أبو الجعافر الباشكاتب

[ALIGN=CENTER]أبو الجعافر الباشكاتب [/ALIGN] ببلوغي الصف الثالث من المرحلة الابتدائية،كنت قد صرت هدفا لرجل أضفى على نفسه لقب شيخ، بحكم أنه كان من بين أقلية ضئيلة جدا تعرف القراءة والكتابة، واستهدفني الرجل لأن جاراتنا صرن يلجأن لي ولزملائي في المدرسة لنكتب لهن رسائل إلى أزواجهن او أولادهن المهاجرين بحثا عن عمل في أنحاء مختلفة من السودان ومصر.. كان دخولنا سوق كتابة الرسائل خطرا على حضرة الشيخ لأننا كنا نكتبها بدون مقابل، بل بكل سرور لنستعرض قدراتنا اللغوية، وكان الشيخ لا يكتب رسالة لأحد إلا بموجب موعد مسبق، وكان ذلك لضمان أن صاحب الرسالة سيجد الوقت الكافي ليقوم بالواجب نحوه (الشيخ) والواجب كان صينية طعام دسمة وربما قطعة نقدية معدنية..

كانت للشيخ صيغة ثابتة في استهلال كل رسالة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. نشتاق اليكم اشتياق الطير الى أعشاشها واشتياق الصائم الى الغروب وإن سألتم عنا فنحن والحمدلله بخير ولا ينقصنا سوى عدم مشاهدتكم الغالية (مع ان العبارة تعني أن مشاهدتكم لا تفرق معنا ولو قال «لا تنقصنا سوى مشاهدتكم« لاستقام المعنى الذي كان يبتغيه) وكانت الرسائل كلها تنتهي عنده بـ«ويغريكم السلام …« ويلي ذلك طابور من الأسماء، معظمها نسوية .. يغريكم السلام تحريف لـ«يقرئكم السلام« وبصراحة كنت أيضا اكتبها بتلك الطريقة الخطأ بسبب علة في العامية السودانية في عدم التمييز بين الغين والقاف (ونحن في هذا أفضل حالا من بعض الشعوب العربية التي تنعكس عاداتها في الكلام العامي على كتاباتها بالفصحى). كلما تذكرت تلك الحقبة من عمري أحسست باحترام عميق وجارف لنساء منطقتنا.. نعم كل بيوتنا قريبة جدا من النيل، ولكن مساحة الرقعة المزروعة عندنا ضيقة جدا لأن الصحراء الكبرى والتلال الصخرية تكاد تبتلع النيل نفسه.. وكثيرون يعتبرون الصعايدة في مصر أغبياء ومجانين لأنهم يتعاركون بالسلاح على قطعة أرض قد لا تزيد مساحتها على 12 مترا مربعا.. ولكن من يعرف قسوة الحياة في الريف مثلي يجد العذر للصعايدة في انفعالاتهم المفرطة في كل أمر يتعلق بالأرض.. دعوني أعطيكم مثالا بسيطا: عندما كنت صغيرا كانت أرض جدي من ناحية الأب أو الأم آلاف الأمتار المربعة الخصبة، ولو أردنا اليوم تقاسم تلك الأرض أنا وابناء خؤولتي وعمومتي فإن نصيب الواحد منا قد لا يزيد على مساحة قبر، فما بالك بمن لم يرثوا أصلا أرضا كبيرة المساحة وهم الغالبية؟ وهكذا فإن ضيق الأراضي الصالحة للزراعة حمل معظم رجال بلدتنا على الهجرة تاركين امر تربية وتنشئة العيال لزوجاتهم، ومن ثم كان هناك سوق رائج لكتابة الرسائل.. ولم تكن هجرة مثل هجرتنا نحن الذين أسعدنا الحظ بالعثور على وظائف في دول غنية، بل الى مدن تعبانة في وسط السودان كعمال بأجور هزيلة لا تسمح لهم باستقدام عائلاتهم.. أبي مثلا، قرر وهو شاب في نحو التاسعة عشرة أنه لا طائل من عمله في مجال الزراعة، ومن دون إبلاغ كبار العائلة هرب الى مصر سيرا على الأقدام.. وصل الى أسوان بعد مسيرة نحو شهرين ومن هناك أخذ القطار الى الاسكندرية حيث شقيقه الأكبر الذي ضربه وأمره بالعودة فورا الى «البلد« بعد ان زوده بقيمة التذاكر بالقطار، وغادر ابي مصر ولكنه بدلا من ان يعود الى بلدتنا واصل الرحلة الى الخرطوم حيث عمل في البواخر النيلية (وهكذا صارت عائلتنا برجوازية لأن والدي كان يتقاضى راتبه نقدا بينما غيره من الآباء كان يقايض المحاصيل بالسلع الضرورية).

زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version