ولم تكن دعوة نافع هي الأولى فقد سبقه اليها الكثيرون وكان آخرهم هو رئيس حزب الأمة القومي الإمام الصادق المهدي حينما وضع اشتراطات في وقت سابق أمام النظام وقال إنه حال عدم الاستجابة لها فإنه سيعتزل العمل السياسي. ودعوات الساسة التي يطلقونها بين الفينة والأخرى تجعل الكثيرين يفكرون في جدوى تحديد سن للتقاعد عن ممارسة العمل السياسي، وربما داعمو تلك التوجهات دائما ما يرفعون شعارات لتجديد وإعادة البناء على أسس تسمح بمواجهة التحديات المطروحة من موقع (قوة).
تقييم وتقويم
(السوداني) حملت تلك القضية وتوجهت بها الى الكثير من الساسة والخبراء حيث شدد رئيس قطاع التنظيم بالمؤتمر الوطني المهندس حامد صديق في حديثه لـ(السوداني) على أن من أكمل دورتين في المواقع القيادية لن تُجدد له الدورة مرة أخرى، ويقول إن السياسة مثلها مثل أي عمل عام، لكنه عاد وقال إن السياسي مادام قادرا على العطاء فلا مانع من بقائه مع تعدد الأدوار، وأضاف: “يخرج من المناصب التنفيذية إلى كرسي المفكر والناصح والمستشار”. وفي اتجاه آخر يمضي الناطق الرسمي باسم حزب الأمة القومي السفير نجيب الخير إلى أن السياسي لا يهرم وبالتالي لا توجد سن للتقاعد مادام قادرا على العطاء ويتمتع بقبول الناس، وأضاف: “لكن يستوجب على السياسي أن يعمل خلال أدائه لمهمته لتحضير البديل”، ويختتم الخير حديثه معتقداً أن المطالبين بتحديد سن للتقاعد في أغلب الظن لا يتمتعون بالقبول وأضاف: “الأولى لهم أن يبدأوا بتطبيق التجربة على المستوى الشخصي”.
إلا الموت
الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر يمضي متمسكا بأنه ليس من حق أي شخص المطالبة بتحديد سن للتقاعد لأنها من حق جماهير الحزب لُتحدد من يقودها وأضاف: “قبل أن يطالبوا بذلك شرقاً وغرباً كان أجدر أن ينزلوا هم أولاً”، وتمسك بعدم وجود بواعث ومدعاة لسن قانون تقاعد في العمل السياسي وقال إن أزمات البلد هي المحدد الأول والأخير. ومضى الى أن السن التقاعدية في العمل السياسي تحكمها اعتبارات متعلقة بالحزب نفسه من خلال القدرة على العطاء للسياسيين خاصة المفكرين منهم، وأضاف: “لا توجد سن لتقاعدهم إلا الموت”، ويقول إنه وبرغم تقدم سن الشيخ حسن الترابي والسيد الصادق المهدي إلا أن عطاءهما الفكري -وبحسب كمال عمر- لا يزال يتقد بصورة جلية في مؤلفاتهما الفكرية وفي قدرتهما على ابتداع مواقف في مواجهة أزمات البلد. ويقول إن ذلك يتم رغم أنهما من وقت لآخر يُفصح الشيخان عن رغبتهما في التنحي والتفرغ للفكرة والكتابة وقضايا الشورى إلا أن أحزابهما لا تريد السير بهما في هذا الاتجاه فضلاً عن أنها تحاول تعطيل تلك الرغبة لديهما.
كمال يرجع ليؤكد أن السلطة لجماهير الحزب وأنه في غالب الأحوال التنحي يسير في اتجاه تقديرات الحزب أكثر من أي إلزام قانوني. وللرد على حديث الجانب التنفيذي يرى كمال أن الوضع في السياسة يختلف عن العمل العام ففي الأولى تنظيم داخلي لمهام الحزب وبالتالي هي غير مرتبطة برئيس الحزب ولا بالأمين العام سواء كان الصادق المهدي او حسن الترابي.
صناديق اقتراع
المختص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة أم درمان الإسلامية د. صلاح الدين عبدالرحمن الدومة يقول إن تعيين السياسي لا يتم من قبل الحكومة بل من خلال صناديق الاقتراع النابعة من إرادة الشعب، ويمضي الدومة قائلاً: “ليس في التجربة العالمية أن للسياسي تحديد عمر بعينه للانتخاب وحرمان بقية الفئات”، ويؤكد وجود حد أدنى لا يقل فيه عمر المرشح عن 18 عاما بالنسبة للمناصب الدستورية، وألا يقل عمر المرشح لرئاسة الجمهورية عن 40 عاما، ويضيف: “لكن ليس هناك حد أعلى بأي دولة في العالم ولا في تاريخ البشرية في أي زمان ولا مكان”.
