درجت على عيادة كل من يقصد ألمانيا مستشفياً ممن أعرف، لذلك جاءت زيارتي للأخ “علي عثمان محمد طه” النائب الأول لرئيس الجمهورية بمبادرة مني، على الرغم من شعوري المبدئي بالتكتم على أخبار الزيارة.
الوضع السياسي الذي يعيشه بلدنا، وما تعلمون من سابق العلاقة بيني والأخ “علي عثمان محمد طه” والتي كان متنها وعصب لحمتها الشأن العام الذي جمعنا لعقود ثم فرق بيننا، علاوة على اطمئناني على صحته وصحة أسرته المرافقة له، كل ذلك حتم أن يدور بيننا حوار حول الشأن العام كنت فيه المبادر.
وليعذرني الجميع، فلست أرى من المسؤولية أن تختصر هذه الزيارة في الأطر الاجتماعية، بل أحسب أن ذلك بنظري سيكون تهرباً من واقع حال البلاد. فربما زار النائب الأول هذه الديار عدة مرات لمهام رسمية ولم يكن هناك ما يدعوني لأي لقاء به.
كما تتوقعون في مثل هذه الظروف، فقد سار الحوار عفوياً وبدون ترتيب للقضايا.. بالعموم تدارسنا أخذ العبر والدروس من ما مضى من أحداث لمعالجة ما نستقبل. وبالتأكيد حظيت بعض القضايا بتفصيل أكثر لأهميتها كالحريات وانفصال الجنوب ومآلات العلاقة به، ولقاء كمبالا. وسوف أجتهد في تبيان من منا ابتدر أية قضية ومواقفنا منها قدر استطاعتي.
في سياق العلاقة السابقة التي ربطتنا، سألني الأخ “علي عثمان” عن موقف المؤتمر الشعبي بالذات، فأكدت له على أنني لا أمثل الشعبي في هذه المبادرة التي أباشرها بصفتي الشخصية، وأوضحت له بأن الشعبي كما يعلم هو واجه تضييقاً خاصاً- فوق التضييق العام الذي يواجهه الآخرون- على حرية شخصيته الاعتبارية كحزب، كما واجه أفراده تضييقاً خاصاً على ظروف معاشهم وحرياتهم الشخصية، ودفع بعضهم ثمن المواقف في الشأن العام من حياته وحريته الخاصة، وأن هذه الأجواء بالضرورة خلقت مرارات مبررة ربما تيسر لي بصفة شخصية التجاوز عنها لأسباب ذاتية وموضوعية قد لا تتوفر لدى من هم بالداخل، لذلك فإنني لا أستغرب إن واجه بعض إخواني بالداخل مبادرتي هذه بالتشكك أو التعرض لشخصي بالهجوم- وهم محقون في ذلك ولهم مبرراتهم ولكنني أتجاوز المرارات الشخصية في إطار الشأن العام الذي وقعت فيه. وفي إطار الحرية لكل الشعب السوداني وإطار حفظ ما تبقي من كيان السودان، وإطار إيقاف الحرب من قبل الحكومة والسير نحو السلام بصدق مع كل المعارضين بمن فيهم حملة السلاح، ودرءاً لمآلات مستقبلية تهدد هذا الكيان.
اللقاء اتسم بالصراحة والوضوح، أكد عليهما اختلافنا حول بعض القضايا بصورة جذرية، وحول بعضها الآخر بصورة جزئية، وإن اتفقنا على مبادئها العامة.
خلاصة اللقاء كانت وضع مقترح أجندة سياسية ذات أولوية تتناسب مع الأوضاع الراهنة بالسودان، الهدف منها وضع حلول سلمية يتفق عليها الجميع عبر حوار مفتوح يضع نهاية للحلول العسكرية والأمنية، ويفتح أفق الانتقال نحو الحلول السلمية الجادة، وليست أجندة مصالحات أو محاصصات أو صفقات.
