكُ خاصةً أنْ محلَ الغازِ يبعدُ عِدةِ أميالٍ عنْ منزلي ولا بُدّ أنْ أستغلَ ركشة، و حتى جودُ الركشاتِ في هذا الوقتِ مِن العامِ شِبهُ مَستحيل! ماذا افعلْ؟ هلْ أستعينُ (بإبنِ الجيران؟؟)!
أخيراً تمتْ عمليةُ تبديلِ الإسطوانةِ على خيرٍ بعدْ أنْ طلبتُ مِنْ جارتي سعدية التي تُلاصِقُني (بالحيطة) أن تُرسِلَ لي إبنها ليحملَ الإسطوانةِ و يُعيدَ ملأها ….. ليتَ إبني أحمدْ يكبُرُ سريعاً حتى يُخففَ عني الحِملَ قليلاً، فرُغمَ أنّ أخي يُقيمُ معنا إلا أنهُ لا يصِلُ المنزلُ إلا في ساعةٍ مُتأخرةً مِن الليلِ بحُكمِ عملهِ، ولكن يظلُ هذا أفضلُ (ضُل راجل ولا ضل حيطه)، فرغمَ إعتراضاتِ أُسرتي على الإقامةِ ببيتٍ مُنفصلٍ إلا أنْ إصراري كانَ أقوى، فقدْ أحببتُ أنْ ينشأَ أبنائي على الأُسلوبِ الخاصِ الذي إتفقنا عليهِ أنا ووالدِهِمْ، فوجودهم في بيتِ أُسرتي قدْ يُشوِشُ قليلاً مِنْ خُطتِنا التي رسمناها لحياتنا.
مرّتْ عاصفةُ تبديلِ الإسطوتنةِ على خيرٍ وبقى أنْ أذهبَ إلى الحنانةِ في مَظهرٍ لمْ أعتادهُ ألا في الأعيادِ والمُناسباتِ الخاصةِ فبغيابِ زوجي أصبحتُ زوجةً معَ وقفِ التنفيذِ، لكِنهُ طقسُ لا بُدَ مِنهُ حتى أسلّمَ مِنْ ألسِنةِ النِسوةِ المُسلطةِ علىَّ و خاصة والدةَ زوجي التي تمقُتُ (الأرجلَ المُفسخةِ) على حدِ تعبيرها.
وصلتُ إلى الكوافيرِ و وجدتُ طابوراً مِنْ النِسوةِ في إنتظارِ أدوارِهِنِ ليخضعنَ تحتَ أيدى هُويدا الحنانةَ فترسمُ الخُطوطَ جيئةً وذهاباً مُعلنةً أنّ هذِهِ الأرجُلِ لسيدةٍ متزوجة ….و حتى يحينُ دوري أخذتُ غفوةً صغيرةً سبحتُ معها في حلمٍ جميلٍ لمْ أستيقظُ مِنهُ إلا على يدِ هويدا طالبةً مني مدّ قدمي اليُمنى لتبدأَ إعلانَ مراسِمِ (الفرحِ المزعومِ)، ولكن! هلْ تستطيعُ أناملُ هويدا إدخالَ الفرحَ الى قلبٍ كسيرٍ؟؟ وفجأةً أخذت أُغنية سامى يوسِف (نغمةُ جوالي) تُتطرقِعُ بِجنونٍ، إنهُ هاتفُ المنزلِ …. اللهم اجعله خير !!
إنهُ أحمد يصرُخُ طالباً عودتي فوراً فأختهُ الصغيرةُ تُغالِبُ النِعاسَ و تبكي دونَ توقفٍ، فسألتهُ بِكلٍ وجلٍ (خالو ما جا لسه؟؟)، الساعةُ الآنْ التاسِعةُ مساءً ولم يعدْ أخي بعدْ رُغمَ وعدهِ الجازمِ لي بعودتهِ باكِراً حتى يقومُ بِشراءِ خروفِ العيدِ .. اين هو ياترى؟؟
إتصلتُ بٍهاتِفِهِ المحمولْ لأجِدهُ ناسياً تماماً وعدهُ لي (عزابى وما شايل هم)، و بعدَ إعتذاراتٍ (وتحنيسات) طلبَ مني أن أؤجلَ الأُضحيةُ لليومٍ الثاني أو الثالثِ حتى يتمكَنَ مِنْ شِراءِ الخروفَ في صباحٍ الغدِ، ولكنني رفضتُ بعُنفٍ حتى لا أُغيرَ عادةً زوجي الذي يُضحي أولَ أيامٍ العيدِ، فأنا أُحاولُ جاهدةً أنْ أحتفِظَ بِخَطهِ الذي رسمَهُ لحياتِنا وأُنفذهُ في غيابِهِ ولنْ أؤجلَ بلْ سأذهبَ لأشتري الخروف (برااااااى).
إقتلعتُ قدمي مِن يدِ الحنانةِ (وخمشت) الحِنةُ بِعُنفْ مُعتذرةً لها أنني لنْ أتمكنَ مِنْ مُواصلَةِ (الفرح) .. وتركتُ المَجالَ لسعيداتِ الحظِ اللواتي يحظينَ بِوجودِ أزواجِهنَ بِجوارِهنْ (الزيى دى شِن بتدور بالحنه .. الحنة طايره وعيشتى زااااااتها طايرة ).
وصلتُ إلى المنزِلِ سريعاً وكلَ همي أنْ أتمكنَ مِنْ إحضارِ الخروفِ حتى لا أُضيعَ فُرصةَ الضحيةِ في أولِ أيامِ عيدِ الأضحى المُباركِ لإحياءِ عادةِ زوجي كُلَّ عامِ.
حاولتُ أنْ أستعينْ بــــ(راجل الجيران) فأخذتُ أُنادى جارتي سعدية (يا سعدية هوى .. ابوكم جاب الخروف واللا لسه؟؟) فأتتني مُهلِلةً و مُبشِرةً بقدومِ الخروفِ السعيدِ مُنذُ ليلةِ البارحةِ، فأبتلعتُ خيبتي وإبتسمتُ لها رُغماً عني و هكذا إنطفأَ الأملُ اليتيمُ في إيجادِ العونِ، وعليه سأُضطرُ أنْ أذهبَ بِصُحبةِ أحمدْ إلى أقربِ سوقِ لبيعِ الأضاحي بشارعِ الإنقاذْ (ياهو راجل البيت بعد ابوه)، فصاحبني و علاماتُ الزهوِ ترتسِمُ على ملامحهُ الطفوليةِ البريئةِ و ما أنْ وصلنا حتى هروّلَ إلى أقربَ تجمُعٍ للخرفانِ مُحاولاً الركوبَ في إحدها مُصِراً أنْ نقوم بشرائِهِ، ومعَ إصرارِ أحمدَ وصرخاتِهِ المُحتجةِ وجدَ البائِعَ منفذاً للمُفاصلةِ ورفعِ السعرِ، ولأنني كُنتُ أشعرُ بالحياءِ مِن تجمُعِ الرِجالِ فلمْ أكثِر فى المُحاججةِ، بلْ دفعتُ لهُ ما طلبَ وعُدنا ثلاثتنا (انا والخروف و أحمد) إلى المنزل!
همسات – عبير زين