هذه الدراسة، التي يقدمها هوشنك أوسي “كاتب سوري كردي- متخصص في الشئون التركية” هي محاولة للمقاربة والمقارنة بين الإسلامي السياسي في تركيا ومصر، بين ما بات يعرف بالنموذج التركي الأردوغاني وبين ممارسات جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المنتمي إليها في مصر، بعد توليّهما للسلطة، وهي المقاربة والمقارنة التي تعتمد شواهد تاريخية وموضوعية يتميز بها الأول عن الأخير وتتضح فيها المسافات المتباعدة بين التوجهين، في ظل رغبة ذرائعية في محاولة التقريب بينهما.
تتضح هذه المسافات المتباعدة والسمات الفارقة في اختلاف الاساليب والآليات التي اتبعها حزب العدالة والتنمية والإسلاميون الاتراك بهدف التغلغل الناعم في جسد الدولة، وابتلاعها واعادة هضمها وهيكلتها، بما ينسجم واجندة الاسلام السياسي البعيدة المدى في تركيا، وبين ما يجري الآن في مصر من تعثّر شديد وأزمة خانقة ربما تنسف ليس فقط طموحات ومشاريع الاسلام السياسي في مصر وحسب، وبل تتلف ما انجزوه الاسلاميون الاتراك ايضاً من سمعة سياسيّة واقتصاديّة وأيديولوجيّة لـ”الاسلام المعتدل” في مواجهة “الاسلام المتطرّف” إن جاز التعبير.
إسلاميون وأساليب مختلفة
فبعد مضي خمسة اعوام على اعلان تركيا الطلاق مع دولة الخلافة سنة 1923 وتأسيس الجمهوريّة العلمانيّة على يد مصطفى كمال اتاتورك (1881 ــ 1938)، قام حسن البنّا (1906 ــ 1949) بتأسيس جماعة الاخوان المسلمين في مصر سنة 1928 في مسعى العودة الى دولة الخلافة. وصحيح ان كل تفريخات الاسلام السياسي التركي والعربي والفارسي…، هدفها وشعارها الأوحد والمشترك؛ “الاسلام هو الحل”، كنظام سياسي، اقتصادي، اجتماعي، قانوني، ثقافي وتربوي…، في مسعى استعادة دولة الخلافة، إلاّ ان الاسلاميين الاتراك، اثبتوا انهم يختلفون عن الاسلاميين العرب في الوسائل والاساليب، وان نَفَسُهم أطول في الوصول الى السلطة، وابتلاع الدولة، واعادة هضمها وانتاجها وفق أهدافهم.
ذلك انه لم يعد خافياً عن القاصي والداني، فقد أحكم حزب العدالة والتنمية – AKP، على كل مفاصل الدولة بشكل سلمي – تدريجي، بحيث اضحت هذه التجربة، مصدر الهام واقتداء لكل الاسلاميين العرب، وبل صار العلمانيون العرب ايضاً يتغنّون بها!. لدرجة ان اسلاميي المغرب وتونس، اسسوا حزبين اسلاميّين بالاسم نفسه “حزب العدالة والتنمية”، كما أسست جماعة الاخوان المسلمين في مصر، أسست حزباً سياسيّاً، يحمل اسماً قريباً من اسم الحزب التركي “حزب الحرية والعدالة”. واخوان سورية، هم أيضاً يتجهون نحو تشكيل حزبهم السياسي!. في حين انه ثمّة مؤشّرات بدأت تلوح في الأفق، ان الإسلاميين العرب، وتحديداً في مصر، اختاروا المواجهة مع الدولة والجيش والمؤسسة القضائيّة والمجتمع المصري بتنويعاته كافّة، ولم يقتدوا بـ”الغزو الناعم” الذي قام به حزب العدالة والتنمية التركي لـ”علمانيّة” تركيا، حتّى وصل لما هو عليه الآن من سيطرة وسطوة شبه مطلقة على تفاصيل التفاصيل في النظام السياسي والاقتصادي والقضائي والمؤسسة العسكريّة والامنيّة التركيّة.
وبدأت مواجهة اخوان مصر مع المجتمع والدولة، عبر القرار الذي اتخذه الرئيس المصري محمد مرسي يوم 08/07/2012، الذي طالب فيه مجلس الشعب المصري المنحّل، (بقرار من الدستوريّة)، للانعقاد، وردّ الأخيرة لقرار مرسي، وموقف المؤسسة العسكريّة من ذلك، ثم تراجع عن قراره هذا بعد مضي ثلاثة أيّام من إصداره!. ثم الاعلان الدستوري، وطرحه على الاستفتاء، وادخال مصر في دوّامة ازمة داخليّة، قسّمت المجتمع أفقيّاً وعاموديّاً، كانت جماعة الاخوان المسلمين بغنى عنها، أقلّه الآن!. والسؤال هنا: إذا كان وحدة الهدف تجمع كل اطياف وتفريخات الاسلامي السياسي، فما طبيعة اختلاف الحال بين اسلاميي العرب واسلاميي تركيا؟
عن البدايات وسؤال الهوية
انطلاقة الاسلام السياسي، كتنظيم حركي، يسعى لاستلام الحكم، بدأت من مصر، عبر تأسيس جماعة الاخوان المسلمين في 22/03/1928 على يد حسن البنّا (1906 – 1949). ولم تصل الجماعة للحكم، إلاّ بعد اسقاط نظام مبارك، الذي يعتبر امتداداً لانقلاب حركة الضبّاط الاحرار في 23/07/1952 على الملك فاروق (1920 – 1965) آخر ملوك اسرة محمد علي باشا.
وكانت علاقة الجماعة جيّدة بجمال عبدالناصر (1918 – 1970)، وسرعان ما توتّرت. ومذاك، بقيت الجماعة على صراع مع الدولة، ومتداخلة في نسيجها، ولو بشكل خفي، حتّى حين كانت محظورة، طيلة العقود الماضية، بخاصة في عهد مبارك. واخذ صراع اخوان مصر على السلطة، مع نظام العسكر (عبدالناصر + السادات + مبارك) شكلاً دمويّاً في بعض الاحيان.
