ولعلنا نتفق منذ البداية في أن جهازنا المصرفي المكون من «كم وتلاتين» بنكاً ومع فروعها المنتشرة في طول البلاد وعرضها، لم تكن في يوم من الأيام كافية لمقابلة الاحتياجات التمويلية لقطاع الزراعة والصناعة والخدمات في البلاد. وقد نتفق تماماً على أن الأسباب تعود أولاً لأن بلادنا ما شاء الله، كبيرة وعريضة من حيث المساحات ومشروعاتنا في القطاع المطري وحده لا تقل عن «50» مليون فدان.. وإذا أضفنا إليها القطاع المروي «10 – 15» مليون فدان، وأضفنا لها مساحات حزام الصمغ العربي بما فيه من ثروة حيوانية ونشاطات غابية وحركة سكانية، نكون في حقيقة الأمر أمام مساحة تعادل ست دول من دول الاتحاد الأوروبي وربما عشر دول من بعض الأقطار العربية.
وفي بلد زراعي مثل هذا، وعدد مزارعيه في القطاع المروي يصل إلى نصف مليون مزارع، ومزارعوه في القطاع المطري لا يقل عددهم عن مليون مزارع صاحب حيازة ويحتاج قطاع الآليات الزراعية وحده إلى إدخال ثلاثة آلاف جرار سنوياً بملحقاتها، وبما تصل قيمته إلى ثلاثمائة مليون دولار.. ويحتاج التمويل المحلي لأغراض البذور والحرث والكديب والحصاد إلى تمويل بالعملات المحلية لا يقل عن خمسة ترليونات جنيه بالجديد على اعتبار أن الفدان المطري يحتاج إلى بذور وجازولين ونظافة وتكاليف رعاية لا تقل عن مائة جنيه للفدان.
وبالطبع يضاف لكل هذا التكاليف الأخرى لأغراض التمويل الزراعي ومكافحة الآفات والأسمدة ومعدات الري والكهرباء والوقود وكل ما يتعلق بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالعمل الزراعي.
في هذا المناخ «يا سيدي المحافظ» و«نائبه» وأنتم أهل الدراية والمعرفة ولا يفتى في التمويل وأنتم في المدينة… في هذا المناخ كان أداء البنوك كلها لا يكفي وحده لمقابلة متطلبات قفزة ونهضة زراعية وتنمية ضخمة.. وتعلمون أن البلاد تعرضت إلى حصار عنيف وحرب اقتصادية «ضروس» بسبب مواقفها السياسية من ناحية، وبسبب توجهها الإسلامي إضافة إلى الجنوب الذي ظل عالة يعيش على ظهر السودان منذ الاستقلال في 1956 وحتى انفصاله الذي كلف البلاد كثيراً.
في هذا المناخ، عاشت بنوكنا التجارية التي لا يصل إجمالي رأسمالها كلها مجتمعة إلى أكثر من خمسمائة مليون دولار… يعني هذا، أن رجل أعمال واحد إذا أراد أن ينشيء مطحناً واحداً في مستوى مطاحن «سيقا» أو «ويتا»، فإنه ربما يحتاج إلى كل رأسمال بنوكنا مجتمعة… ولهذا يا سيدي المحافظ فقد نشأت بنوك خفية، وهذه البنوك تقوم بالتسليف وتوفير التمويل مهما ارتفع حجمه، وهذه البنوك تتمثل في «بعض الصرافات» و«دكاكين» بيع السيارات و«دكاكين» العملة.. ثم لحقت بها ما يعرف بأكشاك تحويل الرصيد… وكل هذه البنوك لا تحتاج إلى تصديق من بنك السودان، ولا تدفع ضريبة أرباح أعمال، وليس لديها تكاليف تشغيل جارية.
ويا سيدي المحافظ في الخرطوم وحدها أكثر من خمسمائة موقع لبيع «العربيات» ولبيع الدولار وهي عبارة عن دكان أمامه عشرون أو ثلاثون سيارة، ولكن عمله الرئيس هو توفير التمويل لمدة شهر أو شهرين بسعر فائدة ربوية تصل إلى «35» في المائة في الشهر، والضمانات هي الشيكات أو ربما رهن عقاري أو مصنع.. وفي الغالب يلجأ إليها أصحاب الحاجات و«المزنوقين الذين تزنقهم البنوك والمحاكم»… ويبلغ رأسمال البنك الخفي أكثر من خمسين مليار جنيه.. وإذا أضفنا البنوك الوهمية في أم درمان وبحري ومدن أخرى، تكون جملة البنوك خارج هيمنة الجهاز المصري لا تقل عن ألف وخمسمائة بنك، يضاف إليها ما لا يقل عن ألف موقع لبيع وتحويل الرصيد، وهذه بنوك من نوع آخر خاص بشركات الموبايل… ونؤكد أن «الكم ألف» بنك الخفية هذه، هي التي تقود دفة التعامل الضخم، وتحرك عجلة الاقتصاد حقيقة وتمثل «جبل الجليد» الذي لا تظهر منه غير القمة… وتعبر عن التشوهات الاقتصادية.
وبالطبع يا سيدي المحافظ، ظهرت مع هذه البنوك الوهمية مفاسد كثيرة منها، الغلاء الفاحش، وامتلاء السجون برجال الأعمال، وتوقف المصانع، وتجميع الثروة في أيدي قلة من «اللوردات» و«الوجهاء» و«الزعماء»، من الذين قد يعتبرهم البعض من أبناء السودان «البررة». وهذه المجموعة يا سيدي المحافظ، تمثل البنك المركزي بالنسبة «للكم ألف» المخفية والمطلوقة ساكت. ويقوم اللوردات بدور المركزي في تحديد سعر الدولار وتحريك الموارد من مكان إلى آخر.. ويعملون على إخراج أقوام من السوق وإدخال آخرين.. ويختلفون عن البنك المركزي فقط في أنهم لا يصدرون منشورات مكتوبة، ولكنهم يصدرون أوامر شفاهية ناجزة ريثما يتناولون كوباً من الشاي أو وهم «يبصقون السّفّة». وبالطبع يكون العلاج على النحو التالي:
أولاً: التركيز على تمويل مشروعات محددة ومساحات محددة بعينها مثلاً القطاع المروي كله وخمسة ملايين فدان فقط من الزراعة المطرية.
ثانياً: المتابعة اللصيقة لعمليات التمويل في القطاع الزراعي لضمان استغلالها في أغراض الزراعة وعدم توجيهها نحو الأنشطة الأخرى.
ثالثاً: محاربة البنوك الوهمية «الخفية» بمتابعة مصادر تمويلها وفرض ضرائب عليها ومحاصرتها.
رابعاً: إعادة هيكلة الجهاز المصرفي بدمج البنوك في بعضها أو رفع رساميلها.
خامساً: تكوين لجنة استشارية من رجال الأعمال بمختلف تخصصاتهم لتقديم المشورة للبنك المركزي في هذا الأمر.
صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]