وقد ظل يعمل سياسياً متفرغاً لنصف قرن من الزمان «إذ اشترك في مؤتمر الجزيرة أبا الذي رعاه الإمام الهادي في عام 1963م وبعد ثورة أكتوبر في عام 1964م اختاره المؤتمر العام لرئاسة حزب الأمة ولا يزال يتولاها حتى الآن، والمعروف أن الحزب منذ إنشائه قد تولى رئاسته اثنان فقط هما الإمام الصديق المهدي وابنه الإمام الصادق المهدي الذي ظل يتولى الرئاسة بالانتخاب الحُر والتزكية وبلا منافسة وليس بالوراثة.
ولا يتسع المجال لفتح الملفات والوقوف على تلك التجربة الطويلة بكل تفاصيلها الدقيقة وقد خاض خلالها صراعات ومنافسات ومعارك كثيرة يأخذ بعضها بخناق بعض داخل حزبه وخارجه مع آخرين في مختلف النظم وشتى الأحزاب والتنظيمات وكأنه يتمثل بقول العلامة عبد الله الطيب «أروم من الزمان مداً بعيداً وحدت عن القتال ولا محيدا».
وقد ظل رئيس حزب الأمة معارضاً لعهد مايو باستثناء فترة قصيرة صالح فيها النظام ثم عاد للمعارضة مرة أخرى بعد انهيار تلك المصالحة وظل معارضاً لنظام الإنقاذ وقبل ذلك كان معارضاً في الديقراطية الثانية لحكومة المحجوب الائتلافية المكوَّنة من الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة جناح الإمام الهادي أي أنه أمضى في المعارضة حوالى أربعين عاماً تقريباً قضى جزءًا منها في المنافي متنقلاً بين القاهرة ولندن مع محطات خارجية أخرى مثل طرابلس وأسمرا. وكان الشريف حسين الهندي رئيساً للجبهة الوطنية وزعيماً للمعارضة في الخارج وكانت معسكرات التدريب العكسري في الخارج تضم الأنصار وعندما خرج السيد الصادق من السودان في عام 1974م تنازل له الهندي بمحض اختياره تنازلاً مظهرياً عن رئاسة الجبهة الوطنية لإدراكه أن أي صراعات بينهما حول الرئاسة ستؤدي للتأثير على المعسكرات وربما يؤدي لفضها وآثر بمحض اختياره أن يكون نائباً لرئيس الجبهة الوطنية مع الإمساك بكل الخيوط المتعلقة بالتمويل والاتصالات والعلاقات الخارجية وبذا اجتاز الخصمان السياسيان والقطبان المتنافران تلك العقبة ولسان حال كل منهما يردد «ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد». وبعد خروج السيد رئيس حزب الأمة في ما عرف بعملية تهتدون قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أدرك في الخارج بعد فترة أنه استبدل رمضاء الإنقاذ بنار المعارضة إذ أنه نادى بضرورة إعادة هيكلة التجمُّع المعارض في الخارج ولكنه لم يجد أذناً صاغية وعاد للوطن مرة أخرى وتبع ذلك حل ما كان يسمى جيش الأمة وما تبع ذلك من شد وجذب حول المال والتعويضات وما إلى ذلك وتبع ذلك قيام مؤتمر سوبا والانشقاق المشهور ووصف رئيس حزب الأمة المنشقين عليه بأنهم نفعيون ومدينون على حد تعبيره بكمبيالات وارتموا في حضن النظام ليسددها لهم على حد تعبيره وتشظت تلك المجموعة لشظايا حزبية عديدة كان يصفها بأنها مجموعة أصفار وظهر تيار داخل حزبه هو عُرف بالتيار العام ولا يزال الحزب يعاني من خلافات في الرؤى وصراعات جهوية ومناطقية رغم أنه الآن بلا سلطة يمكن أن تقدم للمواطنين والقواعد تنمية وخدمات، وتبعاً لذلك فإن المعارك التي تدور بينهم حالياً هي معارك في غير معترك.
