لا أحد يجرؤ على قطع يد فاطمة .. !!

[JUSTIFY]«ساعدونا.. الشارع ضيق».. عبارة بليغة- في تقديرنا- كتبها أحد سائقي مركبات النقل العام على الواجهة الخلفبة لمركبته، رأيناها تتهادى ذات مساء في شارع المك نمر.. ما أن وقع بصرنا عليها حتى استدعت ذاكرتنا مقالاً سابقاً لنا نُشر في هذه الصحيفة قبل عدة أشهر تحت عنوان «لمتين أيها السادة» بيَّنا فيه مشاكل ومعوقات المرور والنقل العام بعاصمة البلاد وتداعياتها السلبية.. و كيف أن ضيق الطرق والمعابر يعدان من أكبر هذه المشاكل..

رأينا في هذه العبارة الكثير مما يمس بعضاً من هموم الناس الحيوية.. كان أول ما تبادر الى ذهننا أنها صيحة استغاثة أشبه بصرخة شخص «مركوك» و «الزول المركوك» عبارة دارجية شائعة الاستعمال في بعض أجزاء شمال البلاد، ويقصد بها الشخص المشرف على الغرق وهو يكابد للنجاة.. كما رأينا فيها مزيجا من الشكوى و الخوف والقلق..

قد يسأل سائل ما الذي يدعو سائق «حافلة» في مدينة الخرطوم الى أن يشكو و يخاف و يقلق؟ وأن يستغيث في نهاية المطاف..

نأمل في السطور القادمة أن نبين لماذا، ومما يشكو وممن ولمن يشكو؟ ولماذا ومما يخاف ويقلق؟ ولماذا وبمن يستغيث هذا السائق؟..

السائق إما أن يكون أجيراً أو مالكاً للناقلة.. و لكل منها أسبابه ودوافعه التي وصلت به الى هذه المرحلة من التعقيد والتي تجبره على الاستغاثة..

إن شكوى السائق من ضيق الطريق واضحة لا لبس و لا غموض فيها .. طريق ضيِّق يقلل من متوسط سرعة ناقلته، ومن طاقتها الناقلة الفعلية، وانخفاضاً في عدد الرحلات الدائرية.. والرحلة الدائرية تعرف بالرحلة من نقطة الانطلاق والعودة اليها ويسميها سائقو مركبات النقل العام بالـ «الفردة».. انخفاض عدد «الفرد»- أي الرحلات الدائرية- يقود الى الشكوى والخوف والقلق والاستغاثة.. لأنه يعني انخفاضاً في الإيرادات اليومية قد يؤدي الى عدم رضا مالك الناقلة عن أدائه، وربما الى فقدان وظيفته التي قد يصعب الحصول على بديل لها في زمن انحسرت فيه الاستثمارات الجديدة، وانعدمت فيه فرص التوظيف رغم أحلام و أوهام وزير الاستثمار بجذب مستثمرين تهفو قلوبهم للاستثمار في السودان.. كما أنها قد تشكل نقطة سالبة في سيرته المهنية، قد تعوق فرص الحصول على وظيفة جديدة إن وجدت.. ثم تبدأ بعدها سلسلة طويلة من الهموم محورها تدبير المعيشة ودفع المخاطر الخطيرة الأخرى التي قد تتبع ذلك..