ويقول الدومة إن هناك نظرية تسمى بنظرية الباب الدوار (مثل الباب الموجود بالفنادق) ويقول إنها نظرية مطبقة في الولايات المتحدة الأمريكية، تضمن عملية التنقل من منصب سياسي ثم إلى مراكز الأبحاث ثم مستشار ثم يمكنه أن يذهب للقطاع الخاص ثم إلى منصب سياسي آخر وهكذا دواليك، ويضيف: “بمعنى أنه يتحرك في المواقع والمجالات من مكتب تنفيذي دستوري إلى باحث في مركز أبحاث إلى وظيفة مرموقة بالقطاع الخاص”.
مربع صحيح
وبحسب الكاتب والمحلل السياسي د. كمال حنفي فإن الأعمار ما بعد العشرين إلى الأربعين وقد تمتد إلى الخمسين أعمار تقبل أن يكون السياسي فيها تنفيذياً ولاعباً أساسيا وجزءا من اللعبة، وعن سن الخمسين ومناسبته لأداء الأدوار التنفيذية يقول حنفي: “لم أعني أن يكون هذا العمر كله عمراً تنفيذياً ولكنني أؤكد أنه يقبل أن يكون بحسب طبيعة الشخص وتكوينه الجسماني”. ووفقاً لحنفي فإننا إذا نظرنا إلى تجارب من حولنا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً نجد أن الملعب السياسي التنفيذي يحتوي على أعمار أقل من الستين وهذا هو الاتجاه الغالب، ويرى حنفي أن المعايير والمقاييس الخاصة بالسلطة التنفيذية أغلبها عمل على الأرض يحتاج إلى بذل حركة ومجهود، ويضيف: بالوصول إلى سن 40 – 45 تقل هذه الحركة وتختلف من جهة لأخرى لاختلاف الأشخاص وقدرتهم على العطاء، وتحديد العمر التقاعدي يختلف باختلاف تجارب الدول سواء كانت مبتدئة أو ناهضة. ويضيف: “سن التقاعد الوظيفي تقع بين عمر 60 إلى 65، وشعوب أخرى بها كثافة بشرية كبيرة يكون سن التقاعد فيما دون ذلك”. وبحسب تصنيف (منظمة الصحة العالمية) فإن الشخص يهيئ نفسه للدخول في مرحلة الشيخوخة من 60 إلى 65، ويضيف: “لذلك هذا هو العمر التقاعدي في المؤسسات الوظيفية في مختلف الدول. وفي ظل الاعتراف والتعريف للسياسة بأنها نشاط إنساني يتساءل حنفي: لماذا تكون السياسة بمعزل عن هذا التقييد؟، ولماذا نخرجها من القوانين والقواعد المرتكزة والخبرات الأممية والشعبية في كل الدنيا التي تجعل الإنسان في عمر ما يتقاعد؟. حنفي يرجع ليقول: “يمكن للسياسي أن يمارس السياسة إلى أن يلقى ربه بغض النظر عن عمره 60 أو65، لكن بتعدد الأدوار والانتقال من الدور التنفيذي إلى دور إثراء الفكرة وإثراء البرنامج وإثراء الخطوط العامة والمبادئ العامة للحزب وأن يكون مرجعاً ومرجعية حتى يلقى ربه بأي عمر من الأعمار”.
ويؤكد حنفي أن للعمر متغير في السياسة ولكنه لا يعني أن يتقاعد الإنسان من السياسة ويرى أن الرؤية العامة لإدارة وتوظيف وتكييف السياسة في السودان غير مؤسسة. ويقول إن مسألة العمر وبشكل واضح جداً في السياسة السودانية غير موظفة كما ينبغي، ويؤكد أن التنفيذي هو المفكر للآخرين وهو الذي يُقرر وهو الذي يُنفذ وهو الذي يُقيم التجربة وهو الذي يُستشار فيصبح لحد كبير جدا هو الممسك بزمام الأمور، فنجد العضو يتشبث بالمربع التنفيذي حتى إذا تعدى شواطئ السبعين واقترب من شواطئ الثمانين وهذه هي الثغرات التي ينبغي أن تُسد ببناء تنظيمي وإعادة هيكلة للسياسة باعتبارها مؤسسة، ويرى أنه لا يمكن أن تكون المسألة شكلا من أشكال الاستشارة لـ(شافع) ولكن بحكم النضج والعمر البيولوجي والحكم السياسي يَرجع إلى شخص كبير للمناصحة سواء كان بشكل فردي أو حزبي فالكبار هم لجنة الحكماء والنصحاء.
