ووسط مسيرة الحكم هذه المليئة بالثقوب والأخطاء التاريخية وثبات نظام الخرطوم على موقفه وتجاهله كل النداءات سواء من داخل الحزب الحاكم أو من الشعب مطالبة بضرورة الإصلاحات، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية تجديدها للعقوبات كنتيجة حتمية لفشل السودان في عملية الإصلاح السياسي.
آثار العقوبات ومعاناة السودانيين استخدمت الولايات المتحدة أنواعا عديدة من العقوبات كحل من أجل الضغط على حكومة السودان بغرض تغيير خياراتها. وقد تنوعت العقوبات بين الدبلوماسية، حيث درجت الإدارة الأميركية على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الخرطوم مرارا عندما تصل الخلافات بين الحكومتين إلى مداها، وعندما تهدأ الأمور تكتفي بتعيين ممثل لها من عاصمة قريبة لمتابعة إجراءات الهجرة وغيرها. ” تظل العقوبات الاقتصادية هي الأكثر تأثيرا لأنها تمس المواطن السوداني مباشرة وتنهك قواه، حيث أثرت على البنى التحتية خاصة عندما اجتمع معها الفساد في سياسات الحكومة “كذلك كانت العلاقات السياسية التي تنضوي تحتها كل أنواع العلاقات والمقاطعات الأخرى، ثم العلاقات المالية والتجارية والاقتصادية، حيث تم حرمان السودان من الاستفادة من المعونات وتمويلات الصناديق الدولية والتعامل مع الشركات الصناعية العالمية مما أثر سلبا على كثير من الصناعات السودانية المحلية.
ولكن تظل العقوبات الاقتصادية هي الأكثر تأثيرا لأنها تمس المواطن السوداني مباشرة وتنهك قواه، فأثرت على البنى التحتية خاصة عندما اجتمع معها الفساد في سياسات الحكومة الذي أدى بدوره إلى انتشار الفقر وتدني المستوى المعيشي، وغياب الرعاية الصحية، وانتشار الأمراض والأوبئة وتراجع المستوى التعليمي وتفشي البطالة بسبب الفساد الإداري ونسبة لغياب الاستثمار.
عملت هذه العوامل مجتمعة على الانهيار القيمي والمعنوي للمجتمع السوداني، وأدت إلى انفصام بين نظام الحكم ومواليه من جهة والشعب السوداني من جهة أخرى، مما قد يؤدي إلى سقوط المؤسسات السياسية والأمنية واحدة تلو الأخرى.
ما زالت مطلوبات الإدارة الأميركية من السودان كما هي ومنذ بداية العقوبات منذ تسعينيات القرن الماضي تدور في ثلاثة محاور، هي قضية المنظمات الإنسانية التي طردت وإمكانية استبدال أخرى منها من أنحاء العالم المختلفة، وتطبيق اتفاقية السلام الشامل بأكملها لأن الاتفاقية كانت حجر أساس لحل مشاكل أخرى مثل إقليم دارفور ربما تؤدي إلى تجديد الحرب في الإقليم، ثم إيجاد سلام شامل في دارفور يبدأ بالحوار مع الفصائل الدارفورية غير الموقعة على اتفاقية أبوجا.
إن لتجديد العقوبات الاقتصادية أثرا سالبا على الاقتصاد السوداني بعد انفصال دولة الجنوب وبعد فقدان السودان لمعظم إنتاجه النفطي، وقد كان بإمكان السودان أن ينتهز الفرصة السانحة بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005 لرفع العقوبات، غير أنه لم يفعل.
معيار العقوبات في السودانين وصلت العلاقة الدفاعية الراسخة بين الولايات المتحدة والسودان إلى طريق مسدود، فلم تفلح الجهود في إقناع الحكومة بالإصلاح، ولم تنجح التدخلات الإقليمية والدولية في إيقاف العنف المتزايد بالإضافة إلى نجاح الحكومة في زيادة رصيد العداء، ليصبح بينها وبين شريحة كبيرة من الشعب السوداني، وبينها وبين الولايات المتحدة الأميركية.وبما أن لعبة السياسة الدولية تقوم على عنصر القوة، فإن توظيف أميركا لهذه القوة ابتداء من القوة العسكرية والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مسنودة بشرعية دولية نجحت كورقة ضغط وتأثير لتحقيق أهدافها ومصالحها في السودان والمنطقة بإقليميها الأفريقي والعربي.
أدانت الحكومة السودانية سلوك الإدارة الأميركية المتمثل في إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي أصدره في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2012، بأن تجديد العقوبات الأحادية الأميركية المفروضة على السودان لعام آخر يصب دوما في مصلحة جماعات التمرد المسلح.