عند الاتفاق على هذه الأجندة من قبل الحكومة والمعارضة، يتم الاتفاق على آليات إدارة الحوار السياسي بشفافية وحرية كاملة وبضوابط وإجرائيات ومواقيت زمانية ومكانية يتفق عليها الطرفان مباشرة وبدون وسطاء.
لا صلة لهذه الأجندة بما يدور الآن من حوار حول الدستور أو الحوار الوطني، وقد أبنت بأنني أدعو إلى حوار سياسي واسع وجامع ليتفق الجميع على حفظ ما تبقى من كيان، ثم من بعد ذلك يمكن الحديث عن الدستور، علماً بأن الدساتير لا قيمة لها في بلادنا وتجاربنا المعاصرة… الخ.
طلبت من الأخ النائب الأول رفع ما دار من حوار إلى السيد الرئيس.. (بالطبع هو سيقوم بذلك ولكن قصدت التأكيد).
كما أكدت له نقل هذه الخلاصات بصفتي الشخصية- إلى المعارضة بمن فيهم حملة السلاح.
بالطبع، هذا لا ينال من دور وبرنامج وخطط المعارضة بأي حال من الأحوال.
} القضايا:
الحريات العامة:
طرحت رؤيتي بأن الأوضاع في السودانية تقتضي تضافراً جماعياً لإنقاذ ما تبقى من كيان البلد، غير أن هذا التضافر يستلزم توفر الحريات العامة التي تمكن الناس من الإسهام الفاعل، وبالطبع فإن مسؤولية المبادرة إلى توفير أجواء الحرية تقع على عاتق السلطة، وأكدت على أن مثل هذه المبادرة من السلطة قد تنزع فتيل التوتر، وتخفف من حدة الاستقطاب على النحو الذي قد يفسح المجال للأطراف المعارضة لترد على مبادرة السلطة بمثلها أو أحسن منها. لا بد من أن أثبت في هذا المجال تحفظ الأخ “علي عثمان” على مدى الحرية وإن وافقني على المبدأ.
} الشكوك
هناك شكوك مبررة من قبل الكاتب قبل المعارضة في مدى التزام الحكومة بما يتم الاتفاق عليه، والشواهد والسوابق كثيرة، والمعارضون بشقيهم لهم تجارب مع الحكومة. وفي هذا السياق فقد كانت كلماتي للأخ النائب الأول على قدر كبير من الصراحة والوضوح، بأن انعدام الثقة يبلغ مبلغاً يجعل ما يخرج من لقائنا نفسه عرضة للشك بشأن نواياه. ولكن الشك والريبة لم تأت من فراغ، بل حصاد تجارب متعاقبة تكاد تصيب الناس بالقنوط واليأس عن جدوى القيام بمبادرات طرفها السلطة الحالية، ولولا أن المؤمن مدعو إلى عدم القنوط من رحمة ربه، لما هممت بالتحدث إليكم في هذه القضايا وبهذه الصراحة.
هذه قضية جوهرية، وعلى الحكومة اتخاذ الإجراءات الكفيلة لا بكسب ثقة المعارضين وحسب، بل وثقة الشعب أيضاً.
} لقاء كمبالا وما تبقي من السودان
لقاء القوى السياسية السلمية والمسلحة في كمبالا، والذي استحوذ على اهتمام الرأي العام السوداني والإقليمي، كان حاضراً من خلال استفسار الأخ “علي عثمان” بشأنه، وقد حرصت على أن أؤكد على المعاني التالية بشأن هذا اللقاء:
– أن ظرفاً خاصاً هو ما منعني من حضور ذلك الائتمار، وأنني على الرغم من تحفظاتي المشروعة على الوثيقة الصادرة عنه، مثلي مثل آخرين عبروا عن هذا الاختلاف، إلا أنني أراه ائتماراً محموداً في إطار مساعي القوى المعارضة لمعالجة أوضاع بلدها.
– أن غياب الحرية في البلد هو الذي حتم مكان اللقاء، ولفت انتباه الأخ “علي” إلى أن غالب حاملي السلاح الذين شاركوا في هذا اللقاء كانوا يوماً ما وبدرجة ما شركاء في الحكم وحلفاء للسلطة، ولكن التضييق في الحريات هو الذي دفعهم إلى الخروج ابتداءً أو معاودة الخروج بعد أن جنحوا للسلم.
