– إنتو كمان يا ناس العوض جيتوا هنا تزاحمونا؟
فكان رده أن أرداه قتيلاً.
فمنذ أن أطلقت تلك الفرقة الكوميدية مزحتها الاجتماعية البريئة «أهل العوض» حتى سرت في أوصال مجتمعنا سريان النار في الهشيم تعري تلك القشرة الهشة لتسامحنا واحتمالنا لبعضنا البعض. لقد قرأت ما نشرته الصحف من أخبار من أن شخصاً بقر بطن آخر لأنه وصفه من «أهل العوض» وقد قرأت في جريدة «الدار» أن شخصاً تفوه بهذه الجملة فدخل القوم في عراك انتهى بموت أحدهم من طعنة بنصل حاد اخترق مقتلاً.
ترى كيف تحولت تلك المزحة البريئة الى عار لا تمحوه الإ الدماء. وظهر للعوض أهل أشاوس يذودون عنه بسكاكينهم الحادة التي تحسم كل حوار. ترى كيف تحولت اللغة وحملت مفرداتها ناراً تحرق الأرض بين الناس. لقد أصبح لفظ «أهل العوض» مرادفاً للاستهزاء والاحتقار والناس جبلوا على تحمل أي شيء إلا «الحقارة».
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يُراق على جوانبه الدم
والشرف الرفيع اليوم يتعرض لأذىً شنيع يخدشه من جميع الجهات يسمى «أهل العوض».
هل يستطيع أحد اليوم أن يرسم الخط الفاصل بين مزاج أهل الحضر ومزاج أهل الريف؟ إن الريف الذي تصدعت بنيته وانهار كيانه انتشر وسط الكيانات الحضرية يحمل معه قيمه وفرحه وغضبه وكل ما يستدعي الدفاع عنه. فإذا بضحكات أهل الحضر في موضوع مثل «أهل العوض» لا تتناثر في الجو كمزح أو ضحكات بريئة، بل تعني شيئاً مختلفاً عند أهل الريف، وفجأة يسقط ذلك القناع الذي يرتديه المجتمع ويتلاشى ذلك الوهم في أمة متجانسة ذات مزاج موحد تسلي نفسها بتناقضاتها الاجتماعية وتخرج من تحت «العراريق» والجلاليب أسلحة بيضاء تقتل تلك الضحكات في الحلاقيم التي انطلقت منها. ومن سخرية القدر أن الذين أطلقوا تلك المزحة «أهل العوض» هم أنفسهم جاءوا من بيئة «أهل العوض» ولكن ذلك لم يشفع لهم.
لقد تحمَّل الصعايدة كل ما يقال عنهم من نكات ومزح وطرائف، وحولوا كل ذلك الى مزاج شعبي متسامح. وتحمل «الزهارنة» في السعودية ما يطلق عليهم من نكات أيضاً دون أن يحولوا ذلك الى غضبة مضرية لا تغسل إلا بالدماء. ولكن القوم هنا لهم رأي آخر ومزاج آخر، ونحتاج الى علماء اجتماع لدراسة هذه الظاهرة التي راح ويروح ضحيتها من وقت لآخر أشخاص نقرأ أخبارهم على صفحات الصحف. أين يقف الضحك ليتحول إلى بكاء؟ وأين تقف الكوميديا لتتحول إلى تراجيديا؟ ومتى تتحول الملهاة الى مأساة؟ أحدهم ترجم «التراجيكوميديا» الى «ملساء» خليط بين الملهاة والمأساء. والذي يحدث اليوم هو نوع من ذلك الفعل الدرامي. وإلى أن تكتمل الدراسة نرجو أن يتوقف الناس عن استعمال ذلك اللفظ القاتل «أهل العوض»، فهناك نصل في مكان ما يدافع عنه بشراسة.