كان الرئيس الأميركي قد قال في رسالة بعث بها إلى رئيسي مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين إن الظروف التي أدت إلى فرض العقوبات على حكومة السودان في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1997 لا تزال قائمة، وإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السودانية ما زالت تمثل سياسة معادية لمصالح الولايات المتحدة وتشكل تهديدا غير عادي واستثنائيا للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ولكن الحكومة السودانية ترجمت الإعلان مما في خزانتها من مفردات جاهزة لمثل هذه الظروف، مثل الإكراه السياسي والاقتصادي والضغوط من أجل تقديم تنازلات بشأن مواقف الخرطوم السياسية خاصة تلك التي تتصل بمشاريع الهيمنة الأميركية في المنطقة. واستنكر بيانها تجديد العقوبات رغم إيفاء السودان بما التزم به مقابل نكوص الإدارة الأميركية عن وعودها برفع العقوبات.
” بينما جددت أميركا العقوبات على السودان عاما آخر, رفعتها عن جنوب السودان, بدعوى أنها دولة جديدة ولا تقع في أراضي السودان أو تحكم بحكومته “وقد عزت الحكومة السودانية تجديد العقوبات الاقتصادية على السودان لأسباب تتعلق بموسم انتخابات الرئاسة الأميركية، وذلك بإبراز التصدي للسودان باعتبارها دولة تتوفر فيها ثلاثة شروط لتحقق بها أحد كروتها الانتخابية.
وهذه الكروت هي أنها تتخذ من النهج الإسلامي طريقة حكم، وأنها غير حليفة لإسرائيل، وأنها كانت تؤوي أسامة بن لادن. أما المثير للاستعجاب فهو تحليل نائب رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني الخبير الاقتصادي د. بابكر محمد توم بأن العقوبات الاقتصادية جاءت نتيجة لثأر اقتصادي أميركي من السودان بسبب توقف شركة شيفرون عن الاستثمار النفطي في السودان، وعزا هذه الضغوط لرغبتهم في أن يعودوا مرة أخرى للاستثمار في هذه السلعة السياسية الاقتصادية.
ومما زاد من اعتراض واستنكار الحكومة السودانية على القرار أن تأكيد استمرار العقوبات على شمال السودان ارتبط برفعها عن دولة جنوب السودان في نفس التاريخ. ولم تكتفِ بالاعتراض بل ذكرت أن أي انهيار للاقتصاد في شمال السودان ستترتب عليه آثار سلبية في جنوب السودان. وبررت الإدارة الأميركية رفع العقوبات الاقتصادية عن دولة جنوب السودان بعد استقلالها في 9 يوليو/تموز 2011 بأنها دولة جديدة ولا تقع في أراضي السودان أو تحكم بحكومته.
سيكون هناك حديث آخر للإدارة الأميركية بعد تفعيل اتفاق الحريات الأربع بين دولتي شمال وجنوب السودان وذلك نسبة للترابط والتكامل الاقتصادي المتوقع حدوثه بين الدولتين، مما يستوجب النظر بعين الاعتبار إلى قرار مواصلة العقوبات للسودان وإعفائها لدولة الجنوب.
إستراتيجية تفادي العقوبات يبدو أن الحكومة السودانية لا تعير صورة السودان خارجيا اهتماما كبيرا، لذلك لم تقم بتدعيم الدبلوماسية والمفاوضات السرية للوصول إلى نقطة توازن بين المطالب بإصلاحات سياسية وإنهاء العقوبات، فهي لم تفعل ما يحفز على تغيير الذهنية الأميركية تجاه السودان، وتركت الأمر لرجال حول رئيس الجمهورية يبثون تصريحاتهم غير المسؤولة على الهواء الطلق، بالإضافة إلى دور الرئيس البشير في تضخيم الأنا الحكومية الرسمية والخطب الاستهلاكية.إن قرار تمديد العقوبات عاما آخر سيفاقم من معاناة السودان، كما سيؤثر على إمكانية معالجة المشكلات الاقتصادية وجهود إحلال السلام في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة.
بعد نحو خمسة عشر عاما من العقوبات التي أضعفت البلاد وأرهقت العباد، أصبح السودان بلدا مهشما، تعصف به الصراعات دون أن تبدي الحكومة استعدادا يذكر من أجل إصلاحات حقيقية.
كانت لهذه العقوبات آثار بعيدة المدى على توازن القوى الداخلية في السودان، فقد قوت بشدة مماطلة الحكومة في الإصلاح ومحاربة الفساد، وأثارت هذه العملية الشعب السوداني ضد سيادة وشرعية الدولة ومكنت الحكومة من شق صفوف المعارضة ثم محاربتها منفردة.
