فكما أن هذه المجموعات الفيلمية تورِد مشاهداً نادرة فى أرض الواقع كالهبوط بلا مظلة من طائرة، أو السقوط من قطار ثم الجري واستخدام سيارة لإعادة الصعود إليه مرة أخرى فى ثواني أو على الأكثر دقائق؛ فإن الحركة الشعبية الحاكمة فى دولة جنوب السودان تحاول مجارات مثل هذه اللقطات (دون دوبلاير)، ودون حيل سينمائية !
وبدأت القصة منذ أن قرر قادة الحركة الشعبية وهم ما يزالوا فى الفترة الانتقالية وشركاء فى إدارة السودان أن ينفصلوا بإقليمهم الجنوبيّ وينشئوا دولة مستقلة. إذ ربما كان الأمر عادياً ويجري فى سياق واقعي فأهل الجنوب هم أدرى بشعابه ولكن بدأت القصة تأخذ منحيً غير واقعي حين حصل القادة الجنوبيين بالفعل على دولتهم الجنوبية وأصبحوا حكاماً، فقد كان الأمر الطبيعي أن ينخرطوا فى بناء الدولة الجديدة على طراز حديث ومتقدم ولهم الحق بأن يستعينوا بمن يشاءوا حتى ولو استعانوا بأكثر أعداء السودان عداءاً.
بدأت المهمة المستحيلة للقادة الجنوبيين فى اللحظة التى قرروا فيها إزاحة نظام الحكم القائم وبدئوا بالفعل فى شنّ الحرب على الحدود، خاصة في منطقة جنوب كردفان والنيل الأزرق واستخدام الفرقتين 9 و 10 إحدى مخلّفاتهم العسكرية فى السودان.
و تشير متابعاتنا الى أن جوبا صرفت فى الفترة من العام 2011 وحتى مطلع العام 2013 ما جاوز الـ17 مليار دولار، بعضها تسلمته من واشنطن وبعضه من الدول الغربية وبعضها من خزينتها الخاصة فى تحريك المتمردين ضد السودان.
مبلغ مهول بالنسبة لدولة وليدة ناشئة كان كفيلاً كما يقول الجنرال المنحدر من قبائل الشلك (س.أل) ببناء شبكة مياه وكهرباء حديثة تغطي ثلاث مدن رئيسية فى الجنوب.
الجنرال الساخط على قيادته يمضي ليقول إن أحداً من مواطني جنوب السودان لا نظر الى ما تفعله الحركة الشعبية فى نزاعها المصطنع مع السودان بعين الرضا. هناك أولويات وهناك تاريخ يكتب وحكم فاصل للتاريخ!
القادة الجنوبيين يتصورون إنما مهمتهم المقدسة هي (إعادة فتح السودان) وإعادة تشكيله من جديد. لا أحد يدري ما هي الجدوى ولكن هذه هي إستراتيجيتهم، فهم يتصورون أن زعزعة استقرار السودان هي رد ثأري للحرب الطويلة التى امتدت لعقدين من الزمان ولهذا فإن عليهم ليس فقط الثأر للماضي ولكن أيضاً انتهاز السانحة للتخلص من السودان العربي الإسلامي أو استبداله بسودان إفريقي علماني!
الأدوات التى تفكر جوبا فى استخدامها لتحقيق هذه المهمة هي أبناء السودان نفسه، فهي عليها أن تجمع كل المتمردين وكل الساخطين على نظام الخرطوم، وعليها أن تمنحهم الأرض والسلاح والقواعد العسكرية.
قادة الحركة الشعبية وجدوا تشجيعاً منقطع النظير من الدولة العبرية وواشنطن، فالفكرة تناسبهم حيث بوسعهم أن يصنعوا سوداناً متقطع الأوصال، متفرق، سهل التحكم، وفي دفتر الأمن القومي الإسرائيلي فإن السودان ما ينبغي أن يظل موحداً.
المشكلة لم تكن أبداً في هذه الفكرة الجنونية فهي على أية حال فكرة، ولكن المشكلة فى أن الدولة الجنوبية تتصور -خطأً طبعاً- أنها ستؤدي مهمتها بسهولة وبسلاسة.
جوبا أغفلت المعطيات المحيطة بها وأغفلت المتغيرات الطبيعية، والأهم من كل ذلك أغفلت تماما الإغفال إحتمال أن يقع خلاف داخلي فى كابينة قيادتها واحتمال أن تتبدل الأمور على صعيد المعارضة السودانية (السياسية والمسلحة) وتدخل فى إتفاق سياسي مع الخرطوم.
جوبا أيضاً أغفلت وما تزال تغفل انتباه المواطنين السودانيين لهذا الدور القذر غير المتوقع من مجموعة مسلحة منحها السودان بلداً على طبق من ذهب. من الممكن جداً أن يدخل السودان فى حرب شاملة مع جوبا ويلحق بها هزيمة تماماً كما جرى فى التاريخ الحديث بين ارتريا وإثيوبيا، فمواجهة الدولة الأم فى الغالب خاسرة.
ومن الممكن أن يسقط النظام الحاكم في جوبا، وفى أي لحظة وتحت أي عامل من العوامل، كما أن عنصر المسغبة والجوع الذي يضرب أرجاء واسعة من الجنوب لغياب الموارد وتعطيلها هو الآخر عامل مدمِر للحكومة هناك. ألم نقل إن جوبا حملت على عاتقها مهمة مستحيلة ؟
سودان سفاري
[/JUSTIFY]