– أن رد فعل السلطة على الإعلان الصادر عن اللقاء وتعاملها مع بعض السياسيين الذين شاركوا في اللقاء من الداخل، قد جاء مصدقاً لمخاوف هذه القوى التي عبرت عنها في الوثيقة، ومؤكداً على عمق أزمة الحريات في البلد.
– أن العديدين من المشاركين في اللقاء دفعهم غياب الحرية في بلدهم إلى اختيار منافٍ ربما تبعد جغرافياً عن بلدهم، ولكن مناخ الحريات الذي يعيشونه فيها يقربهم أكثر من قضايا بلدهم ويحفزهم على الاتصال اليومي بذويهم الذين يعيشون أوضاعاً مأسوية في معسكرات نزوح أو تحت غياب الحريات، هذا فضلاً عن من فقدوا ذويهم أو أهينت إنسانيتهم، وقد شكل لهم لقاء كمبالا بارقة أمل عساها تخرج أهاليهم وذويهم من ما هم فيه. وقد أشرت على النائب الأول إلى ضرورة عدم الاستهانة بالمرارات الشخصية المشروعة التي يحسها هؤلاء بسبب ما يعتبرونه سياسة رسمية متعمدة من الحكومة.
– لقد استغربت ألا ترى السلطة رمزية لقاء كمبالا الذي شكل بالنسبة لي تكويناً رمزياً للسودان المتبقي، وأن تداعي هذه الأطراف إليه يعبر عن تعاظم الإحساس بضرورة المسعى من أجل الحفاظ على هذا الكيان المتبقي، وقد كان المأمول أن تنفذ السلطة ببصيرتها إلى رؤية هذه الرمزية، ولا بأس أن تعبر مثل الآخرين عن اختلافها مع محتوى وثيقة كمبالا دون أن يغيب عنها نبل المسعى فتقابله بما يستحق من تقدير.
} العلاقة بالجنوب:
لدى الحديث عن العلاقة بالجنوب فلا يمكنني طلب شهادة شخص آخر بخلاف الأخ “علي عثمان” نفسه والرئيس “عمر البشير” على صحة الرأي الذي طالما جهرت به سابقاً- في إطار قضية السلام في الجنوب- بأن الحلول العسكرية والأمنية والقمعية لا تؤدي إلا إلى المزيد من الأزمات والمرارات وتنتهي إلى مزيد من التقسيم ومزيد من الحروب- والتقسيم لا حدود له والجنوب خير شاهد على فشل الحلول العسكرية منذ قبل الاستقلال ونهاية بالإنقاذ.
موقفي هذا ليس بجديد وما حدث للجنوب زاد من إيماني الراسخ بالسلام ويجب ألا نعود لمعالجة قضايا مصيرية مثل الحرب والسلام في أطر حكومية ضيقة، إذ لابد من إشراك حقيقي وشفاف لشعب ما تبقى من السودان في هذا الأمر، وهذا لا يتم إلا عبر بوابة الحريات الواسعة. وعموماً ما يتوصل إليه السودانيون طوعاً مهما كان ثمنه أفضل من ما قد يفرض عليهم.
إن الاعتبار بما تقدم وحقائق الجغرافيا والتاريخ المشترك لشعبي البلدين، يستلزم منا السعي الجاد والحثيث إلى جعل العلاقة بالجنوب علاقة توأمة بين بلدين، كانا حتى وقت قريب بلداً واحداً.
مرة أخرى أكرر.. هذا اجتهاد شخصي، إن أصاب فذلك الفضل من الله، وإن أخطأ أسأله تعالى المغفرة..
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
والأمر إليكم
د. علي الحاج محمد
إلى:
قوى المعارضة السودانية والحركات المسلحة
بصورة إلى:
السيد رئيس الجمهورية
السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية
صحيفة المجهر السياسي