من الممكن العمل وفقا لإستراتيجية تنوع الاستثمارات وعدم حصرها في دولة بعينها، فالمقاطعة الاقتصادية الأميركية ساهم فيها اعتماد السودان على المنتجات الأميركية في وقت من الأوقات، مثل تصدير أو استيراد السلع من وإلى السودان، والتعامل في مجال التكنولوجيا والخدمات بين الدولتين.
ولكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الاستثمار لا يكون بعمليتي الإحلال والإبدال، باستبعاد أميركا وتقريب الصين مثلا، لأن العقوبات ستتحول من أميركية إلى عقوبات صينية، فتكون قد تبدلت الدولة ولكن الوسيلة والنتيجة واحدة، فوجهة السودان نحو الشرق تحتاج إلى أن يدعمها تعامل مع الغرب أيضا.
إن الإستراتيجية الناجحة لا تكون إلا برعاية المصالح التي تحتاج إلى دراسة عميقة توضع فيها السياسات الاستثمارية القائمة على التنوع كي تحقق مصالح مشتركة بين السودان وشركات عالمية أخرى أوروبية أو مجموعة دول أميركا اللاتينية.
ربما يبدو من المناسب من وجهة نظر المعارضة المدنية والمسلحة ترك السياسات الأميركية تأخذ مجراها حسب اعتمادها على الشروط الإصلاحية، وهي التي ستحدد مستقبل علاقة الولايات المتحدة مع السودان.
بيد أن هذه المقاربة لن تكون سليمة، على اعتبار أن هدف المعارضة هو إسقاط نظام الحكم القائم واستبدال نظام ديمقراطي منه، فمن المفترض أن تتطابق توجهات المعارضة مع حقيقة العقوبات النافذة حاليا دون سقف زمني يمكن أن تضمنه المعارضة أو الحكومة.
فبمثل ما تطالب الولايات المتحدة الأميركية الحكومة السودانية بتطبيق الإصلاح، على الولايات المتحدة أيضا أن تشجع على هذا الإصلاح. ومع ذلك يتعين على الحكومة السودانية والمعارضة الاتفاق مسبقا على معايير هذا الإصلاح من خلال الحوار والتفاوض.
المطلوب الآن وضع منظومة حل تشمل المواقف الخارجية باتباع سياسة جديدة من العلاقات الدولية، والداخلية مثل الوصول إلى سلام في مناطق النزاعات بالإضافة إلى إشاعة الحرية وتحقيق الحكم الراشد.
” لن يصبح السودان مؤهلا لإعفائه من ديونه لدى أميركا إلا عند استناده على التزامات واشنطن تحت مبادرة “الهيبك” التي تتيح للدولة المثقلة بالديون إمكانية التخلص من أعبائها بعد الإيفاء بمتطلبات إصلاحية معينة “ومن المتوقع أن تأخذ الحكومة السودانية وقتا طويلا لتظفر بأحد الحلين. إما أن تواصل في سعيها لتحقيق الإصلاح أو تنتظر ما أعلن عنه القائم بالأعمال الأميركي في الخرطوم جوزيف ستافورد في الأسبوع الأول من فبراير/شباط الجاري، وهو أن بلاده بدأت تنظر في إجراء تغييرات على نظام العقوبات المفروضة على السودان، فيما يتصل بالتعليم مما سيسمح بالتعامل المباشر بين الجامعات والمعاهد في البلدين قريبا، بعد السماح للشركات الأميركية بالاستثمار الزراعي، وإدخال المعدات والأجهزة الطبية.
وليست العقوبات الاقتصادية وحدها، ولكن أيضا عدم مقدرة السودان على الوفاء بديونه الخارجية، وجزء منها لصالح نادي باريس ثم بنوك تجارية ومؤسسات دولية وإقليمية مختلفة. أما ديون الولايات المتحدة الأميركية وحدها للسودان فتبلغ 24 مليار دولار بحلول السنة المالية 2013، وذلك حسب مشروع الموازنة الأميركية وتوقعات وزارة المالية الأميركية.
لن يصبح السودان مؤهلا لإعفائه من ديونه لدى الولايات المتحدة الأميركية إلا عند استناده على التزامات واشنطن تحت مبادرة “الهيبك” التي تتيح للدولة المثقلة بالديون إمكانية التخلص من أعبائها بعد الإيفاء بمتطلبات إصلاحية معينة.
يجب أن يتم الإصلاح عن طريق الموازنة بين الحاجة إلى الإصلاح السياسي والمصالح الإستراتيجية، أما الآليات الكامنة وراء مأزق العقوبات هذه فقد أثبتت عجز الحكومة عن إجراء إصلاحات مهمة عبر الحوار أو المشاركة السياسية، ولذلك فهي تخسر الدعم الشعبي الداخلي قبل أن تخسر علاقتها مع أميركا.
منى عبد الفتاح
الجزيرة نت [/JUSTIFY]