تردد وخوف:
تُعد العين نافذتنا الأولى نحو العالم المحيط بنا… حيث تمكننا من رؤية الأشياء من حولنا. ومن هذا المنطلق وجدناها وهي تجلس في كرسي وتحديداً في مناسبة بـ (جبل أولياء) متحسسة آثار في يدها فيما يبدو أنها آثار(عضة) قلت لها: (الأولاد أشقياء… ياخالة ماتتمحني غطيها بحنة)… تأملتني بابتسامة وهي تقول: (يابتي دي عضة جن الأولاد يعيشون مع أمي بالجزيرة)… ارتبكت وتمتمت كثيراً بعد أن حلفت لي بأن ماتقوله ليس بدعابة لتسعفني ذاكرتي بعدها بقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولم أسألها حينها عن سبب احتضان والدتها للأولاد وليس هي. أخبرتني أنها تدعى (أم مصطفى) ودعتني إلى زيارتها في منزلها الكائن بـ(الرميلة) لتقصي أصل الحكاية… حقيقة توجست عندها- كثيراً- وفي داخلي شيءُ يقول: ( مجنونة أنتِ..؟…عايزة تتوسمي زيها ولاشنو؟!). فكرة الوسم أخافتني كثيراً وكنوع من الانسحاب الأنيق تبادلنا أرقام الهواتف ملمحة لها أنني سأحاول زيارتها في أقرب سانحة. وبالفعل مرت أسابيع على ذلك… وأنا أبحث في قائمة هاتفي ذاك الصباح عن أحد الأسماء لاح لي اسم (أم مصطفى) لم أستحضرها إلا بعد ان أجابتني من الجانب الآخر: (أستاذة فاطمة إنت جايانا؟! معليش أنا في الجزيرة مع الأولاد).. لأتنفس الصعداء بعدها وبكل ارتياح أرد عليها قائلة: (أخذي راحتك).. وماهي إلا لحظات حتى قررت أن أكسر الخوف والتردد بداخلي لأتصل بها مستفسرة عن موعد عودتها إلى منزلها (أم مصطفى) وعدتني باتصال فور رجوعها وفعلاً كان ذلك.
مدمنون قهوة:
في الاتجاه إلى المنزل بمنطقة الرميلة، أعددت نفسي بما استطعت من آيات وأذكار مستصحبة بعض الزملاء والزميلات ممن يتمتعون بالقوة والشجاعة.. بداية استقبلنا (الفاضل) في ورشة النجارة التي يعمل بها طالباًً منا الصعود إلى المنزل عن طريق (سلم) داخل الورشة لتستقبلنا بعدها أم مصطفى وهي تطلق الضحكات العالية من ترديدنا للبسملة بصوت واحد.. أم مصطفى وهي تشير من النافذة إلى بيت يقابل العمارة التي استقبلتنا فيها قائلة هذا هو البيت المسكون لنسألها عن سبب رحيلهم لتقول إن الأولاد حضروا من الجزيرة ليقضوا معنا الإجازة الصيفية لهذا السبب نحن هنا الآن..أم مصطفى تحكي قائلة: (الجن يشاركوننا الطعام والشراب)… وعن الأصناف التي يحبونها تقول الجماعة مولعون بشرب القهوة والشاي وبدون سكر مضيفة أنها تصنعها لهم مضطرة باعتبار أنها لاتشرب المكيفات وكذلك أشارت إلى أنها تأخذ الصينية إلى الغرفة الخاصة بهم وعن وجبتهم المفضلة تقول أنهم يستعجلونها في (الموليت) وكذلك (الملوخية).
الحساب مدفوع:
فيما يبدو أن أم مصطفى مرهقة في خدمة أسرتها من جهة وخدمة جيرانها من الجن من جهة أخرى مازحنا أم مصطفى أنها بحاجة إلى خادمة منزلية.. لترجع لتؤكد أنها ليست بحاجة إليها مستدركة أن الجماعة يقدمون لها المساعدة من نظافة الخضار وتقطيع اللحم والطبيخ وعواسة الكسرة وكذلك مراسيل الدكان من زيت وسكر ودقيق وأنهم يجلبون لها خضار الأسبوع وأنها تستلمها يداً بيد ومقدمة لهم (الشكر).. وتضيف أنه في بعض الأوقات لايكون لديها مال كاف أو (مقطوعة عديييل) وتأخذ اغراض بالدين لتجد بعدها أن الحساب قد دُفع وأنها عندما تنزل من المواصلات تتعجب من مطالبة الكمساري لحق التذكرة ليقول: (حقك مدفوع).. أم مصطفى وهي تضحك تقول: (والأهم من ذلك إن زوجي الفاضل قام بأخفاء مال عني.. يسحبوه منه ليأتوا به في يدي)..!… ولم تنس أن تقول لنا إنهم يملأون لها الثلاجة بكل مالذ وطاب.