أمّا في تركيا، فأوّل حزب اسلامي “حزب النظام الوطني”، تأسس سنة 1970، على يد نجم الدين اربكان (1926 – 2011)، تمّ حلّه، بعد انقلاب 1971، فعاد ليؤسس حزباً اسلاميّاً جديداً، باسم “حزب السلامة الوطني” سنة 1972. وكان اربكان مندمجاً في الدولة العلمانيّة، وبل ضمّ حزبه لحزب الشعب الجمهوري الاتاتوركي، وشارك حكومة بلند أجاويد (1925 – 2006) القوميّة – اليساريّة غزو جزيرة قبرص سنة 1974. وبانقلاب 12/09/1980، أودع أربكان السجن وتمّ حلّ حزبه. وسنة 1996، أسس حزب الرفاه الاسلامي، ودخل الانتخابات، وشارك في تشكيل الحكومة مع حزب الطريق القويم (يمين الوسط)، الى جانب رئيسة الوزراء السابقة طانسو تشللر. وتمّ اقصاؤه عن الحكم، عبر اجباره على تقديم الاستقالة، وحلّ حزبه في نيسان 1997، فيما اعتبره الاتراك بالانقلاب “المابعد حداثوي” أو “الانقلاب الابيض” الذي قام به الجيش التركي. بعده، أسس اربكان حزب الفضيلة، وأداره من خلف الستار، نتيجة قرار المحكمة الدستوريّة القاضي بإبعاده عن العمل السياسي لخمس سنوات. وهذا الحزب أيضاً، تمّ حظره سنة 2000. وبعد ذلك، انشق عنه رجب طيب اردوغان وعبدالله غول، وأسسا حزب العدالة والتنمية سنة 2001، مع 64 شخص، ضمنهم 13 امرأة، بينهنّ 7 نساء غير محجّبات!. وانضمّ اليه أصحاب الميول الاسلاميّة من القوميين الاتراك الذين كانوا ينتمون لأحزاب يمين الوسط واليمين المتطرّف التركي. وبالتالي، فحزب العدالة والتنمية، هو حزب اسلامي محافظ، بخلفيّة قوميّة.
في حين ان المتبقّي من حزب الفضيلة، أسس حزب السعادة الاسلامي. الذي تعرّض للانشقاق مجدداً، بعد وفاة اربكان. وانضمّ احد قادة الانشقاق؛ (نعمان كورتولموش) الى حزب اردوغان مؤخّراً.
ومع تأسيس حزب العدالة والتنمية سنة 2001، دخل الداعية الاسلامي فتح الله غولان، المقيم في اميركا، على خطّ دعم هذا الحزب. وفي الانتخابات الاشتراعيّة سنة 2002، اكتسح العدالة والتنمية الانتخابات، بنسبة 34 بالمئة، وشكّل الحكومة بمفرده. وفي انتخابات تموز 2007، فاز نسبة 47 بالمئة، وحصل على 341 مقعداً في البرلمان من اصل 550 مقعد. وأيضاً شكّل الحكومة بمفرده. وأرسل اردوغان صديقه عبدالله غول، لرئاسة الجمهوريّة في 28/08/2007. وفي انتخابات حزيران 2011، حصل الحزب على نسبة 50 بالمئة من الاصوات، ورويداً، بدأ الاسلاميون، يتغلغلون في جسد الدولة التركيّة، العلمانيّة الاتاتوركيّة. وما وجود القليل من المعارضة القوميّة والاتاتوركيّة في البرلمان إلاّ لزوم الديكور الديمقراطي، لئلا يُقال ان العدالة والتنمة قد اجهز على المعارضة نهائيّاً. زد على ذلك انه في النظم الديمقراطيّة، لا توجد سلطة بدون معارضة، حتّى ولو كانت مشلولة التأثير أو محدودة الفاعليّة.
بينما في مصر، وفي حالة تماهي مع (أخوان تركيا) وحزبهم السياسي الحاكم، في 21/02/2011، أي بعد مرور 10 أيّام فقط على تنحّي مبارك، اعلن المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين المصريّة محمد بديع عن تأسيس حزب سياسي “يؤمن بفكرة الإخوان المسلمين، ويتبنى رؤيتها في المجال الحزبي والسياسي” يدعى حزب العدالة والحريّة، الذي اعلن عنه رسميّاً في 06/06/2011. ودخل الانتخابات التشريعيّة سنة 2012 وفاز بنسبة 43,7 وحصل على 222 مقعد في البرلمان المصري.
القضاء والقانون.. استيعاب ومذابح
أوّل صدام بين حزب العدالة والتنمة الاسلامي والمحكمة الدستوريّة التركيّة، كان في آب 2008، حين تمّ رفع دعوى عليه، امام المحكمة الدستوريّة العليا، بتهمة “مناهضة العلمانيّة”، وردّت الدستوريّة هذه الدعوى، لعدم كفاية الادلّة، واكتفت باصدار انذار شديد اللهجة الى حزب اردوغان. هذا القرار، لفت انتباه اردوغان الى ضرورة شلّ الذراع القضائيّة للكماليست (نسبة لكمال اتاتورك)، فاتجه الى اجراء اصلاحات قانونيّة ودستوريّة، قلّصت صلاحيات المحكمة الدستوريّة، وزيادة عدد قضاتها، بادخال قضاة مقرّبين من العدالة والتنمية لهيئتها. ثمّ طرح تعديلات دستوريّة على الاستفتاء يوم 12/09/2010، ومُرّرت بنسبة 58% ورفض 42%. ولم يكن تاريخ الاستفتاء المصادف لتاريخ الانقلاب العسكري في 12 أيلول 1980 مصادفة. بل أتى كنوع من الاستثمار وتصوير دستور العدالة والتنمية على انه مناقض لدستور انقلاب 1980، لحشد اكبر قدر من التأييد له. ومسّت هذه الاصلاحات الدستوريّة الكثير من صلاحيّات المؤسسة القضائيّة، بما يمكن وصفها بإعادة الهيكلة، كي لا تقف حجر عثرة امام طموحات ومشاريع الحزب الحاكم.
ومنذ استلامه للحكم سنة 2002، وحزب العدالة والتنمية التركي، يتحدّث عن الدستور المدني، وأنه يعكتف على الاعداد له، وطرحه على الاستفتاء. ولكن، لم يستطع هذا الحزب، قلب الدستور رأساً على عقب، وتغيير مواد رئيسة فيه بحيث يعطي الانطباع والمصادقيّة بأن دستور العدالة والتنمية مختلف تماماً وجذريّاً من الدستور الاتاتوركي الذي لطالما صاغه العسكر التركي غداة انتقلاباتهم المعروفة. بمعنى، بعد مرور عقد ونيّف على حكم حزب اردوغان، ولم ترَ تركيا بعد، الدستور المدني الديمقراطي العتيد الذي وعد ويعدُ به اردوغان الشعب التركي. حتّى ان الكثير من المراقبين كانوا يعتبرون الضجّة التي كان يثيرها حزب اردوغان حول الدستور المدني الجديد، كانت تتزامن مع الانتخابات البرلمانيّة لزوم الدعاية الانتخابيّة. وخلال السنوات الاحد عشر من حكم العدالة والتنمية، سعى اردوغان الى اشراك المجتمع المدني والاعلام والمعارضة في عملية واسعة للنقاش حول الدستور العتيد، الذي لم تنتهِ تركيا وحكومتها من الاعداد له بعد! فهكذا لم تكن المواجهة التركية للقضاء وأحكامه عبر ذبحه أو التدخل في استقلاله ولكن عبر القانون وإصلاح المنظومة التشريعية والدستورية عكس ما صنع مرسي في مصر.