وقد انضم حزب الأمة بمحض اختياره لتحالف أحزاب المعارضة وهو تحالف يضم كيانات تتباين في أوزانها وفي أطروحاتها الفكرية وبرامجها ومنابعها وبين بعضها خلافات عقدية جذرية وهي في مجملها خليط غير متجانس «سمك لبن تمر هندي» وهي أيضاً أشبه بجبة درويش فيها رقع كثيرة تختلف أحجامها وتتعدد ألوانها ولكن يجمع هذا التحالف أو الخليط العجيب هدف واحد مشترك هو إسقاط النظام ووسطهم من يعمل من طرف خفي لدعم النظام «والدم بحن» وإن أبدوا الشحناء والبغضاء لرموز وشاغلي وظائفه العليا. وعهدوا رئاسة تحالفهم لرئيس ليس له حزب ومهمته ليست تنسيقية أو في إطار الإشراف على سكرتارية فنية ولكنه يتعامل كرئيس وزعيم للمعارضة ويمتعض عندما يغيب رؤساء الأحزاب الذين يرأسهم ويبعثوا بدلاً منهم من يمثلونهم. وبدا لرئيس حزب الأمة أن هذا الوضع خاطئ ومقلوب ويجب تصحيحه وأخذ ينادي بالهيكلة ووصف بعض الأحزاب بأنها مثل الطرور أي أن وزنها الجماهيري خفيف وأقل من وزن الريشة، وبين الفينة والأخرى تحدث بين الطرفين مخاشنة لفظية يتبعها ربت على الأكتاف وتظل الأوضاع تراوح مكانها وينبغي عدم دفن الرؤوس في الرمال ولا داعي للدغمسة وبلا لف ودوران فإن الصراع الحقيقي يدور حول رئاسة التحالف وزعامة المعارضة وفي تقديري أن رئيس حزب الأمة إذا كان مصراً على البقاء في هذا التحالف المعارض فإن الوضع الطبيعي أن يكون هو الرئيس وزعيم المعارضة ولكن الرئيس الحالي يرى أنه هو الأحق بالرئاسة وأنهما انداد «والكتوف متلاحقة بينهما» إذ كان هو وزير خارجية عهد مايو في أيام سطوة الشيوعيين في صدره الأول قبل أن تدور عليهم الدوائر وكان في مرحلة لاحقة أميناً عاماً لاتحاد المحامين العرب وتؤكد كل المؤشرات أن الجبهة الثورية واليساريين وكل العلمانيين وجميع النافذين في قطاع الشمال وداعميهم من الخواجات كلهم يفضلون بقاء الرئيس الحالي في قيادة التحالف وتُعتبر وثيقة كمبالا المسماة بالفجر الصادق هي برنامجه الحقيقي المتوافق مع فكره وتاريخه ولا يؤيدون تولي خصمه رئاسة التحالف وزعامة المعارضة وإزاء ذلك فإن على رئيس حزب الأمة أن يرضى مكرهاً لا بطلاً بهذا الوضع الغريب أو يتخلى عنهم ويكون تجمعاً آخر للمعارضة يكون عماده الرئيسي حزبه مع إضافة أي حلفاء آخرين.
وقد ظل السيد رئيس حزب الأمة منذ سنوات الإنقاذ الأولى يبشر بقرب سقوط النظام وكان يكثر من التنكيت والتبكيت عليهم وذكر مراراًَ وتكراراً ان الإنقاذيين يركبون على فرس جامح وأنه سيساعدهم على النزول منه بسلام وكان يردد «الما بعرف ما تدوه يغرف لانو بكسر الكاس وبعطش الناس» ودارت حوارات كثيرة بينه وبينهم حول الأجندات الوطنية وأعلن بعض الإنقاذيين النافذين في بعض المراحل أنهم لا يمانعون في اقتسام المواقع التنفيذية «لاحظ التنفيذية» مع حزب الأمة ولو بالمناصفة ولكن كل هذا اصطدم أمام عقبة الرئاسة إذ انهم لا يمكن أن يأخذوا الجمل ويتركوا صاحب الجمل في العراء.