غضبة الجن:
أم مصطفى استأذنتنا بعض الوقت لترجع لنا بثوب وذهب لتقول إنها في المناسبات (مرة مقدرة) مشيرة لأن الجماعة يهدوا لها الثياب (الماخمج) والخواتم البوبار وبعض القطع الذهبية إضافة للعطور التي يعطرونها بها كل صباح خاصة عند خروج زوجها للعمل.. وعما يُغضبهم تقول:” إنهم أحياناً يطلبون مني تهدئة الأطفال عند تواجدهم معنا”: (أمسكوا عليكم شفعكم ديل)… وعند غضبهم الشديد يرموننا بالحجارة ويعضوننا في أجسادنا و(يكشحوننا) بالتراب ويخربشون جدار المنزل لأخاطبهم قائلة: (الله بيني وبينكم) وعن هذه المخاطبة تقول إنهم يتمثلون لهم في أشكال حيوانات وخاصة (الضب)… أم مصطفى لم تنس أن تخبرنا أنها ذهبت ذات يوم إلى بائع الخضار لتجد جزرة بهيئة يد حقيقية وسط ربطة الجزر ليخبروها فيما بعد أنهم من وضعوها وعن ردة فعلها تجاههم تقول: (لم أتردد في أكلها) وأخبرتنا كذلك ماتراه في المنام يتحقق تماما بتفاصيله
عين مفتحة وعين مغمضة.
مصاريف الاولاد:
الفاضل و(أبو مصطفى) كما يحلو له أن نناديه أخذنا إلى سطح المنزل ليمكننا من مشاهدة الصورة العامة للمنزل المسكون من الأعلى مشيراً إلى أنه من باب الاحتياط والأمان الأفضل أن لانقترب من المنزل والاكتفاء بالمشاهدة من هنا… الفاضل ذكر أنه يعمل في (النجارة) وعن أصل الحكاية التي شعر فيها بوجودهم يقول:أنهم بدأوا معي برش الماء علي من النافذة وتقديم شاي الصباح والإفطار لي في الورشة ولايترددون في إحضار (البارد) في المطبخ إذا حضر ضيوف أثناء غياب أم مصطفى وكل ماعلي هو أن آخذ الصينية من المطبخ، وعن تفاصيل هذا التعايش يقول: الجماعة يتكفلون أحياناً بمصاريف الأولاد خاصة (مصطفى) وأحياناً يتشارك أبناؤنا اللعب … ويوقظونني لصلاة الفجر وعندما أكون مريضا يجلبون لي الدواء والحبوب، وفي المقابل يقول الفاضل إنهم عندما يغضبون منه يكسرون له عمله في الورشة في الوقت بدل الضائع (وقت تسليم البضاعة للزبون) وفي هذا إشعار أن أم مصطفى غضبت مني فهم لايرضون زعلها. الفاضل يضيف: (عندها أنام عين مفتحة وعين مغمضة)…ومن الطرائف العجيبة يقول: إنه في ظل إغلاقه للموبايل يتفاجأ بالمكالمات التي ترده وكذلك الرسائل…(الجماعة بيغفلوني ويفتحوه)… وأنهم كذلك يًديرون القنوات الفضائية كما يشاؤون مابين القنوات الدينية والمنوعات والأفلام (غريبة). الفاضل يضيف أنهم يلحظون وقع أقدامهم… وعن المعالجات التي قاموا بها يقول: أحضرنا الكثير من الشيوخ لقراءة القرآن في البيت ومن الملاحظ أن الجماعة يحفظون القرآن جيداً بترديده مع الشيوخ… الفاضل ذكر لنا أن الجيران والأقارب يعرفون بقصة منزلنا والبعض يتهيب زيارتنا قائلين (إننا عايشين بإرادة ربنا القوي).!!