بينما في مصر، وبعد تولي الرئيس السابق لحزب العدالة والحريّة (ذراع جماعة الاخوان المسلمين) للحكم، باشر الاخوان، بتأييد كل التيّارات الاسلاميّة، السلفيّة (حزب النور)، وتيّارات اخرى، باستهداف القضاء المصري، عبر القرار الذي اصدره مرسي يوم 08/07/2012 الذي دعا في مجلس الشعب المنحلّ، بقرار من المحكمة الدستوريّة، الى الانعقاد. وفي 11 أكتوبر أصدر قراراً بتعيين النائب العام عبد المجيد محمود سفيراً لمصر في الفاتيكان. ثم تراجع عن قراره في 13 اكتوبر. ثم اتى الى صوغ وطرح وتمرير مسودّة الدستور الذي صاغته الجمعيّة التأسيسيّة، على عجل، بعد دخولها في صراع مع القضاء المصري الذي طعن في دستوريّة هذه الجمعيّة. زد على ذلك ان الجمعيّة، خلت من القوى المدنيّة واحزاب المعارضة، وكانت اشبه بمؤسسة حكوميّة، ملزمة بقرار السلطة الحاكمة وحسب.
كما أثار الاعلان الدستوري الأوّل والثاني للرئيس المصري محمد مرسي، موجة عارمة من الانتقادات وحالة من الغضب والغليان والاستنكار لدى قوى المجتمع المدني وقوى المعارضة المصريّة، واتهمته هذه القوى بالسعي نحو الحصول على سلطات مطلقة، وتحصين نفسه، وخلق دكتاتوريّة جديدة في مصر!. ومما جاء في الاعلان الدستوري الثاني الصادر يوم 21/11/2012، التالي:
المادة الثانية : الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات السابقة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 30 يونيو 2012 وحتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأي طريق وأمام أية جهة ، كما لا يجوز التعرض بقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أية جهة قضائية.
المادة الثالثة : يعين النائب العام من بين أعضاء السلطة القضائية بقرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات تبدأ من تاريخ شغل المنصب ويشترط فيه الشروط العامة لتولي القضاء وألا يقل سنه عن 40 سنة ميلادية ويسري هذا النص على من يشغل المنصب الحالي بأثر فوري.
المادة الخامسة: لا يجوز لأية جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور.
المادة السادسة: لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد ثورة 25 يناير أو حياة الأمة أو الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها ، أن يتخذ الإجراءات والتدابير الواجبة لمواجهة هذا الخطر على النحو الذي ينظمه القانون”.
ونتيجة موجة الغضب والمظاهرات التي شهدها الشارع المصري على خلفيّة هذا الاعلان، ووصول حالة الاحتقان لدرجة وضعت البلاد على شفير الحرب الاهليّة، بالاضافة الى انتقادات منظمات حقوق الانسان الدوليّة، والامريكيّة والاوروبيّة، أُجبِر مرسي على الغاء ذلك الاعلان الدستوري، واستبدله باعلان آخر يوم 8 ديسمبر 2012. وجاء في المادّة الرابعة منه ما يلي: “الإعلانات الدستورية، بما فيها هذا الإعلان، لا تقبل الطعن عليها أمام أية جهة قضائية؛ وتنقضي الدعاوى المرفوعة بهذا الشأن أمام جميع المحاكم، ويتزعم الإخوان المصريون وحلفاؤهم من الأحزاب الصغيرة في مصر تظاهرة تستهدف القضاء يوم الجمعة 19 أبريل 2013 بدعوى تطهيره ورفض أحكامه وتخوين قضاته لم تشهد تركيا مثيلا لها بالمطلق في ظل حكم العدالة والتنمية رغم ارتفاع شعبية الأخير كثيرا في الشارع التركي عن شعبية الإخوان المسلمين المتراجعة على مختلف المستويات.
على الصعيد العسكري
في تركيا، قبل ان يبدأ اردوغان معركته مع المؤسسة العسكريّة (حصن الاتاتوركيين)، اتجه نحو تحصين نفسه قضائيّاً، عبر اجراء الاصلاحات القانونيّة والدستوريّة التي اتينا على ذكرها. باعتبار انه اراد ان تكون معركته قانونيّة، بعد ما استشفّ المخاطر الآتية من المحكمة الدستوريّة العليا والقضاء التركي، والمخاطر الآتية منها والتي تحدق بطموحاته ومشاريعه. وكان لأردوغان ما أراد. فبعد ان استولى على المؤسسة العسكريّة ايضاً، عبر تنصب الجنرال نجدت اوزال، المقرّب منه، خلفاً للجنرال إلكر باشبوغ (حُكم عليه لاحقاً بالسجن المؤبّد، بتهمة تدبير انقلاب عسكري على الحكومة التركيّة)، استولى اردوغان على الاستخبارات القوميّة (MIT) ايضاً، بعد تنصيب هاكان فيدان، المقرّب منه بدلاً من إمراه تانير، ثمّ الاستيلاء على مؤسسة الامن الداخلي (البوليس). والآن، كل الخنادق العسكريّة والأمنيّة وقوى الامن الداخلي البوليس، تدين بالولاء لحكومة اردوغان، مع وجود جيوب للعلمانيين الاتاتوركيين في هذه المؤسسات، تقوم حكومة اردوغان بمكافحتها تباعاً، وببطء، وبعيداً من الاضواء.
بينما في مصر، أوّل مواجهة بين نظام الحكم الاخواني مع المؤسسة العسكريّة كانت عبر اصدار الرئيس المصري محمد مرسي قرار احالة وزير الدفاع محمد حسن طنطاوي (قائد المجلس العسكري إبان الثورة وقبل استلام مرسي للحكم) ورئيس هيئة الاركان سامي عنان، على التقاعد. وسرت شائعات في الصحافة المصريّة مؤخّراً، تفيد بنيّة مرسي اقالة وزير الدفاع الحالي عبدالفتاح السيسي، ما نفته الرئاسة المصريّة، ولا زالت الأجواء متوترة بين الطرفين وهو ما تؤكده مختلف الأطراف المصرية إسلامية وعلمانية، وتكشف عنه تصريحات واعتذارات تتكرر من قبل الإخوان نحو مؤسسة الجيش.
