(1)
حسناً.. كل ما سقته سابقاً من حديث كان ضرورياً كمدخل لمعرفة طبيعة العلاقة التي تجمع البلدين اليوم والتوتر البائن لكل مراقب الآن، ولماذا تستمر مصر أو السياسي المصري ينظر للسودان كما قال لي بعض مثقفيهم «كالحديقة أو الفناء الخلفي لمصر»، وعلى الرغم من المد والجزر الذي مرت به العلاقة مع مصر منذ الاستقلال مروراً بعهد التعددية الثانية «المحجوب، والأزهري» وما قامت به الحكومة حينها من تقديم للدعم وحشد للعرب في صف مصر إبان النكسة 1967م، وتلاه عهد النميري، وربما شهدت العلاقات بين البلدين نوعاً من الرتابة أو التوتر إبان التعددية الثالثة أيام المهدي. أما في عهد الإنقاذ فقد برز الود وبرز الغضب وبرز التوتر وبرزت القطيعة كل فترة بشكل، ولكن والحق يقال فإن كل الفترات قبل الإنقاذ لم تستطع أن تنتزع أي شكل من أشكال الدعم من الحكومة المصرية، أما في بداية عهد الإنقاذ فقد نجحت الأخيرة فيما فشل فيه الكثيرون ممن سبقوها في حكم السودان، حيث استطاعت أن تسقي مصر من ذات الكأس الذي ظلت تسقينا لها على الدوام، فكانت مصر إبان مبارك أكبر مسوق للنظام الجديد في السودان في أول أيامه، وحاولت الإنقاذ الاستفادة من حالة الفتور السابقة بين مصر وحكومة المهدي، ونجحت في تثبيت أركانها واكتساب الشرعية الإقليمية والعربية، عبر البوابة المصرية، وعندما نشبت حرب الخليج الثانية بدأت شرارة التوتر، فالسودان اتخذ موقفاً داعماً للعراق، بعكس مصر التي أيدت الكويت، وتواترت أنباء حينها عن نشر العراق لصواريخ، موجهة إلى مصر في السودان، فهدد الرئيس مبارك بضربها، إذا ما ثبت صحة ذلك، وأدّى هذا الموقف إلى توتر حاد في العلاقات، وبدأ التوتر في التصاعد بتكوين الأحزاب المعارضة للتجمع الوطني وانضمت إليه لاحقاً الحركة الشعبية، ووجد في أرض مصر ملاذاً جيداً له، وعندما حدثت المحاولة الفاشلة لاغتيال مبارك بإثيوبيا، انقطعت العلاقات تماماً بين البلدين، ولكن يبدو أن بعض المصالح المشتركة التي تجمع كالمياه تحتم على مصر والسودان تقديم بعض التنازلات، فلجأت الإنقاذ عقب ازدياد الضغوط الإقليمية والدولية على مصر لتهدئة الموقف، وهو ما تم عقب لقاء البشير مبارك على هامش مؤتمر القمة العربي في 1996م.
(2)
وبمضي نظام مبارك، توقع الجميع كل الخير للعلاقات بين البلدين، خصوصاً وأن البديل نظام إسلامي، وظن جميع المراقبين في البلدين أن تسلم الإخوان لمقاليد السلطة في مصر يخدم تلقائياً العلاقات، خصوصاً إذا أضفنا أنه ليس من مصلحة مصر حدوث أي توتر مع السودان، باعتبار أن كل المصالح الإستراتيجية الكبرى لمصر تستعصم بأرض السودان، مصالح تتعلق بالأمن القومي المصري بمفهومه الشامل، عسكرياً واقتصادياً، فالحلول الناجعة لأزمات مصر تكمن في علاقات قوية مع السودان، إلا أن هناك رأياً مخالفاً يرى أن أي تحالف بين النظامين قد يجد مقاومة من بقايا نظام مبارك التي ما زالت متنفذة، كما أن مرسي قد يجد حرجاً وهو يقيم تحالفاً مع الخرطوم مع أن أمريكا ما زالت أكبر مانح للمعونات لمصر، وهي لا تحبذ أي تحالف يتعدى المستوى الفاتر إبان عهد مبارك، وعلى الرغم من أن أوجه الشبه هي الغالبة من الناحية النظرية بين النظامين الحاكمين، لكن عملياً فإن أوجه الاختلاف قد تكون غالبة ــ ربما مؤقتاً ــ في ظل تعقيدات النظام الدولي وتقاطع المصالح الدولية في المنطقة، ونجد أن قضية حلايب المحتلة تظل من أكبر الكبوات للعلاقات بين البلدين بلا منازع، وتعتبر في الكثير من الأحيان مقياساً للتوتر، فمتى ما كانت هي منطقة للتكامل فالعلاقات جيدة، ولكن عندما تتصاعد الأصوات المنادية بسودانية حلايب وضرورة أن يتم حسم الأمر فتعلم تلقائياً أن هناك تشنجاً في العلاقات، وإذا قسنا على ذلك ما يحدث هذه الأيام من تصريحات من الجانب السوداني، فسيعلم الجميع أن هناك توتراً في العلاقات، فتصريحات السفير السوداني بالقاهرة العنيفة عن قلق الحكومة البالغ إزاء وجود المعارضة المسلحة للنظام السوداني بالقاهرة والاتهامات المتبادلة بين البلدين بشأن الفشل في مكافحة الجراد جزء من هذه الأزمة المكتومة، أضف إليها حديث مسؤولين بارزين بالخارجية عن أن الحريات الأربع معطلة من الجانب المصري، على الرغم من أن السودان نفذ ما يليه تجاه الاتفاق، إضافة لمشكلة المعدنين السودانيين الذين ألقت السلطات المصرية القبض عليهم قرب الحدود بين البلدين، أضف لذلك تأجيل افتتاح الطريق الذي يربط بين البلدين رغم اكتماله قبل فترة طويلة، وتكون جميع أسباب التأجيل غريبة أحياناً، والسودان عند مجيء مرسي مد أياديه بيضاء تجاه مصر ابتداء من حل أزمة اللحوم في مصر، وانتهاء بفتح باب الاستثمار الزراعي في أية مساحات تريدها مصر في السودان، وكان كعادته ينتظر الوفاء من الجانب المصري ولكن دون فائدة، ويرى أستاذ العلوم السياسية د. صفوت فانوس عندما سئل عن توقعاته للعلاقات عقب وصول الإخوان للحكم في مصر في حديث سابق له، يرى أن بلوغ الإسلاميين للسلطة لا يعني زوال الحساسيات القائمة بين الدولتين، وتوقع بروز قدر كبير من التباين تجاه العلاقات الدولية والإقليمية، وقال: «لا أتوقع أن يكون مرسي على استعداد للدخول في عداء مع إسرائيل في المدى القريب».
حسناً يبدو أن التوتر سمة بارزة الآن على الرغم من أن الحكومتين تحاولان التنصل من ذلك بنوع من الدبلوماسية التي قد لا تجدي في مثل هذه الحالات، ولكن لا بد من جلوس البلدين وحل كل القضايا المسكوت عنها لأن ما يجمع أكبر مما يفرق.
صحيفة الإنتباهة
معتز محجوب