إفادات مختصين:
كثير من الاستفهامات أطلت برأسنا بعد أن سمعنا تفاصيل حكاية بيت الرميلة لنتوجه بها إلى رئيس قسم الأديان- مركز البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة أفريقيا العالمية د.أمين محمد سعيد الطاهر الذي بدأ متعجباً من حرصنا على الاتجاه للعالم الآخر علم الورائي (الغيبيات) وبعدها قال موضحاً أن هناك اعتقاداً راسخاً أن أصل الفراعنة مصر والحقيقة هي أنهم في وادي النيل القديم ابتداءً من منطقة (الكرمكة) حتى (إسوان) وبذلك يكون الفراعنة من منطقة حلفا المحس الدناقلة والدراسات التي لدينا تثبت ذلك. الطاهر يؤكد أن السحرة الذين استعان بهم فرعون فلما جاء )وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) وكذلك الجان من (السودان) تحديداً من منطقة (ناوا) تحديداً أود القول أن فرعون جاء بعمدة السحرة من (ناوا)… الطاهر يُضيف أن الجن لديهم بُعد الطيران في الهواء والمشي في الماء. و(سحّار) على وزن (فعّال) أي أن كل ساحر يُجيد سحره بالتعامل مع الجان ويرى الناس في هذا نوع من (الكرامات) مع أنه نوع من (الطلسمات). ومنهم من يخدم الإنسان وهم الجن (الفاسق) الطاهر يقول إن أصناف الجن نجدها في الآية: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) الشاهد في الآية أن الجن كالإنسان مسلم وعاصي وكافر… الطاهر يمضي في حديثه قائلاً: الجن مافاضي لينا عندو حياتو وعملو البأهلو يدخل الجنة أو النار لكن فسقت الجن كما الإنسان الفاسق وهؤلاء هم(الفاضين) لأذية البشر(يعني منهم الصعاليك والشفاتة) الطاهر يوضح أن الجن المسلم برئ من (الشيطان) وأفعاله ووسوسته وعن سبب الإيذاء الطاهر يقول: هم يعتقدون أن الله خلق البشر لمحاربة الجن لذا جعل شغله الشاغل أن ندخل معه النار ومن ضمن مداخله أنه يُلبي للإنسان احتياجاته ويخدمه والشفاء من المرض ذاكراً أن(تطويع القرين) من أهم مايدرس بمدارس الجن.الطاهر يدلل على أن الجن خُلق قبلنا بقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) والشاهد هنا أن الملائكة رأت الجن تفسد وتسفك باعتبار أن الإنسان لم يُخلق بعد. الطاهر يضيف أن فئة (العُمار) موجودين من قبل خلق البشرية. وأن هذه الفئة يتعنتون في خروجهم من المنزل إذا تضايق منهم الإنسان وجاء الشيخ وطالبهم بالخروج من مبدأ (جدادة الخلا الطردت جدادة البيت) وبالرغم من ذلك فالإنسان هو خليفة الله في الأرض. الطاهر يقول إنهم في هذه الحالة يعقدون معهم صلحاً واتفاقيات من أجل التعايش السلمي وزاد أن الجن يمكن أن يظهر للإنسان في صور مختلفة كما يظهرون لأم مصطفى وزوجها الطاهر يقول إنه من الممكن أن يتهيأوا في شكل بشر مثلنا كما تأهيأ إبليس بصورة الرجل النجدي شديد بياض الثياب واللحية وقال لزعماء قريش: (اضربوه ضربة رجل واحد)، مشيراً كذلك إلى أن الشياطين لايعمروا لأنهم يحرقون بمجرد ذكر اسم الله ولمعرفة نوع الجن تردد آية الكرسي فعند الوصول إلى (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) لايستطيع الجن الكافر ترديدها ويحرق ليصبح رماداً ولذا تسمى بـ (آية الحرق) والجن المسلم حافظ القرآن ويمكن يكون عارف دين أحسن مننا. الطاهر يرجع ليقول التعامل مع الجن الكافر وتبادل المصالح معه (كارثة) بحسب وصفه ليؤكد أن فيه أجندة خفية. فمن المستحيل التعايش السلمي وتقديم الخدمات للإنسان من غير تلك الأجندة الخفية وبالرجوع لقصة أم مصطفى ومساندة الجماعة لها الطاهر يقول إن هناك حلقة مفقودة.!
“الصاع صاعين”:
الطاهر يقول كذلك إنه من الممكن أن يؤذي الجن الإنسان إذا تسبب هو في أذيتهم أو أذية أبنائهم ليردوا بذلك الصاع صاعين وفي هذا يذكر قصة إحدى الأسر في الثورة بأم درمان بأن كل مولود لها يأتي معاقا وعندما حضر إلى المنزل ليقرأ عليه تقدمت نحوه بنت صغيرة لتقول له إن والدتهم حرقت أولادي بالماء الحار دون أن تذكر اسم الله وإعاقة أبنائها ليس إلا انتقاماً لابني الذي مات وبعد حوار مستفيض معها طالبت بالدية وود العتق وبعد أن رضيت سبحان الله تحرك الأبناء المعاقون وكأنهم لم يعرفوا الإعاقة. .واضاف: (الإسلام نظم الأشياء إذا دخل أحدكم المنزل فليسم الله تعالى ومن أتى أهله فليسم الله منوها إلى أنه كلما بعد الإنسان من ربه كان الشيطان سلطان عليه. لذا الدعوة دائماً لأن يحسن الإنسان علاقته بربه).
حقيقة تعايش:
وعن حقيقة العلاقة والتعايش بين الجن والإنس الطاهر يقول إنها علاقة حقيقية ولها مليون باب وحول السؤال عن إمكانية زواج الإنس بالجن يختصرالطاهرالقول: المخنثون أولاد شركاء الجن والإنس… وباستفسار الطاهر عن دوافع اهتمامه بهذا العلم والتخصص فيه يوضح أنه بدأ البحث في هذا الموضوع لاعتبارات كثيرة منها أن جدته كانت(داية الجن) و-العهدة على القائل-.
فلاشات: فاطمة خوجلي
صحيفة السوداني