في العلاقة مع الاعلام
بالاضافة الى وجود امبراطوريّات اعلاميّة، يمتلكها، إمّا جماعة فتح الله غولان كجريدة “زمان” الواسعة الانتشار في تركيا، وصحف يمتلكها مقرّبون من اردوغان كـ”صباح، يني شفق، طرف…”، وشبكات تلفزة عديدة…، وصل امتداد الاسلاميين في “السلطة الرابعة” التركيّة، الى شراء صحف كانت محسوبة على التيّار العلماني، اليساري الديموقراطي كجريدة “راديكال”. فقصّة حزب العدالة والتنمية بخصوص تقويض الاعلام التركي واستمالته جديرة بالمتابعة، لأنها على شاكلة المواجهة العنيفة التي يقوم بها الآن اسلاميو مصر مع الاعلام المعارض لهم، لكن، بعيداً من التهييج والتجييش الشعبي. حيث استخدام اردوغان القانون والتهديد بالملاحقة الضريبيّة (2 مليار دولار) لامبراطوريّة آيدن دوغان الموالية للعلمانيين والعسكر، الى درجة جعلت دوغان ومؤسساته ترضخ لحكومة العدالة والتنمية وتخفف من الانتقادات الموجّه لأردوغان والكفّ عن الاشارة الى ملفّات امتلاك نجله لـ”يخت” فاخر، ولملفّات الفساد المالي لجمعيّات اسلاميّة خيريّة تركيّة في ألمانيا موالية لحزب اردوغان. وبل اضطرّ آيدن دوغان الى بيع جزء من مؤسساته الاعلاميّة للاسلاميين. وربما يشابه ذلك ما فعله الاسلاميون ضدّ رجل الاعمال المصري ورئيس حزب المصريين الاحرار، نجيب سويرس الذي يمتلك مؤسسات أعلاميّة ناقدة لحكم الاخوان كقناة “أون تي في”، فيما يخصّ إشهار ورقة التهرّب الضريبي (14 مليار جنيه) في وجهه. وصحيح ان الاخوان والسلفيين في مصر، باتوا يمتلكون على عشرات قنوات التلفزة والصحف والمنابر الاعلاميّة، بالاضافة الى سيطرتهم على الاعلام الرسمي التابع للدولة، إلاّ ان حروب الاخوان والاسلاميين على الاعلام المعارض لهم، وتخوينهم له، (باسم يوسف نموذجاً)، لم يختلف عمّا قام ويقوم به حزب العدالة والتنمية في تركيا ضدّ الاعلام المعارض.
وفي هذا السياق، كانت لجنة حماية الصحفيين ومقرّها نيويورك، قد اصدرت تقريراً أعربت فيه عن مخاوفها من خطر يتهدد حرية الصحافة فى تركيا. وقالت: “إن الحكومة التركية منهمكة فى هجوم واسع لإسكات الصحفيين الناقدين، وذلك من خلال السجن والملاحقات القضائية والترهيب الرسمى”. وذكرت اللجنة أسماء ٧٦ صحفياً محتجزاً فى تركيا، ما يجعل هذا البلد “فى مقدمة البلدان التى تسجن الصحفيين فى العالم، متجاوزاً إيران وأريتريا والصين” بحسب التقرير. واستعرض التقرير جميع حالات السجناء المحتجزين، كل حالة بمفردها، واستنتجت أن ٦١ صحفياً على الأقل محتجزون بسبب عملهم، وهو أعلى رقم تسجله لجنة حماية الصحفيين خلال العقد الماضى”. كما ذكر التقرير ان 70 بالمئة من الصحافيين المحتجزين هم من الأكراد.
ونجد هنا التطابق والتوافق والانسجام بين اخوان مصر وتركيا وموقفهم المعادي لحريّة الصحافة والتعبير عن الرأي.
اختلاف النظام الداخلي
يشير النظام الداخلي لحزب العدالة والتمية، في المادّة 4 – باب الاهداف السياسيّة الى ما يلي:
1 ــ يؤمن حزب العدالة والتنمية بأن “النظام الجمهوري” هو أهم مكسب إداريّ للأمة التركية، وأن السيادة أصبحت في يد الشعب بدون قيد أو شرط. ويسلّم بأن الإرادة الوطنية أصبحت القوة الحاسمة الوحيدة. وينادي بضرورة امتثال المؤسسات والأشخاص الذين يستخدمون السلطة السيادية باسم الأمة لمبدأ سيادة القانون. ويقبل العقل والعلم والتجربة على أنهم مرشدو الطريق. ويؤكد على أن الإرادة الوطنية، وسيادة القانون، والعقل والعلم والتجربة، والديمقراطية، والحقوق والحريات الأساسية للفرد والأخلاقية، هي مرجعيات أساسية لمفهوم الإدارة السياسية.
2 ــ يدافع حزب العدالة والتنمية عن الأمة التركية كوحدة واحدة لا تتجزأ مع وطنها ودولتها. ويقبل بالقيام بأنشطة مناسبة للمعايير والمسلمات العامة الموضحة في المادة الثانية؛ من أجل الوصول إلى مستوى الحضارة المعاصرة التي أرشد إليها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك بل وحتى الارتقاء فوقها وذلك مع الحفاظ علي قيمنا الموروثة كأرضية للحياة السياسية.
3 ــ حزب العدالة والتنمية هو حزب سياسي محور اهتمامه الإنسان. ويؤمن بأن الخدمة الأفضل هي خدمة الإنسان. وتهدف جهوده إلى سعادة وسلامة وأمن وصحة الإنسان. ويؤكد على أن جميع أفراد شعبنا هم عائلة كبيرة تنضوي تحت اسم “دولة جمهورية تركيا” المؤسسة في أرض “تركيا”، وأن الدول الأخرى كل في حدوده هي عائلات جارة. ويؤمن بأنه من خلال القيمة التي تعطى للإنسان يمكن التعايش في سلام دائم.
4 ــ يدرك حزب العدالة والتنمية بأن الناس يتمتعون بحقوق مثل: العقائد المختلفة، والفكر، والعرق، واللغة، والتعبير، والتنظيم، والمعيشة منذ ولادتهم ويحترمها ويقبل بأن الاختلاف ليس سبب فرقة بل هو غنى يعزز ثقافتنا.
5 ــ يرفض حزب العدالة والتنمية كل أشكال التمييز التي لا تتوافق مع أسس المجتمع الديمقراطي في علاقات الفرد بالدولة. ويرى في الدولة مؤسسة خدمية فعالة شكلها الأفراد من أجل خدمة الفرد.
6 ــ يؤمن حزب العدالة والتنمية بأن الاستخدام الحر لجميع الحقوق السياسية يُمكِّن الإرادة الوطنية من أن تسود، أما الاستخدام الحر للحقوق السياسية فيمكنه أن يحيى في إطار نظام ديمقراطي حر يتصف بالتعددية والمشاركة.
7 ــ يؤكد حزب العدالة والتنمية على ضرورة أن يكون جميع الأشخاص، والمؤسسات، والهيئات الذين يعملون بالوظائف العامة داخل هيكل الدولة من خلال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تستخدم حق السيادة باسم الأمة مراعين في استخدامهم السلطات وأدائهم للمهام ما يوافق معايير دولة القانون الموجودة في الوثائق المنوه عنها في المادة الثانية ويقر بالتوافق مع هذه الضرورة أساساً للشرعية.