ومن الواضح أن بين قيادات النظام العليا منلوج داخلي تم بموجبه الاتفاق على اقتسام السلطة على المستوى السيادي والتنفيذي والسياسي بطريقة فيها حفظ لتوزانهم الداخلي وتبعاً لذلك لا مكان لوافد جديد من خارج التنظيم ودائرته الضيقة ليشغل موقع رئيس الدولة أو رئيس الحكومة والجهاز التنفيذي ويمكن لمن يشارك أن يكون رديفاً لا حليفاً والحد الأقصى في المشاركة هو نيل وظيفة مستشار أو مساعد رئيس جمهورية ولكن في حالة السيد الصادق ربما يحترمونه ويعتبرون حالته خاصة ويوافقون على تعيينه رئيساً للبرلمان «الصوري الديكوري الحالي» أو أي برلمان آخر في دورة أخرى إذا وافق هو وبخلاف ذلك فإن لقاءاتهم المشتركة لا تعدو أن تكون لقاءات علاقات عامة تكثر فيها الابتسامات وتعلو الضحكات وقد يعقبها حديث ناعم عن «التعويضات!!» ولا مانع عندهم أن تستمر هذه الحلقة المفرغة لسنوات قادمة في اللف والدوران ولذلك فإن عليه ألا يضيع الوقت سُدىً وأن يتفرغ تماماً لخوض الانتخابات العامة القادمة على كل مستوياتها الرئاسية والبرلمانية والولائية مع إدراك أنه سينازل نظاماً أضحى كالفك المفترس وله إمكانات مالية هائلة مع إمساكه بكل المفاصل أو أن يصل معهم لصيغة ترضي الطرفين. وإن ما يحدث الآن هو نتيجة للخطأ التاريخي الذي وقع فيه رئيس حزب الأمة بعد ظهور نتائج انتخابات عام 1986م لأنه بدلاً من أن يكوِّن حكومة أحزاب الجبهة الوطنية الثلاثة إضافة لآخرين رفض ذلك وأراد أن يرضي الجميع ويكون حليفاً لكل الأطرف كلٍّ على حدة وسقط النظام لأن «ركاب سرجين وقِّيع ومساك دربين ضهِّيب».
ومع فائق الاحترام والتقدير للسيد الصادق المهدي كمثقف موسوعي ومفكر مرموق ورجل مجتمع من الطراز الأول ولكن الحقائق مُرة وأمرّ منها السكوت عليها ودفن الرؤوس في الرمال ولا ينكر أحد أن سيادته قارئ من الطراز الأول ومفكر وكاتب غزير الإنتاج ومحدث بارع وصاحب حضور وكاريزما ويمكن أن يعيش بدون منصب رسمي كأي ملك متوج ويمكن أن يأتي الدبلوماسيون والسفراء لمقابلته وأن يكون له حضور في كل أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وأن تحسن قواعده في استقباله في أي مكان يحل فلماذا يهدر طاقاته الهائلة في الصراع مع الحكومة ومع المعارضة وهو فوق المناصب.
وفي ظل الوضع الضبابي الماثل الآن فإن قواعد حزبه وطائفته في حيرة من أمرها وهي لا يمكن أن تنتظر السراب وماء الرهاب وتتمسك بحبال بلا بقر والوضع يتطلب حوارات صريحة مفتوحة. وبكل تأكيد يوجد عدد من الشيوخ والشباب بهيئة شؤون الأنصار من المثقفين والمتفقهين وهم على خلق ودين وإن القواعد العريضة تتسم بدرجة عالية من الصفاء والنقاء وتعاني مناطقها من الفقر فهل تظل مكتوفة الأيدي ورهينة «شرط واحد» أم تسعى لتطوير وتقدم مناطقها وأخذ حقوقها في التنمية والخدمات.
صحيفة الإنتباهة
صديق البادي