وقد أوردت في رواية لي بعنوان «مشلهت والضياع الكبير» نصاً قلت فيه:
موظف الاستقبال في المستشفى الذى استلم الأرانيك المرضية أشار إلى الشرطيين المرافقين أن يأخذا مساجينهما إلى حيث يجلس طابور طويل من البشر جلس مشلهت بالقرب من الشخص الذى يحمل القيد على يديه ورجليه. منظره يدل على أنه إنسان مغلوب على أمره.. يضع طاقية على رأسه.. مستسلم كنواة تمر.. يحاول أن يخفي القيد الذى على رجليه تحت جلبابه.. نظرات غريبة تهبط عليه من الذين اكتظت بهم ردهة المستشفى.. بعضها شامت وبعضها مشفق.. وبعضهم مزهو بأنهم أحسن حالاً من ذلك الرجل.. تعثرت امرأة على رجل المسجون.. فقالت:
معليش يا ولدي.. ما شفتك.
ثم انتبهت إلى القيد علي يديه بعد أن حاول هو أن يساعدها على النهوض من كبوتها فقالت:
الله يفك كربتك يا ولدى.
فأجابها:
٭ يفك كربتنا كلنا يا حاجة.
وكأنما اشعلت هذه الكلمات فى الجميع موجة الطاقة الخفية فسرت همهمات تؤمن على ما قاله.. يا حلال الكرب.. يا فراج يا سريع النهمة من الضيق والزحمة.
مشلهت الذى كان يحاور المسجون منذ أن نقل معه الى المستشفى من مركز الشرطة شعر أنه ينتمي الى كربة ذلك الرجل فقال له:
كلنا معاك يا اخوى كربتنا واحدة.. الله يحلها.
استغرب الرجل فقال متسائلاً:
إنت كمان كتلت زول؟
لا.. أبداً.
طيب كربتك بسيطة..أنا كتلت زول.. وهسع في رقبتي روح زول
مالك؟ الحكاية شنو؟
تقول شنو.. أنا ذاتي ما عارف اتصرفت كده ليه غايتو نقول قدر مكتوب.. الله يلعنك يا الشيطان
الله يلعنك يا الشيطان دى كان تقولها قبال ما تكتل الزول.
لكين بعد ما كتلتو تجي تلعن الشيطان والشيطان أصلو ملعون.. ويصمت الرجل ثم يتأوه
أووف حاجة كده زى الحلم .. زول لا بعرفو لا بعرفني لا بيني لا بينو لاقانى نازل من البص عترت فيهو ساكت زى عترة المرة دى هسع فيني.. وقبال ما أقول ليهو «سورى» ومعليش.. قال لي:
إنت عميان ؟ العمى اليقلع عينيك.. ناس حمير
الحقيقة الكلام ده خلاني أعمى وأطرش ما شعرت ليك إلا وأنا بطلع سكيني من ضراعي وبدى ليك طعنة واحدة فى رقبتو أصلو ما تنيتها فد سجة والزول وقع وفرفر وفرفر زى الجدادة .. ما تقول داك الزول المنفوخ زى القربة وأنا أهو رحت فى الحديد.. أنا ذاتي ما عارف الركبني البص الشوم داك شنو؟ أولاً من البص ما اتحرك ستين شكلة ونبذ وشتايم.. وناس روحها محرقاها.
ويسأله مشلهت بعد أن شعر بأن مشكلته مشابهة لمشكلة الرجل.. فكلاهما قد وجد نفسه تحركه أحداث هو لم يخطط لها.
وإنتو أهلكم من وين؟
من الجزيرة.. حتة ما بعيدة من المحيريبة.. وحالتو أنا جاي نازل من البص بفتش لعليش ود عمي عشان أديهو قروش يوديها للجماعة هناك فى الحلة.. لكين تقول شنو حصل الحصل وبعد ده قالوا مرحلننا لكوبر عشان جرايم الكتل هناك.
عالم فعلاً روحها محرقاها.
صحيفة الإنتباهة