كان المساء الذي يبث فيه البرنامج يوم عيد خارج التقويم السنوي للأعياد.. لأنه مساءٌ فيه دهن يُسوِّغ اللقمة في أن تستساق.. وفيه يهطل مطر المحسنين مدراراً.
يوماً قرأ “محجوب عبد الحفيظ” حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء في صحيح الجامع عن “عبد الله بن عمر” أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً.. ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد شهراً”.
وقع هذا القول الوحي من الذي لا ينطق إلا وحياً في منتصف فؤاد الفتى “محجوب”.. الكلمات كسحت كل مسام جسمه ونفذت إلى العروق والأوردة بلازما من الدم النقي بالتسليم.
لم يقوَ الفتى على أن يقرأ الحديث قراءة جمعية، وإنما بدأ يمضغ كل فقرة بعقله مخافة أن يكون مضغ الفم يؤذي الكلام.
(أنفعهم للناس) هذه جملة تختصر محيطات من ماء النفع وهي فسطاط فسيح للرحمة والوصل والعطاء.
وحتى لا تفلت قطرة من ماء النفع للناس ولابد من أن تستقر كل قطرة في حلق إنسان طفق يكتب قائمة طويلة تحاول أن تحصى هذه المنافع.. حتى إذا ما تعب القلم من الرصد، والأوراق من دغدغة الأقلام.. توقف عن الإحصاء.
ثم نظر عميقاً في (أحب الأعمال) إلا أنه وجد تفصيلاً جامعاً لها في كلمات الحديث.. سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة.. تساءل الفتى عن مساحة هذا السرور الذي يدخل على المسلم.. أهو سرور وقتي ينتهي بكشف الكربة؟ أم هو سرور يعم أيام المسلم هذا بعد الشفاء من مرض (الكربة)؟
ثم قطع عليه التفكير في حجم السرور.. معنى “تكشف عنه كربة”. وخرجت آه كأنها جمرة من جماد لظى.. حرقت كل كفه وشفتيه وجبهته! (ما أكثر الكرب) خرجت هذه الجملة وكأنه لم ينطقها وإنما تقيأها وصحيح أن قائمة الجوانح والمصائب والابتلاء جد واسعة وشاملة وكبيرة ولم يقدر على الإحصاء لها.
“أو تقضي عنه ديناً”.. تذكر الفتى ثقل جرام الدين في ميزان ضمير الإنسان.. هو يعادل قنطاراً في موازين السوق! وتذكر حديثاً شريفاً يتعوذ فيه المصطفى النبي الخاتم.. (من غلبة الدين وقهر الرجال).
وقفت عبارة (قهر الرجال) في حلقه فلم يقدر على ابتلاع ريق وهرع يجترع كوبين من ماء غير بارد، فالتقى صيف بصيف وما تزحزحت الجملة عن مكانها في الحلق قيد أنملة.
قهرت الجملة كل فتوة الفتى، ورأى عدة صور لهذا القهر الذي يكسر في الإنسان النبض والقدرة على البكاء.
وقبل أن يستفيق من هول ذلك القهر وقعت عيونه على فعل مُنجٍ من عذاب وجالب لمحبة الله.. “أو ترد عنه جوعاً”.. بدت هذه الفقرة مريحة بحسبان أن رغيفاً يمكن أن يفعل ذلك.. غير أنه تذكر أن للجوع ثلاث ركعات في اليوم ركعة الفطور وركعة الغداء وركعة العشاء.. والشهر فيه ثلاثون يوماً والسنة فيها.. وبدأت مسبحة الحساب تكرُّ، وكذلك عدد الجوعى.
ثم جاءت المعادلة بين التعبد تطوعاً معتكفاً.. أو ساعياً في سد حوائج الناس والخيار بيَّنه الرسول المعصوم.. السعي في قضاء الحوائج أزكى وأرجى عند رب الناس.
هنا ارتاح الفتى وتحدد له الطريق واضحاً واسعاً وصعباً أيضاً.. واختار..
اختار حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس دائماً.. وكان هذا سر النجاح لأنه عرف أيضاً ما قاله “العثيمين”: “ما كان التوفيق بيتاً تسكنوه ولا ثوباً ترتدوه.. التوفيق غيث إن أذن الله بهطوله على حياتك ما شقيت أبداً فاستمطروه بالدعاء وحسن الظن بالله وحسن الظن بالناس”.
وانطلق الفتى بعد أن تحدد النهج والمقصد والهدف أمامه واضحاً جلياً مستقيماً.
“قضاء حوائج الناس”.
وأطل الفتى من التلفاز غيثاً مرجواً وأملاً منظوراً ويداً مبسوطة كل البسط في العطاء.. وهذه اليد المبسوطة كل البسط في عمل الخير غير مذمومة ولا منهي عنها.. وعرف الناس برنامجاً اسمه (الصلات الطيبة) وأصبح الفتى بدراً في فضاء قضاء حوائج الناس يسعى إليهم بالنفع إليهم..
يدخل السرور على بني الإنسان.. يكشف غوائل الكرب ويدهن الابتلاء برحمة الله تهطل من أيدي عباد الله.. يطرد الجوع من أن يستوطن أمعاء الناس، يقضي الدين عن مدينين قهرتهم غلبة الديون فكسرت الجسارة في تبسمهم ومشيهم.. وظل يسعى من أدنى المدينة إلى آخر بيت فيها.