8 ــ يؤكد حزب العدالة والتنمية على أن حق الأفراد في الحياة كما يعتقدون، والتعبير عما يفكرون أمر لا يمكن أن يقبل النقاش، وأن حق وسلطة الإعلان والدعاية عن الاعتقاد والفكر بصورة موافقة للقانون هي ملك للأفراد ومؤسسات المجتمع المدني، وأن لكل فرد نفس الحقوق المتساوية والمشتركة في كل مؤسسة وفي كل مجالات الحياة، وهكذا فإنه يجب على الدولة عدم اتخاذ موقف إلى جانب أو ضد أي اعتقاد أو فكر قط، وأن مبادئ المساواة أمام القانون والعلمانية الموجودة في الدستور تشكل ضمانا لهذا المفهوم ووجهة النظر هذه. ويقر بضرورة أن تكون المهمة التي يمكن أن تتحملها الدولة والشخصية الاعتبارية للحزب هي عبارة عن إعداد بيئة حرة تحقق وتضمن استخدام الحقوق فحسب. ويدافع عن أن الحقوق والحريات الأساسية لا يمكن أن تكون موضع اقتراع.
9 ــ يعطي حزب العدالة والتنمية أهمية خاصة لمفهوم الدولة الاجتماعية التي تعتبر نهجا ليحيى الإنسان حياة إنسانية.
10 ــ يؤمن حزب العدالة والتنمية بالإنسان كمصدر أساسي وهدف للتطور الاقتصادي. ويهدف إلى تأسيس اقتصاد السوق بجميع مؤسساته وقواعده. ويعرِّف دور الدولة في الاقتصاد كمنظم ومراقب. ويرى أن عدم العدالة في توزيع الدخل، والبطالة أهم مشكلة اقتصادية واجتماعية. ويدافع عن إتمام التحولات البنيوية اللازمة للاستفادة من الفرص التي خلقتها العولمة، والحماية من السلبيات التي جلبتها معها.. (…)
13 ــ يهتم حزب العدالة والتنمية بالديمقراطية التمثيلية القائمة على التعددية والمشاركة والمنافسة. ويؤمن بأهمية مؤسسات المجتمع المدني وبأنه لا غنى عنها في تطبيق هذه الخصائص وتأسيس إدارة عامة ذات إنتاجية وجودة وفي إجراء الرقابة عليها وإدامتها. (…)
15 ــ يؤمن حزب العدالة والتنمية بأنه يمكن الوقوف بقوة أمام تحديات الداخل والخارج بالعدالة، وبإيمانه بأن القوة تنبع من القانون وليس العكس يهدف إلى القضاء على العوائق التي تمنع سيادة الشعب، وتحقيق حق القضاء العادل وحرية البحث عن الحق بكل صوره، وجعل وطننا صالحا للعيش من أجل شعبنا، وحماية وطن الأمة واستقلال دولتها وبنيتها المتحدة في كل حال.
صحيح ان الكثير من هذه الأهداف، وبالقياس على معطيات الواقع التركي، كانت ولا زالت شعارات، إلاّ ان العدالة والتنمية، عرف كيف يحقق جزءا منها، خاصّةً، المتعلّق منها بالجوانب الخدمية والاقتصاديّة. واللافت في النظام الداخلي التركي، التأكيد على العلمانيّة كضامن، والسير على خطى ومبادئ أتاتورك، مؤسس الدولة، وان العقل والعلم والتجربة… هم مرشدوا الطريق، وليس “مرشد الجماعة” وشعار “الاسلام هو الحل” كما يرى اخوان مصر.
وبزيارة الموقع الرسمي للحزب الحاكم في مصر، لا نجد النظام الداخلي للحزب مدرجاً كوثيقة، بتفاصيلها لتكون في متناول الباحثين والدارسين والعامّة. ونجد فقط في نافذة “برنامج الحزب” البرنامج الانتخابي فقط. بينما نافذة “العضوية” فارغة. أمّا زاوية “اللائحة” فقد ورد فيها: (حزب الحرية والعدالة هو حزب مدني ذو مرجعية إسلامية، وهو حزب لكل المصريين على اختلاف عقائدهم وأجناسهم ومراكزهم الاجتماعية دون تمييز، ويمارس نشاطه طبقا للدستور المصري ويعمل علي
نهضة الأمة وتحقيق أمال وطموحات الشعب المصري ومنها أهداف ثورة الخامس والعشرين من يناير
٢٠١١ م). في حين نقرأ في نافذة “من نحن” التالي: (ولد حزب “الحرية والعدالة” رسميًّا يوم 6 يونيه 2011م من رحم ثورة 25 يناير، التي فجرها الشعب المصري العظيم، ويسعى إلى تبني مطالبها وتحقيق أهدافها من خلال بناء الإنسان الصالح المحب لوطنه، والعمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس قوية سليمة، بإرادة شعبية حرة بالوسائل الديمقراطية السلمية.
يؤمن الحزب بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؛ مما يحقق العدل في سنِّ القوانين وفي التطبيق وفي الأحكام، مع الإقرار لغير المسلمين بحقهم في التحاكم إلى شرائعهم، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية.
يؤمن الحزب بأن الشورى هي جوهر الديمقراطية، وهي السبيل لتحقيق مصالح الوطن؛ حتى لا يستبد فرد أو فئة بالتصرف في الأمور العامة التي تتأثر بها مصالح الشعب، وأن الديمقراطية ليست مجرد التصويت في الانتخابات، بل هي خلق وثقافة وسلوك، كما هي مجتمع حر فاعل، وهي تعني إرساء دولة القانون، وحرية التعبير، والتنظيم، والحفاظ على حقوق الإنسان.
يؤمن الحزب أن المواطن هو هدف التنمية الأول، وهذا البرنامج يستهدف بناء الإنسان المصري الذي يمتلك مقومات وأدوات التقدم بناء متكاملاً، ولذلك فهو حجر الزاوية، وأداة التغيير، فبصلاح الإنسان يتم الإصلاح، ويؤمن الحزب ببناء الإنسان المصري بناءً متكاملاً روحيًّا وثقافيًّا وعقليًّا وبدنيًّا بما يحفظ عليه هويته وانتماءه.
يسعى الحزب إلى كفالة حقوق المواطن كافة، وخاصة حق المواطن في الحياة، والصحة، والعمل، والتعليم، والسكن، وحرية الرأي، والاعتقاد، والعبادة.
ويعتبر الحزب أن الأمة مصدر السلطات، والشعب صاحب الحق الأصيل في اختيار حاكمه ونوابه والبرنامج الذي يعبِّر عن طموحاته وأشواقه، كما هو صاحب الحق في المحاسبة والمساءلة وعزل الحكومات والحكام بالوسائل السلمية.
يسعى الحزب إلى نشر وتعميق الأخلاق والقيم والمفاهيم الحقيقية لمبادئ الإسلام كمنهج تعامل في حياة الفرد والمجتمع، والعمل على تحقيق دولة المؤسسات التي تعتبر سيادة القانون عنوان الحياة الإنسانية المتحضرة الرشيدة، واستقلال القضاء هو التعبير عن سيادة القانون.