ممن يشكو؟.. إنه يشكو من أطراف عدة.. يشكو من المسؤولين عن البنية التحتية والتخطيط العمراني، اللذين يشيدون طرقاً ضيقة في بلد ما زال «حدادي مدادي» حتى بعد أن بتر ربعه.. طرقاً ضيقة رديئة التصميم سيئة التنفيذ، صيانتها باهظة التكاليف تظهر فيها «الحفر والمطبات» قبل أن يهنأ المستخدمون باستخدامها.. ولا يحرصون على صيانتها.. و يشكو من حكامٍ غفلوا عن قولة الفاروق عمر الشهيرة.. ويشكو من سائقي المركبات الأخرى اللذين يشاركونه استخدام الطريق.. فبدلاً من أن يفسحوا الطريق للآخرين يعترضون طريقه عمداً و يزيدون من ضيقه.. ويشكو من أخوة مسلمين له يشاركونه الوطن بدلاً عن إماطة الأذى عن الطريق يلقون بمخلفات مبانيهم، وبقايا مواد بناء بيوتهم في أطراف الطريق و لا يأبهون لإزالتها.. ويشكو من آخرين يعرضون بضائع صينية رديئة الصنع سريعة العطب، تتسرب عبر الموانىء والمطارات في قارعة الطريق.. يعيقون المركبات والمشاة على حد سواء.. و يشكو من حرائر دفعتهم الفاقة لإنشاء مقاهي في مجرى الطريق الرئيسي.. مقاهي لا تتوفر فيها مياه جارية لغسل الأواني ضماناً لصحة رواد هذه المقاهي التي أصبحت سلوى للجيوش الجرارة من العاطلين عن العمل طول النهار وأطراف الليل وبعد الظهر.. ولا مجاري لتصريف مخلفات صناعة الشاي والقهوة.. يزيدون من هموم وزير للصحة لا يكاد يفيق من أزمة حتى يقع في أخرى أكبر منها.. إن كان يهتم.. ويشكو من سلطات المحليات التي لا تعير الأمر اهتماماً.. ويشكو من مركبات تجري على ثلاث ملوثة للبيئة وقليلة الفاعلية في مدينة أحوج ما تكون الى نظام نقل عام أفضل.. ويشكو من سلطات المرور التي سمحت لمثل هذه المركبات باستخدام الطريق رغم مساوئها التي لا يخطئها ذو بصيرة ودراية بهذا الأمر.. و لم تفلح في ضبط استخدام الطريق رغم ما توفر لها من موارد «مجنبة» لسنين عدة ورغم الأعداد الهائلة من منسوبيها الذين يقومون بعملٍ مضنٍ في طرقات المدينة في ظروف بيئية خطيرة..

لمن يشكو؟.. لأنه مغلوب على أمره لا يرى أمامه إلا أن يكتفي بشكوى من يريد أن يشكوهم الى الله كما يفعل ولاة أمره الذين يتسترون، ولا نقول يسترون ناهبي أموال الفقراء.. الذين إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد.. ولا أحد منهم يجرؤ على قطع يد فاطمة رغم مجوج حديث عن تطبيق شرع الله واتباع سنة نبيه عليه الصلاة والسلام..

ومالك الناقلة له فوق هموم السائق هموم وهموم.. هو من صغار المستثمرين.. ربما قد اقتني «الحافلة» مستخدماً «تحويشة العمر» أو بائعاً لمصوغ شريكة عمره التي كانت مهراً لأحلام ببناء أسرة سعيدة.. حلم سوداني بسيط غاية مبتغاه سترة الحال أفسده الشارع الضيق فجأة وحوله الى كابوس مريع.. أو مغترباً عن الوطن لسنين في بلاد استجاب الله فيها لدعاء سيدنا ابراهيم عليه السلام.. مواطن نزيه شفاف ونموذج يقتدى به.. (at the out set) دون أن يطلب منه أحد يشهر إقرار ذمته المالية على

واجهتها الخلفية «حصاد الغربة».. وكأني به يتحسب لأن يسأل يوماً «من أين له هذا؟»..

كمستثمر صغير لا حول له سوى ناقلة هي كل رأس ماله.. قيمتها الدفترية تساوي صفراً ومتبقي قيمتها التجارية (Residual Value) يحددها وسطاء البيع «السماسرة» بمعايير لا يستوعبها عقل ولا منطق.. عليه المحافظة عليها في حالة فنية جيدة طول الوقت، لأنها تقوم بعمل شاق.. وهو أمر ضروري لأن كل «الحافلات» التي تجري في طرق الخرطوم لا يقل عمر اي منها عن خمسة عشر عاماً.. عليه صيانتها بصورة منتظمة.. يدرك أهمية الصيانة، الوقاية، والدورية، وإعادة التأهيل رغماً عن أنه لم يدرس الهندسة الميكانيكية.. لكن.. ليس بيده حيلة .. لا يمكنه تخصيص ميزانية للصيانة كالخطوط الجوية الألمانية لأن «الشارع» ضيق والإيرادات بالكاد تكفي مصروفات التشغيل اليومية، والقليل لمقابلة فواتير الأسرة اليومية.. وإن توفر له المال لا يجد قطع غيار أصلية، لأن قطع الغيار المتوفرة في السوق مقلدة.. أما في جمهورية الصين الوطنية أو الشعبية.. تتسرب عبر الميناء رغماً عن أنه يتحمل عبء جبايات فلكية يدفعها لجهات عهد اليها بثقة مفرطة ضبط المواصفات القياسية لقطع غيار ناقلته المستوردة، وكان ظنه أنهم أحرص على سلامة العباد وأموال البلاد..

