وإذا رأيت في غيرك جمالاً فاعلم أن داخلك جميل.
وإذا حافظت على الأخوة فاعلم أن لك على منابر النور زميلاً.
وإذا راعيت معروف غيرك فاعلم أنك للوفاء خليل.
وهذه الأقوال التي تجري على ألسنة النَّاس ليست إلا حصيلة تجارب، وثمرة علاقات إنسانية، انبثقت عنها مبادئ وترتبت عليها خصائص، وهي التي تميز الأفراد في سلوكهم، والجماعات في توجهاتهم، وغير ذلك من نواحٍ هي بمثابة آليات للفحص والاختبار للإنسان، كما يجري اختبار المعادن لمعرفة درجة أصلها وجودتها.
فالرجل أو المرأة اللذان يعملان للآخرين، قضاءً للحاجات، ووضعاً لقيم الأخلاق والمثل معياراً للتعامل، يتمتعان بأصالة الطباع، ونقاء السريرة، وحب الخير بعيداً عن خصائص الانكفاء على الذات، أو الاتصاف بصفات الأنانية المقيتة، اللتين لا تجعلان الفرد يحس بهموم النَّاس، باعتبار أن الجميع تتكافأ واجباتهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وما أجمل قول أبي العلاء المعري:
ولو أني حبيت الخلد فراداً لما أحببت بالخلد انفراداً
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
والجمال في دواخل الناس، لا يعني بأنه حكر عليهم، وأن ما عداهم لا يعبرون إلا عن القبح والدمامة، ذلك لأن من يشعر بجمال العلاقات ويشيع هذا الإحساس لديه الفرحة وتهلل الأسارير والغبطة، فإن الأمر يعكس مضامين المكونات، ونظافة القلوب، بحسبان أن الجمال ينعكس على الفرد، وأن كل إناء بما فيه ينضح، وأن من يرى الجميل جميلاً، يختلف عن الذي يقبّح الجميل ويجمّل القبيح لحاجة في نفسه ولخلل في مساربه الداخلية وطبيعته القائمة على لؤم الطباع وفساد الطوية، وما ران على القلب من غبش وضلال.
والمحافظون على الأخوة وتمتين أواصرها وتقوية ما يعزز من قوتها وفعاليتها، هم أولئك الذين يرون في الآخرين مناط عزتهم وضمان وحدتهم، فلا يتآمرون في ظلام ولا يهدمون صروح هذه العلاقة بزرع الفتن والانشغال بالقيل والقال، من أجل أن تكون شهرتهم لا تتم إلا بأكل لحوم إخوانهم، وإضفاء القبح على صفاتهم وهم لا يعلمون أن مثل هذا السلوك هو الذي يحجب النور المضيء والمصدر الذي إن لم تتم مراعاته والمحافظة عليه، سيكون سبباً في تحطيم منابر الإشعاع والأنوار، التي نستمد منها نور الحياة وضياءها، ومن فقد النور يظل طوال حياته متخبطاً ومتعثراً في الظلمات الحالكة، ولا يكون الهدى إلا بمزاملة الأصدقاء والوفاء لمن تربطنا بهم أواصر العقيدة والإخاء.
والمعروف بين النَّاس، هو عنصر الأصالة في الكائن البشري، ولا يعيش امرؤ في سعادة إذا كان لا يتصف بصفة احترام المعروف، كما أن مصدر الشقاء والنكد في هذه الحياة لا يتمثل إلا في أولئك الذين إذا أحسنت إليهم أساءوا، وإذا قصدتهم بخير فسروا قصدك بسوء نية، وقلبوا ظهر المجن بعكس الحقائق، وكان فعلهم شراً والأثر من الخير الذي قدم لهم سالباً. وبالفعل لا ينبغي أن يكون المعروف في غير أهله، لأن من لا يناسبه ذلك المعروف ينطبق عليه المثل القائل، «اتق شر من أحسنت إليه».
وإنه لأمر في غاية الغرابة عندما يقابل الإحسان بدوافع الشر، والمعروف بنتائج لا صلة بينها وبين خصائص الوفاء وعناصر الإخلاص.
والمراعون لما يقدمه لهم إخوانهم من أعمال جليلة وخدمات تلاقي ما يكفي حاجاتهم، ليس بالضرورة أن يجعلهم هذا الجميل من أهل الولاء الأعمى، ذلك لأن الولاء والوفاء بحق يختلفان عن الولاء بالمقابل، بحسبان أن الحق مقابله الإيمان، وشراء الذمم بتقديم الخدمات يقابله الثمن البخس والدراهم المعدودات. والفرق شاسع بين قيمة للحق لا تضاهى وقيمة للباطل تتنافى وعظمة المعروف، وما يتمتع به من شأوٍ عالٍ وقدر رفيع. وبعض الناس في هذه الدنيا، يخطئون كثيراً عندما تداهمهم رغبات الذات وتسيطر على أهدافهم علاقات المصلحة، فيخسرون بذلك إخواناً كانوا لهم عوناً في الملمات، أفراحاً كانت أو أتراحاً.
وأعلم أن بعضاً من الذين انسحب من حياتهم من كانوا على قرب منهم، كان ذلك بسبب اهتمام الأصدقاء بأنفسهم، لأن الصداقة كانت بغرض، والانسحاب حدث عندما لم يتحقق الغرض. وكم تكون الخسارة فادحة عندما يضيع أحدنا زمنه، ويهب جلَّ عمره لنفرٍ لا أصالة في طباعهم ولا خير في مجالستهم.
وما أبشع الذين لا يرون جمال غيرهم، فينكرون ضوء الشمس وهي ساطعة في رابعة النهار.
وما أسوأ الذين يتنكرون للأخوة ويعصفون بقيمتها، فلا يكون لحياتهم طعماً ولا نغماً، فيضيع عمرهم ويموتون، فلا يبكي عليهم أحد ولا يترحم عليهم من هو على قيد الحياة.
وكم تكون الخسارة عندما يوجه المعروف لغير أهله، فتصبح النتيجة خيانةً وغدراً بخناجر مسمومة، وألسنة حداد شداد. والأمثلة كثيرة على ذلك ولا تحتمل أن نجري عليها قاعدة للإحصاء، ولكن لا تخلو دنيانا من صور كريهة وأخرى مشرقة، والعاقل من يهبه الله القدرة على التمييز فلا يقع على قفاه.
صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]