كما يسعى حزب “الحرية والعدالة” إلى النهوض بالمجتمع المصري في المجالات كافة، وتحقيق تنمية اقتصادية متوازنة ومستدامة، وتوفير الحياة الكريمة للمواطن، وتأمين الاحتياجات والخدمات الأساسية له (المأكل – الملبس – المسكن الصحة – التعليم – وسائل الانتقال).
وبالمقارنة بين اهداف الحزبين، نجد ان الأوّل يقول عن نفسه بأنه مؤمن بالعقل والعلم والتجربة كمرشد، وان مؤمن بالعلمانيّة وان المبادئ والاسس التي وضعها اتاتورك هي الاساس والاطار العام لسياسات الحزب واهدافه في الوصول الى التطوّر والرقي الحضاري. ولكن، لا تخفي قيادات الحزب، وأبرزهم، رئيس دبلوماسيّتها أحمد داوود اوغلو، بأنهم “عثمانيون جدد”، وانهم يسيرون بخطى وئيدة هادئة نحو اسلمة تركيا وعثمنة المنطقة. رغم النفي الرسمي للحزب أنه حزب اسلامي أو ذو ميول اسلاميّة. بل يشير الى انه حزب محافظ، على شاكلة الاحزاب المسيحيّة الأوروبيّة. ولعلّ أوّل تنافر بين حزب العدالة والتنمية التركي وجماعة الاخوان المسلمين المصريّة كانت على خلفيّة تصريحات ادلى بها اردوغان لأحدى قنوات التلفزة، دعا فيها المصريين الى اعتماد دستور علماني، على خلفيّة الازمة التي عصفت بمصر نتيجة دستور جماعة الاخوان المسلمين، ما أثار غضب الاخوان والسلفيين، معتبرين ذلك تدخّلاً في الشؤون المصريّة!. ثم تكرر غضب الاخوان على تصريحات اردوغان اثناء زيارته لمصر وخطابه في جامعة القاهرة، ودعوته الى العلمانيّة.
الدولة الخفيّة الاسلاميّة
أوّل من استخدم تعبير “الدولة العميقة” في تركيا هو رجب طيب اردوغان، في اشارة منه الى شبكة من المؤسسات السياسيّة والعسكريّة والمدنيّة والاقتصاديّة والاعلاميّة والتربويّة…، في يدها صنع القرار الفصل في تركيا. هذه الشبكة، هي بمثابة دولة داخل دولة. ولها جذورها التي تمتد الى الحقبة العثمانيّة، وكانت تسمّى وقتئذ بـ”تشكيلاتي مخصوص”، وصارت تسمّى الآن بالدولة العميقة او الدولة الظلّ او الدولة الخفيّة. وحين استتبّت الاوضاع في كل مفاصل الدولة لأردوغان، بدأ الاسلاميون، حربهم على “الدولة الخفيّة” التابعة للعلمانيين، وإحلال “دولتهم الخفيّة” الاسلاميّة مكانها. وذلك، عبر محاصرة وتضييق الخناق على مركز القوى التقليديّة في الدولة، برفع الدعوى على كل الجنرالات والسياسيين والاعلاميين ورجال الاعمال واساتذة الجامعات، المتورّطين او المشتبه بهم في مخططات انقلاب على حكومة العدالة والتنمية. ثم توسيع دائرة هذه الملاحقات لتطال الجنرالات الضالعين في الانقلاب الابيض الذي استهدف “الخوجة – الاستاذ” نجم الدين اربكان سنة 1997. وصولاً لمحاكمة قادة انقلاب ايلول سنة 1980.
في مصر أيضاً، بدأ الاعلام الاخواني والسلفي، والكتّاب والصحافيين المصريين الاسلاميين، يستخدمون تعبير “الدولة العميقة” أو “الدولة الخفيّة” في احدايثهم وتصريحاتهم وكتاباتهم، في اشارة منهم الى معارضيهم الذين يمانعون سياسات الاخوان، على انهم ضدّ الاسلام، وانهم من فلول النظام السابق، وانهم على علاقة بأمريكا واسرائيل والمشروع “الصهيو-امريكي”. ومن ذلك ما كتبه الكاتب الاسلامي المصري فهمي هويدي، (المقرّب من الاخوان)، يوم 10/04/2013 في جريدة “الشروق” المصريّة تحت عنوان: “رسالة من الدولة العميقة”. في تأكيد منه على وجود دولة عميقة في مصر، لها نفوذها داخل مؤسسات الدولة، وبخاصّة مؤسسة الرئاسة، تحاول النيل من حكم الاسلاميين، وتنوي شرّاً بالبلاد، ويجب الحذر والتحوّط منها، وبل مكافحتها. هكذا رأي، من كاتب اسلامي، (لطالما مدح حكم حزب العدالة والتنمية التركي)، يشي بإن الاسلاميين المصريين ينوون استيراد سيناريو “مكافحة الدولة العميقة” التركي، لتطبيقه في مصر. وربما الأيّام القادمة كفيلة بتأكيد او تفنيد ذلك.
التشابه والتباين..15 فرقا:
قياساً على ما سلف، يمكن العثور على نقاط التلاقي والتباين التالية بين اسلاميي تركيا ومصر.
1 ـ رغم ان الاسلام السياسي تأسس في تركيا بعد مرور أربعة عقود ونيّف من انطلاقته في مصر، إلاّ ان الاسلاميين في تركيا، شاركوا الحكم، بشكل مباشر، منتصف السبعينات، ومنتصف التسعينات. وصاروا يحكمون تركيا منفردين منذ سنة 2002. بينما اسلاميو مصر، كانوا المعارضة، منذ تأسيس جماعة الاخوان المسلمين، وحتّى قبل انتخاب محمد مرسي رئيساً للجمهوريّة.
2 ـ اسلاميو تركيا، ورغم الضغوط التي طالتهم، إلاّ انهم لم ينزلقوا الى ممارسة العنف ضدّ الدولة والنظام باستثنار تجربة حزب الله التركي. وهو تنظيم متطرّف اسسته الاستخبارات التركيّة مطلع التسعينات، لمواجهة حزب العمال الكردستاني. وفي نهاية التسعينات، قامت الدولة بتصفية واعتقال قياداته. ومع استلام العدالة والتنمية للحكم والاصلاحات القانونيّة التي اجرتها الحكومة، اطلقت السلطات التركيّة صراح الالاف من عناصر الحزب الذي تعرّض للانشقاق، وانضم أحد الاجنحة المنشقّة منه الى حزب العدالة والتنمية وجناح آخر بقي ينشط بشكل شبه علني حتّى الآن تحت اسم حزب الله التركي. وهو حزب سنّي، يتخذ من تجربة الخميني منهجاً له. بينما اسلاميو مصر فقد لجأوا لاستخدام العنف ضدّ الدولة وضدّ المعارضين لهم، قبل وبعد استلامهم الحكم.