وعن مسألة (القبول) يرى حنفي أنها مجرد حجة ليس إلا تبرر البقاء ليس في الملعب السياسي فحسب بل البقاء بذات الدور. أخلص إلى القول إن قبول الناس وإرضاء أنصارهم (كلمة حق يراد بها باطل). مؤكد في الوقت نفسه أن المستشار في دول العالم الكبرى هو لاعب سياسي أساسي لا يستطيع تغيير شكل الدولة فحسب وإنما شكل الإقليم.
وفي الختام دخل حنفي في جدل مع الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر حينما قال إن كل الأحزاب حتى على مستوى المؤتمر الوطني في دورات قادمة في انتخابات 2014م سترشح عمر حسن أحمد البشير رغم عدم رغبته في ذلك، ليكون هو الحاكم ورئيس المؤتمر الوطني كذلك. ويقول إن المؤتمر الشعبي سيدفع بحسن عبدالله الترابي والاتحاد الديمقراطي بمحمد عثمان الميرغني. ويضيف ساخراً: “لولا انتقال محمد إبراهيم نقد إلى جوار ربه لرأينا الحزب الشيوعي يدفع به”.
ويرد عليه كمال عمر قائلاً: أنا ضد مسألة التوريث لأنه ضار بالأحزاب السياسية وضار بنظم الحكم كذلك، والإسلام علمنا الشورى لا التوريث، وكذلك لم يُعلمنا الملكية الأبدية وبالتالي فإن الحديث عن هذا يتنافى مع مبدأ الديمقراطية والحريات. ويؤكد كمال أنه مع الشورى ومع الانتخاب، بينما يشدد حنفي على ضرورة تبني المؤسسة السياسية لتوظيف وإعداد أعضائها للقيادة وممارسة السياسة بمستوياتها الثلاثة المستوى التنفيذي والتفكيري وكذلك الاستشاري. أما صلاح الدومة فيرى أن أس البلاء في الأحزاب السودانية أن السياسي وُلد لكي يكون سيداً رغم أنها وعدت بالشخصية القائدة الشابة، ويضيف: “لكن وللأسف ملامح هذه الشخصية لم تكن واضحة فالوعد غير أصيل وغير صادق، وكما ذكرت فهذه تسمى أحزاب السيدين والأحزاب المستندة لطائفة وصوفية”. ويقول الدومة إن الحل للخروج من تلك الأزمات والإخفاقات المتتالية يجب أن يحدث تغيير في الأحزاب السياسية ولا يكون ذلك إلا بظهور قيادات جديدة بانتخابات حرة نزيهة وشفافة، “وإلا سنخم نفس الرماد”.
نظرية (ماسلو)
وبالرجوع كذلك إلى المختصين في علم النفس السياسي الإفريقي يقول د. نصر الدين إدريس الدومة إن هنالك نظرية في علم النفس الاجتماعي لعالم يسمى (ماسلو) تفترض ترتيباً وتدرجاً للحاجات، إلاّ أن بعض الناس قد تختلف في ترتيبهم لتلك الحاجات. ويقول إن ذلك العالم (أطّر) لدوافع الفرد في سلوكياته والعوامل الفسيولوجية المرتبطة بتقادم الزمن والتي تلعب دوراً بارزاً في حركة الانتقال من رُتبة لأخرى ابتداءً من رُتبة التنفيذ ومروراً بُرتبة الفكرة إلى أن تصل إلى رُتبة الاستشارة التي يكون قد حقق فيها الشخص ذاته بتحقيق أهدافه. ووفقاً لهذه النظرية يقول نصر الدين إنه إذا طبقت في الجانب السياسي فإن السياسي يخرج من خدمة نفسه وأسرته إلى خدمة المجتمع ويرى أن العمل في الخدمة المجتمعية لا ترتبط بسن محددة، ويضيف: “لكن يجب أن يكون هناك تفاعل داخل التنظيمات السياسية ليستمر الأقوياء وإقصاء الأقل قوة”.
ويقترح نصر الدين لقضية السن المناسبة أن ينزاح الشخص من المربع التنفيذي بمجرد أن يتقدم به العمر. ولتحديدها وبحسب نصر فإن الأفضل أن يبتعد السياسي عن الساحة الحركية في وقت مبكر لأن عوامل الضعف الجسماني تظهر عليه كلما تعتق في العمر، وبالتالي تحصد الكثير من الملاحظات والإخفاقات التي من الطبيعي أن تُحسب على عمره السياسي”.
تقرير: فاطمة خوجلي
صحيفة السوداني