أمر يغض مضجعه ليلاً حين يأوي الى فراشه بعد معركة النهار اليومية.. ما الذي قاده للدخول في هذا الاستثمار المهلك للمال؟.. أين اخطأ؟.. تكاليف التشغيل في ارتفاع مستمر والعائد غير مجز.. لا يستطيع تسعير خدماته كما يفعل القصاب، وبائع الخضار، وملاك المدارس، والمستشفيات الخاصة، و مجموعات الشركات القابضة والمحدودة.. «التكلفة + هامش ربح» (cost+margin.. و يحدثونه عن تحرير الاقتصاد والأسعار ورفع الدعم عن المحروقات.. فالحكومة تدفع سخط الركاب برأس ماله.. فهو في الواقع يدعم تعريفة المواصلات نيابة عنها رغم أنف صندوق النقد الدولي، الذي لا يرضى عن حكوماتنا مهما فعلت.. اسئلة يعجز عن إيجاد إجابات لها تدور في رأسه قبل أن يهمد جسده المنهوك ويخلد للنوم.. ما عسى هؤلاء القوم فاعلون بعد أن تتوقف «الحافلة» وبقية اسطول «الحافلات» المتهالك؟.. اتراهم سيجلبون «بصات» جديدة من الشعبية يزيدون بها الشارع ضيقاً على ضيق؟ ويطلبون لها قطع غيار بعد ستة أشهر؟.. ما دهاهم يوالون الشعبية ويعادون كل ما هو شعبي؟.. هل يبيع ترخيص الخط مثلما تفعل شركات الطيران؟ ويكتفي بعائد البيع ليكون بمثابة «اخر يده» كما يقول حكماء موائد القمار؟.. قطعاً سيمتص الوسطاء والسماسرة جزءاً من عائد البيع.. لا بأس.. فالحكمة القديمة تقول عندما تكون في روما أفعل ما يفعله الرومان..

الحل يكمن في اطلاق استغاثة في الشارع الضيق إن كان ثمة مغيث.. على استحياء يسطر صرخته على ظهر «الحافلة».. لعل وعسى.. لو كان في أمريكا لهان الأمر.. فهناك يهب الحكام لنجدة وإغاثة الاستثمارات المهمة عامة أم خاصة، متى ما دعت الحاجة لذلك.. أو ليس «حافلة» تنقل مئات الأشخاص يومياً في الخرطوم عاصمة السودان استثماراً مهماً؟.. هبت الإدارة الأمريكية في بداية فترة رئاسة الرئيس اوباما الأولى لإنقاذ المصارف ومصانع السيارات التي كانت على شفا الانهيار، فدعمها بمليارت الدولارات كي تنهض من عثرتها.. لم يكن مكرهاً.. كما لم يكن بطلاً.. فالأمريكان الكفار- كما يسميهم بضع منا دون بقية «خواجات» الدنيا- ضمنوا دستور بلادهم ما يلزم حكامهم بانقاذ القطاعات المهمة في اقتصادهم.. ومرت علينا أزمنة ويمر علينا زمان تقف فيها الحكومة «متفرجة» على بعض منشآتنا الاقتصادية وهي تنهار الواحدة تلو الأخرى.. و يتبعثر آلاف العمال والفنيين والإداريين في بقاع الأرض.. ذهبت الخليج العالمية ادراج الرياح.. أربعة عشر مصنعاً اقفلت أبوابها.. وانهارت شرف العالمية.. ومن قبلهما مشروع الجزيرة، وهيئة سكك حديد السودان، والخطوط البحرية السودانية، والحكومات «تتفرج».. وها هو مصنع اسمنت ربك يستغيث مثله وما له من مغيث.. حكومات مشغولة بهموم قادتها الخاصة.. وما ينفع الناس لا يمكث في أرض بلد تعج بالغافلين ولا مكان له وسط أولوياتهم..

فحسبه وحسبنا جميعاً الله.. وهو نعم الوكيل.

صحيفة آخر لحظة
غازي عبد الرحمن طه

[/JUSTIFY]
Exit mobile version