3 ـ حكومة اردوغان، دخلت في مواجهة مع الجيش والمحكمة الدستوريّة، بعد وصولها للحكم، بست سنوات. بينما دخل اسلاميو مصر في صراع مباشر ومكشوف مع القضاء والجيش والمؤسسة العسكريّة والمجتمع، فور وصول مرسي لرئاسة الجمهوريّة.
4 ـ اسلاميو تركيا، ارسلوا كوادرهم الى مؤسسة الجيش والامن والبوليس والقضاء…، تمهيداً لايصالهم لمناصب عليا، فيما يشبه التحضير المبرمج والطويل الأمد. بينما لا يوجد، أقلّه حتّى الآن، بين مؤسسة الجيش والامن المصريّة، موالين لجماعة الاخوان المسلمين.
5 ـ اسلاميو مصر، يمتلكون شبكة من المؤسسات الاقتصاديّة والاعلاميّة، إلاّ انها لا تصل لقوّة ما يمتلكه اسلاميو تركيا من اقتصاد واعلام.
6 ـ اسلاميو تركيا، اكثر مرونة، وبراغماتيّة، بينما اسلاميو مصر، اكثر دوغمائيّة وتزّمتاً من اسلاميي تركيا.
7 ـ اسلاميو تركيا، اصحاب طموحات، قوميّة اسلاميّة، نيوعثمانيّة، ويمتلكون شبكة علاقات إقليميّة ودوليّة، وتربطهم علاقات اقتصاديّة وتحالفات عسكريّة مع قوى اقليميّة (اسرائيل) ودوليّة (اميركا، روسيا، الصين، الاتحاد الاوروبي). بينما تقتصر طموحات اسلاميي مصر على اسلمة مصر وحسب، مهما كانت الاكلاف.
8 ـ الجانب القومي لاسلاميي تركيا شديد البروز، والمصالح القوميّة تأتي في رأس سلّم الاولويّات، بحيث يمكن ان يتحالف الاسلاميون مع العلمانيين ضدّ المسألة الكرديّة او الارمنيّة او القبرصيّة…، كما نجد ان الاسلاميين الاتراك يسعون الى تنشيط واستثمار الورقة القوميّة التركمانيّة في العراق وسورية خدمةً لمصالح تركيا. وهذا ما أكّده الخبير في الشؤون التركيّة د. محمد نورالدين في مقاله المنشور بجريدة “السفير” اللبنانيّة يوم 17/12/2012 حيث قال: “تعتبر الأقليات التركمانية في العراق وسوريا ولبنان من الأوراق التي تحاول تركيا دائما استخدامها في سياساتها الخارجية، ليس مع حزب العدالة والتنمية فقط بل في العقود السابقة”. وأضاف: “وإذا كان وضع التركمان في العراق الأبرز في مراحل سابقة وارتباطه بالوضع في منطقة كركوك، فإن اندلاع الحرب في سوريا اظهر الورقة التركمانية التي انعكست في تشكيل كتائب خاصة بالتركمان وإطلاق تسميات عثمانية عليها”، في اشارة منه الى مؤتمر تركمان سورية المنعقد في 15/12/2012 باسطنبول، وحضره وزير الخارجيّة التركي احمد داوود اوغلو وارشاد هورموزلو (تركماني عراقي) كبير مستشاري الرئيس التركي عبدالله غول.
بينما نجد اسلاميي مصر، قسّموا مصر بين “نحن وهم” مؤمنين وكفرة / (ثوّار) وفلول النظام البائد!.
9 – تركتب حكومة اردوغان كل الانتهاكات والموبقات فيما يخصّ حريّة التعبير وتقويض الاعلام ومحاصرته، عبر القوانين، وليس كما يسعى اسلاميو مصر، عبر الترهيب والتهديد والحرق والكسر والاغتيال. حيث نقلت وكالة رويترز في تقرير لها أعدّه جوناثان بريتش يوم 19/12/2012 من انقرة عن منظمة “صحافيون بلا حدود” وصف الاخيرة لتركيا بأنها “أكبر سجن للصحافيين في العالم”.
10 – اسلاميو تركيا يجيدون فنون التغلغل في المعارضات الاسلاميّة الاقليميّة، وخاصّة السنيّة، بحيث يمكن القول: ان ولاء الاخوان المسلمين في سورية والعراق هو لأنقرة وليس للقاهرة وهي تحت حكم الاخوان، الذين من المفترض ان يكونوا المرجعيّة العربيّة للاخوان المسلمين في العالم. فالاخوان المسلمون الحاكمون في تركيا، نجحوا في السيطرة على نظام الاسد في سورية قبل الثورة السوريّة، وهم الآن يسيطرون على الثورة والمعارضة السوريّة ايضاً. بل قطعوا اشواطاً كبيرة في مسعى اخونة الثورة السورية، على الطريقة التركيّة. بخلاف اسلاميي مصر الذين لا زالوا يفتقرون لثقافة وتجربة ادارة الدولة. زد على ذلك، ان السمعة التي استحصل عليها اسلاميو تركيا لجهة الاعتدال والوسطيّة والانسجام مع العلمانيّة والدولة المدنيّة، التفها اسلاميو مصر برعونتهم وتشجنهم وتصادمهم مع الدولة والمجتمع.
11 – لم يضع اسلاميو تركيا، معاداة اسرائيل نصب اعينهم، وصولاً لقطع العلاقات معها، حين وصلوا للحكم، بالرغم من التحرّش الاعلامي لأنقرة بتل أبيب بعد الحرب الاسرائيليّة على غزّة!. بينما اسلاميو مصر، لا يخفون نواياهم، لجهة اعادة ترتيب علاقات مصر الدوليّة والاقليميّة، بما ينسجم والاجندة الآيديولوجيّة، وليس المصالح الوطنيّة. ومنها، اعادة النظر في اتفاقيّة كامب ديفيد، وربما الغاءها.
12 ـ اسلاميو تركيا ومصر، يشتركون في وجود الاجندة الخفيّة لديهم، ويختلفون في الأدوات والاساليب التي يستخدمونها لفرض هذه الاجندة، التي ترمي إلى إعادة انتاج الدولة وفق شعار “الاسلام هو الحل”.
13 ـ رغم الانقلابات العسكريّة التي شهدتها تركيا (1960/ 1971/ 1980 /1997)، إلاّ ان الاسلام السياسي التركي، نما في مناخات شبه ديموقراطيّة خلافاً لما كانت شهدته مصر، طيلة حكم العسكر. ما عزز لدى الاسلاميين الاتراك الميول المدنيّة، بدلاً من المواجهة الفجّة، وتحريك الشارع، كما فعل اخوان مصر، بخاصّة بعد ثورة 25 يناير ووصول مرسي للرئاسة واعلانه الدرستوري وارتجاجات هذا الاعلان وما نجم عنه من ردود افعال عنيفة، مؤيدة ومعارضة له. ذلك ان اسلاميي تركيا كانوا قادرين على تحريك الملايين، حين كان يهددهم خطر العلمانيين، عبر الدعوة المرفوعة بحقّ حزب العدالة والتنمية امام المحكمة الدستوريّة. إلاّ انهم لم يفعلوا ذلك، ولم يدخلوا الدولة في ازمة خانقة، مرجّحين المصلحة القوميّة والوطنيّة على المصلحة الحزبيّة الآيديولوجيّة.