ثم بدأ مرحلة أخرى في البرنامج.. لأنه رأى أن البرنامج أصبح مشاهداً ومحفوفاً بالمشاهدين الذين يحتاجون لجرعات من فقه الحياة وضرورات الدين ولابد من أن يعلم الناس ويصلح ما شاع من أخطاء حتى في أوجب العبادات.. فكم من مصلٍّ لا يتقن الوضوء ولا يحسن الوقوف والاعتدال ولا يسجد على سبع ولا يجيد تلاوة الآيات وحتى قصار الصور.
ولأن من ضرورات الدين وواجبات الفروض أن يتعلم الإنسان أحكام السهو في الصلاة وسجود السهو.. وصلاة الخوف.. وصلاة الجنازة وأحكام صلاة الضحى.. وغيرها.. وجد أن غسل الموتى وتكفينهم من أولى الواجبات لأنه رأى أن هذا الأمر أصبح مجهولاً أمام الشباب ومختصاً به فقط بعض الناس بل أصبح في كل حي رجل أو اثنان يقوم أو يقومان بهذا الأمر.
رأى أن يجعل هذا الأمر محضوراً ومشاهداً أمام الناس.. وأعدَّ العدة لحلقة يكون فيها هو الميت الذي سيغسل ويكفن ويصبح جنازة في التلفزيون.
وهذا أمر لا يحتاج الإنسان وهو حي أن يقيم له (بروﭭـة) كلنا يترك ذلك ليوم يكون، والميت يضمن تماماً أنه مغسول ومكفن ومحمول على آلة حدباء.. اسمها عنقريب.. وتغطيه ملاءة من قطيف.. ولا يحمل هماً مطلقاً في أن لا يحصل هذا.
رأى محجوب أن يتم ذلك وقد كان.
وبدأت الكاميرا في الأستديو تنقل المشهد الحي في بث مباشر.. حتى الكاميرا كانت مرتعشة الأطراف لم تشهد غسل ميت وكيف يكون بلا نعل ولا جلباب.. وكيف هو ساكن في يد الغاسل.. وفي الأنف قبضة من قطن وفي الأذنين حشو من قطن.. وبدأ الميت الحي في سكينة وسكوت وقلة حيلة.. وبدأ الرجل واسمه “توتو” رجل خصه الله بهذه الخاصية أن يغسل ويكفن و”يحنِّط”، كل ميت في أم درمان.. بدأ “توتو” وكأنه فعلاً في حضرة ميت.
كان الميت بلا بواكٍ لأن موتاً حقيقياً أو سريرياً لم يكن حاضراً، وإنما حلقة من برنامج (الصلات الطيبة).
زادت موسيقى حزينة المشهد مأساوية وحزناً..وانتهت الحلقة و”محجوب في آلة حدباء محمول”.
لم يكن أحد يجرؤ على أن يمثل دور الميت إلا هو.. ولم يكن أحد غيره يحس ذلك الإحساس (لبروﭭـة) الموت إلا هو.
ثم كان المشهد في الأحياء مؤثراً وجباراً ومدهشاً.. ووعد “محجوب” مشاهديه باللقاء في الحلقة القادمة.
سافر “محجوب عبد الحفيظ” للنيل الأبيض ساعياً في قضاء حوائج الناس يقود عربة بوكس.. يقودها لأول مرة.. وتبدأ مشوارها الأول في خلق الصلات الطيبة.. هو وحده في العربة.. وكان أن قام فجراً من منزله.. ثم في الطريق قرب القطينة انقلبت العربة وصعد شهيداً.
كان وجه “محجوب” محفوراً في ذاكرة الناس، ومطبوعاً في عيونهم، ومحفوظاً في سمعهم.. ولهذا عرفوه لأول وهلة في مكان الحادث الأليم.. عرفوا صاحب (الصلات الطيبة).. الذي شاهدوا حلقته الأولى عن الموت وغسل الميت وتكفين الجنازة.. وها هم يرونه مضرجاً بالدم يحتاج لغسل وتكفين.. ودفن.
حملوا الجثمان لوزارة الإعلام.. وكان الوزير “عبد الله محمد أحمد” ووصل الجثمان ووقع النبأ صاعقة في صدر الوزير وأصيب بشلل تام.. اتصل بي الوزير وطلب مني الحضور فوراً لوزارة الإعلام ولم يخبرني بشيء.
عند (بوابة) وزارة الإعلام صعقني الخبر الفادح.
ثم خرج الموكب الرهيب عابراً بشوارع بحري.. والصلات الطيبة مسجاة في عنقريب محمول على رؤوس الناس.
وقفت أمام القبر وقد أنابني وزير الإعلام أن أتحدث.. قلت: “هذه الحلقة الثانية والأخيرة في مسلسل الصلاة الطيبة”.
تذكرت بالأمس ذلك المشهد ورأيت الحلقة الأولى.. ووجدت أني أدعو له لأنه كان يمشي في الطريق إلى الله.. وعرف ما قال الصالحون.. (إن كنت في الطريق إلى الله فأركض.. وإن صعب عليك فهرول وإن تعبت فأمشِ فإن لم تستطع فسر حبواً وإياك والرجوع”..
مشى وركض.. وهرول ومات راكضاً ومهرولاً وماشياً ومقتولاً.
اللهم ارحمه واغفر له.
صحيفة المجهر السياسي