لم تهتم (نفيسة) بقيام قيامة الدنيا على رأسها بعد أن عرف الجميع (القريب والغريب) بخبر بيعها للبيت فوق رؤوس بناتها، وتركها لهن ليواجهن الواقع المرير، بعد أن امهلهم المشتري الجديد فرصة شهر من ذوقو حتى يخلوا له المنزل ويسلموه المفاتيح.
استقر المقام بـ (نفيسة) في غرفة أمها القديمة المتهالكة بعد أن قامت بنظافتها وتنظيمتها، فالغرفة كانت مهجورة ولم تمتد لها يد اخوتها بالاصلاح منذ وفاة والدتهم واتخاذهم لها مخزنا للكراكيب ..
استقرت في الغرفة بعد أن خبأت المبلغ المالي الكبير الذي باعت به البيت في احد جحورها وصارت تسحب منه قليلا قليلا، بقدر حوجتها اليومية البسيطة للطعام والشراب، والذي كانت تعده لنفسها بنفسها بعد أن سادت قطيعة باردة بينها وبين اخوتها الغضبين من اتخاذها لقرار بهذه الخطورة دون الرجوع لمشورتهم، أما بناتها فلم يستطيعوا أن يغفروا لها تصرفها القاسي معهم وحرمانها لهم من حقهم في العيش في بيت ابيهم أو حتى تقسيم جزء من المبلغ عليهن للاستعانة به في دفع الايجارات التي اجبروا على اللجوء إليها.
مرت الشهور بطيئة كئيبة على قلب (نفيسة) المثقل بهموم الوحدة والوحشة التي لم تعتاد على العيش فيها .. كما تآمرت عليها صحتها الواهنة وتدهورت أكثر بعد مرور عام على قرارها المتهور .. مرّ العام دون ان تفكر واحدة من بناتها في زيارتها في منفاها الاختياري، وتعودت عينيها كثرة البكاء حتى استيقظت ذات صباح في حيرة من عدم تبدد ظلام الليل بعد انقضاء ساعاته الطويلة، لتكتشف ان مصدر الظلمة كانت عينيها التي خاصمت (الشوف).
لم تكتفي المصائب من القرع على رأس (نفيسة) .. وزادت عليها الهموم بمصيبة جديدة لا قبل لها بها .. فقد تسلل أحد (أولاد الحرام) لغرفتها مستقلا فرصة الظلمة التي صارت تعيش فيها، وسرق منها نقود بيع البيت التي كانت تعتاش منها، وتستعين بها في استخدام من تقوم على خدمتها بعد ان تقاصرت عنها العافية ولم تعد تستطيع أن تقوم على خدمة نفسها بنفسها .. بكت كما لم تبكي من قبل وجمعت اخوتها وجميع اهل (الحوش) وقذفت في وجوههم اتهامها، بأن واحدا فيهم قد استغل ضعفها وقلة حيلتها للتسلل وسرقة نقودها، ولكن تبرأ الجميع من تلك التهمة، بحجة أن الحركة داخل الحوش الكبير تظل ما بين داخل وخارج طوال اليوم عبر باب البيت الذي لا يغلق إلا في الليل، مما يجعل من المستحيل التعرّف على السارق، وهل هو أحد افراد البيت أم غريب جاء من خارجه.
لم تخرج (نفيسة) من ذلك الاجتماع إلا بالمزيد من الجفوة والشقاق مع اخوتها، ولم تلبث زوجات اخوانها ونساء البيت حينا من الدهر، إلا واعلنوا التمرد على القيام بخدمتها بعد أن صارت اسيرة المحبسين (العمى) و(الفلس) فزادت وهنا على وهن وغبنا على غبن.
اجتمعت نسوة البيت واصدرن قرارا بأن:
(نفيسة) دي بعد ده أولى بيها بناتها .. يجن يسوقن امهن وبراهن يتبالن بي خدمتا.
نشطت الاتصالات بعد ذلك الاجتماع مع بنات (نفيسة) لكي تتبرع واحدة فيهن بالحضور وأخذ امها لتعيش معها، فمهما كان ما صدر منها في حقهن، فهي في النهاية أمهن والرسول (ص) أوصى بالام مرار وتكرار عندما قال (أمك) ثلاث مرات قبل أن يقول (أبوك) ..
تشابهت ردود البنات جميعا وان اختلفت تبريراتهن في رفض استقبال امهن، فواحدة تعللت بكثرة العيال وضيق بيت الايجار، والاخرى تعللت بطول الساعات التي تقضيها في العمل والتي تحول دون امكانية رعايتها لأمها الضريرة .. وهكذا لم تبقى سوى صغراهن والتي رغم انها تعيش وزوجها في غرفة وحيدة مستأجرة، إلا انها الوحيدة بين أخواتها، التي لا تعاني من ضيق الوقت ولا كثرة المشغوليات، فهي لم ترزق بالاطفال بعد، ولكنها ماطلت وتهربت من الحضور لاستلام امها، ونقل عنها ناقلي الخبارات قولها:
(والله ما امشي اجيبا .. خليهم يجدعوها زي ما جدعتنا قبيل).
عندما طال الانتظار لحضور البت الصغرى لاصطحاب أمها، حملتها اثنتين من نسوة الدار بعد خروج الرجال للعمل على (رقشة)، وتوجهن بها صوب بيت ابنتها بعد أن اتصلوا بها تلفونيا ليخبروها بأنهن (جاين مع أمها في الطريق)، ولكن عند وصولهم وجدوها قد غادرت غرفتها على عجل بعد أن احكمت قفل بابها بالطبلة .. انزلوا (نفيسة) و(بقجة) ما تبقى من ثيابها أمام باب الغرفة وغادروها بعد أن قالوا لها:
أقعدي هنا في الواطة قدام الباب ده .. بتك هسي بتجيك !!
جلست مستندة بظهرها إلى حائط الغرفة طوال النهار حتى اقبل الليل، وهي صامتة صابرة وقد نحت القدر على جبينها حكمة اهلنا الكبار
(التسوي كريت في القرض .. بتلقى في جلدا) !!!
القصة أكثر من ٩٠ ٪ منها حقيقية .. ولا عزاء للامهات في آخر زماننا الاغبر [/ALIGN]
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com