14 ــ اخوان تركيا لم يأتوا الى السلطة عبر ثورة، ولم يلتفّوا على حلفائهم، كما فعل اخوان مصر، الذين لم ينخرطوا في الثورة على نظام مبارك في أيّامها الأولى، وامتطوا الثورة، ونكثوا بوعودهم وبحلفائهم في الثورة، وانفردوا بالسلطة، عنوةً وتحايلاً. بينما اخوان تركيا، انفردوا بالسلطة عبر مشاريع التنمية الاقتصاديّة التي غطّت على انتهاكات حقوق الانسان والتضييق على حريّة الصحافة والتعبير عن الرأي، كما ذكرنا,
15 ــ لا يوجد في تركيا “مكتب إرشاد” يتحكّم برئيس الحكومة او رئيس الدولة، كما هو حاصل في مصر. فالنسخة الاخوانيّة التركيّة تعطي هامشاً أكبر للرئيسي الدولة والحكومة بحيث لا يكونان “دمية” في يد مكتب الارشاد، كما يجري الحال في مصر.
بين الأقوال والأفعال لدى إخوان مصر:
ما هو مفروغ منه، ان اخوان مصر، كشفوا عن نواياهم واجندتهم، في وقت جد مبكّر. وكلّ كلامهم عن الدولة المدنيّة والديمقراطيّة ودولة الحقوق والمؤسسات، كان لزوم الاستهلاك المحلّي. ما يعني، انهم لم يتحلّوا بحنكة ودهاء ولؤم الاخوان المسلمين الاتراك، وكيف انهم استحوذوا على الدولة وكل سلطاتها، خلال مسيرة عمل، لأكثر من عقد (2002 – 2013) شهدت بذل الكثير من الجهد والكد والعمل، والتنمية الاقتصاديّة، والدور السياسي الوازن، وامور كثيرة اقنعوا بها الشعب التركي، الى درجة كبيرة، بالاضافة الى اقناعهم للمنطقة وشعوبها. فإلى جانت الشعارات البرّاقة التي كانت في مجملها للاستهلاك المحلّي – التركي والخارجي، بخاصّة منه العربي والاسلامي، إلا ان عجلة التنمية والنهضة الاقتصاديّة لتركيا، كانت على زمن الاخوان المسلمين الاتراك، بحيث اصبح الاقتصاد التركي الاسرع نموّاً في اوروبا سنة 2011، بنسبة 8,5 بالمئة، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي سنة 2012. وتوقّع الصندوق ان اقتصاد تركيا سيكون الثاني بعد الصين، سنة 2013. وبالتالي، كل انتهاكات حقوق الانسان والتضييق على الحريّات العامّة وابتلاع الدولة ومؤسستها، التي لم تحرّك في الاتراك ساكناً، بفضل ارتفاع مؤشّرات التنمية الاقتصاديّة. وبالتالي، كل الحصاد السياسي والقانوني للاسلاميين في تركيا، أتى بطريقة جد ناعمة وسلسة وطويلة الامد نسبيّاً. بينما اخوان مصر، ادخلوا الدولة والشعب والمجتمع والسلطة والقضاء، في معمعة معركة، بهدف حصد المزيد من الخنادق والامتيازات، بشكل عاجل، من دون الأخذ في الحسبان، ان الدولة المصريّة، وفلول النظام العسكري _ الأمني، الاقتصادي السابق، في (الجيش + المحكمة الدستوريّة + المخابرات المصريّة + رجال الاعمال من بقايا الحزب الوطني…) لم يبلغوا من الضعف والهشاشة التي تجعلهم يستسلمون أمام معركة الاخوان المسلمين. ذلك ان رحيل الديكتاتور، لا يعني البتّة، زوال الدكتاتوريّة!. زد على ذلك ان ازدياد حجم المعارضة الاجتماعيّة السياسيّة لحكم الاخوان، وان المجتمع المصري الذي اطاح بدكتاتوريّة مبارك، من الصعب ان يقبل بدكتاتوريّة جديدة تحكمه، حتّى لو كانت باسم الدين.
ختاما إن رعونة الاخوان المسلمين في مصر، أو جشعهم وشراهتهم في الاستحواذ على المزيد من الدولة والسلطة، وربما “نشوة النصر”، قد تدفعهم لخسارة ما ربحوه من مكاسب. وبالتالي، قد يتسببون في الإطاحة بأنفسهم، وإعادة النظام السابق أو ما يشبهه للحكم، من حيث لا يحتسبون!. ولئن السلطة هي مفسدة الآيديولوجيا، فأن بريق المظلومة والتقى والورع والدعة… التي كان الاخوان المسلمون يحيطون انفسهم بها خلال العقود الماضية، يبدو انه موشك على الزوال. وربما ان الخطوة الأولى والخطيرة للوراء، لما يقال عن “الصحوة الاسلاميّة” و”المشروع الاخواني الاسلامي” ستكون في مصر، بعميّة نهم وشراهة الاخوان للسلطة. وحينئذ، لن تنفع كل محاولات الـ”برويستوريكا” التي يمكن ان تظهر لاحقاً لانقاء هذا المشروع وإعادة بناءه، لأن الزمن سيكون قد تجاوزه، كما تجاوز المشروع الآيديولوجي السياري.
مراجع:
1 ــ الموقع الرسمي لحزب العدالة والتنمية التركي على شبكة الانترنت
http://www.akparti.org.tr/arabic/
الموقع الرسمي لحزب الحريّة والعدالة المصري على شبكة الانترنت
http://www.hurryh.com/Default.aspx
دستور مصر القادم إشكاليات عالقة وخلافات د. أيمن سلامة / معهد العربية للدراسات
http://www.alarabiya.net/ar/arabic-studies/2012/10/16/دستور-مصر-القادم-إشكاليات-عالقة-وخلافات.html
الموقع الرسمي للرئيس المصري محمد مرسي
http://www.ikhwanonline.com/new/president3/Article.aspxArtID=131172&SecID=0
قصة مرسي والقضاء… محطة النائب العام. هاني نسيرة. (معهد العربية للدراسات) جزء من دراسة المؤتلف والمختلف في الثورات العربية، أزمات القضاء والإعلام – الجزء الثاني.
http://www.alarabiya.net/ar/arabic-studies/2013/03/27/قصة-مرسي-والقضاء-محطة-النائب-العام-.html
وكالة رويترز للانباء
http://ara.reuters.com/article/entertainmentNews/idARACAE8BI09H20121219
معهد العربية للدراسات –
العربية نت